·ما هي حدد المعرفة بالعقل؟ وما العتبات المطلقة للحواس الخمس؟
العقل هو أساس الجهاز الإدراكى البشرى فهو في القلب يشبه المعالج في الكمبيوتر، والحواس تشبه وسائل إدخال المعلومات أو إخراجها، والمخ فيه ذاكرة الإنسان أو ما يشبه القرص الصلب.
والله عز وجل قد خلق الإنسان بجهاز إداركى محدود، تحقيقا لعلة معينة، تمثلت في الابتلاء كما قال تعالى: (إِنَّا خَلقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (الإنسان:2).
وقد أجريت التجارب والدراسات الحديثة، لتقدير القيم التقريبية للحدود المعينة في المؤثرات الخارجية التي يستقبلها الجهاز الحسي والإدراكى في جسم الإنسان، والتي يطلقون عليها في علم النفس العتبات المطلقة للحواس الخمس فوجدوا الحقائق التالية:
1-أن البصر يدرك به العقل صورة شمعة مضاءة ترى على بعد 30 ميلا في ليل مظلم.
2-أن السمع يدرك به العقل صوت دقة ساعة في ظروف هادئة تماما على بعد 20 قدما.
3-والتذوق يدرك به العقل ملعقة صغيرة من السكر مذابة في جالونين من الماء.
4-الشم يدرك به العقل نقطة عطر منتشرة في غرفة مساحتها 6 أمتار مربعة.
5-وحاسة اللمس يدرك جناح ذبابة يسقط على الصدغ من مسافة 1 سم تقريبا.
فإذا كان الجهاز الإدراكى في الإنسان بهذه الصورة في الدنيا فمن الصعب أن يرى ما وراء ذلك، كالذي يحدث في القبر من عذاب أو نعيم أو يرى الملائكة أو الجن أو عالم الغيب، أو يرى ذات الله وصفاته من باب أولى، ومعلوم أن عدم رؤيته لهذه الأشياء لا يعنى عدم وجودها فالجن مثلا جهازه الإدراكى يختلف عن الإنسان من حيث القوة. قال تعالى في وصفه: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (الأعراف:27).
وموسى عليه السلام لما طلب رؤية الله لم يكن الجواب باستحالة الرؤية أو نفيها مطلقا، ولكن النفي معلق بانتهاء الحياة الدنيا، فإن الشيء لا يرى لسببين:
1 خفاء المرئي وهو ممتنع في حق الله. 2 ضعف الجهاز الإدراكى للرائي.
وهذا هو شأن موسى عليه السلام، ولذلك تجلى الله للجبل الذي يتحمل أقصى درجة ممكنة من ضوء الشمس والذي لا يتحملة الإنسان أكثر من تسع دقائق تقريبا، قال تعالى:
(وَلمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّهُ قَال رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِليْكَ قَال لنْ تَرَانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي، فَلمَّا تَجَلى رَبُّهُ لِلجَبَلِ جَعَلهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً، فَلمَّا أَفَاقَ قَال سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِليْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ) (الأعراف:143).
فمن الخطأ طلب البحث عن كيفية الأمور الغيبية أو الذات الإلهية أو صفاتها في الدنيا، لأن النواميس التي أوجدها الله في الكون لا تسمح بذلك اللهم إلا إذا حدث خرق للعادة كأن يرى بعض الرسل الملائكة أو الجنة أو النار أو بعض أمور الغيب أو ما يعجز الإنسان العادي عن إدراكه.
كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه البخاري: (قَالتْ عَائِشَةُ: خَسَفَتْ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ فَقَرَأَ سُورَةً طَوِيلةً .. لقَدْ رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُل شَيْءٍ وُعِدْتُهُ، حَتَّى لقَدْ رَأَيْتُ أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنْ الجَنَّةِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلتُ أَتَقَدَّمُ، وَلقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ).
أما في الآخرة فالأمر مختلف تماما، إذ أن مدركات الإنسان في الآخرة تختلف عن مدركاته في الدنيا كما صح الخبر عن رسول الله بذلك في الحديث المتفق عليه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ قَال:
(خَلقَ اللهُ آدَمَ عَلى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلمَّا خَلقَهُ قَال: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلى أُولئِكَ النَّفَرِ مِنْ المَلائِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَال: السَّلامُ عَليْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلامُ عَليْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلى صُورَةِ آدَمَ، فَلمْ يَزَل الخَلقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ).
فالإنسان يوم القيامة على صورة آدم طوله ستون زراعا، ومن أجل ذلك فإن مداركه وحواسه تتغير بالكيفية التي تناسب أمور الآخرة.
فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم كما ورد في صحيح البخاري عن جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَال: (كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ فَنَظَرَ إِلى القَمَرِ ليْلةً يَعْنِي البَدْرَ فَقَال إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلبُوا عَلى صَلاةٍ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل الغُرُوبِ).
فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم علمنا أن إدرك العين المبصرة في الدنيا وقدرتها تختلف عن إدراك العين المبصرة في الآخرة وقدرتها على الرؤية.
من أجل ذلك وجب الإيمان بالرؤية في الآخرة والتسليم بذلك لموافقته للعقل الصريح والنقل الصحيح، وكذلك الحال في بقية الصفات، فنؤمن بها ونثبتها لله دون أن نطلب كيفيتها.
أما العقل فأقصى حدوده أن يتعرف على وجود الله من خلال الأسباب، فهناك عدة أمور يدرك بها العقل حقائق الأشياء على وجه اليقين مدارك اليقين العقلي.