رابعا:من الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء التجريبيات.
وقد يعبر عنها باطراد العادات، وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة وأن الشمس مشرقة، وأن الماء ينزل من السماء فيحي الأرض بعد موتها، فهي سنن وعادات وتجربة وممارسات، ولذلك حذرنا الله من العصيان، بما حدث لأعدائه في سالف الزمان، كان مصيرهم الخسف والمسخ والصيحة والنبران فقال تعالى: (قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ) آل عمران. وقال تعالى: (فَهَل يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلينَ فَلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا وَلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلا).
وقال سبحانه: (وَإِنَّ لُوطًا لمِنَ المُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلهُ أَجْمَعِينَ إِلا عَجُوزًا فِي الغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الآَخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لتَمُرُّونَ عَليْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِالليْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) الصافات 138.
وقال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لهُمْ وَأَضَل أَعْمَالهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَل اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالهُمْ أَفَلمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَليْهِمْ وَلِلكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلى الذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لا مَوْلى لهُمْ) محمد 7/11.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِي صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ قَال: (لا يُلدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ).
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أن رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال: (إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلى الجَنَّةِ وَإِنَّ العَبْدَ ليَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا وَإِنَّ الكَذِبَ فُجُورٌ وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلى النَّارِ وَإِنَّ العَبْدَ ليَتَحَرَّى الكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا).
خامسا:من الأمور التي يدرك بها العقل الإدراك الذاتي لأفعال الحواس كالاعتراف.
روى مسلم عن ُبرَيْدَةَ بن الحصيب رضي الله عنه أنه قَال: (جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلى النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال: يَا رَسُول اللهِ طَهِّرْنِي؟ فَقَال: وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرْ اللهَ وَتُبْ إِليْهِ. قَال بريدة: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَال: يَا رَسُول اللهِ طَهِّرْنِي؟ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ: وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرْ اللهَ وَتُبْ إِليْهِ. قَال: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَال: يَا رَسُول اللهِ طَهِّرْنِي؟ فَقَال النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ مِثْل ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ الرَّابِعَةُ قَال لهُ رَسُولُ اللهِ: فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟ فَقَال: مِنْ الزِّنَى، فَسَأَل رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ أَبِهِ جُنُونٌ؟ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ ليْسَ بِمَجْنُونٍ، فَقَال: أَشَرِبَ خَمْرًا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، قَال بريدة: فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ: أَزَنَيْتَ؟ فَقَال: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ، قَائِلٌ يَقُولُ: لقَدْ هَلكَ، لقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا تَوْبَةٌ أَفْضَل مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ، أَنَّهُ جَاءَ إِلى النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَال: اقْتُلنِي بِالحِجَارَةِ.
قَال فَلبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ وَهُمْ جُلُوسٌ، فَسَلمَ ثُمَّ جَلسَ فَقَال: اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ. قَال بريدة: فَقَالُوا: غَفَرَ اللهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، قَال بريدة: فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ: لقَدْ تَابَ تَوْبَةً لوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لوَسِعَتْهُمْ.
قَال: ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنْ الأَزْدِ، فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ طَهِّرْنِي؟ فَقَال: وَيْحَكِ ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِليْهِ، فَقَالتْ: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، قَال وَمَا ذَاكِ؟ قَالتْ: إِنَّهَا حُبْلى مِنْ الزِّنَى. فَقَال: آنْتِ؟ قَالتْ: نَعَمْ. فَقَال لهَا: حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ. قَال: فَكَفَلهَا رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ. قَال: فَأَتَى النَّبِيَّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال: قَدْ وَضَعَتْ الغَامِدِيَّةُ. فَقَال: إِذًا لا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلدَهَا صَغِيرًا ليْسَ لهُ مَنْ يُرْضِعُهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَال: إِليَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللهِ، قَال بريدة: فَرَجَمَهَا).
فغاية ما للعقل النظر في الأسباب والتعرف على دلالتها، ولا يجوز للإنسان أن يتجاوز ذلك كما قال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا ليْسَ لكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).
لكن لو أردنا أن نتعرف على عالم الغيب وما يحدث في القبر من عذاب أو نعيم أو الملائكة أو الجن أو نتعرف ذات الله أسمائه وصفاته، فهل يصلح العقل لذلك، كما حاولت الجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتردية وغيرهم من أتباع الجهمية، سوف يقع في الضلال وسوف يقول على الله بالمحال، فلا بد من طريق آخر هو طريق النقل.