·الفقر الاضطراري فقر عام لا خروج لبر ولا فاجر عنه.
قال ابن القيم: (ولهذا كان الصواب في مسألة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون؛ فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة الإمكان. والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث. والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار، وفقر العالم إلى الله سبحانه أمر ذاتي لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته، ثم يُستدل بإمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأدلة على هذا الفقر.
والمقصود أنه سبحانه أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه سبحانه، كما أخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أنه غني حميد، فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي، والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي، فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيرا، ويستحيل أن يكون الرب سبحانه إلا غنيا، كما أنه يستحيل أن يكون العبد إلا عبدا، والرب إلا ربا، إذا عرف هذا فالفقر فقران:
1- فقر اضطراري: وهو فقر عام لا خروج لبر ولا فاجر عنه، وهذا الفقر لا يقتضي مدحا ولا ذما ولا ثوابا ولا عقابا، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقا ومصنوعا.
2 - فقر اختياري: هو نتيجة علمين شريفين أحدهما معرفة العبد بربه، والثاني معرفته بنفسه فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا فقرا هو عين غناه، وعنوان فلاحه وسعادته.
وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام.
ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل، فالله سبحانه أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئا ولا يقدر على شيء ولا يملك شيئا ولا يقدر على عطاء ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة، فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كماله أمرا مشهودا محسوسا لكل أحد).
أما من استغنى بماله أو جاهه أو ملكه وعصى الله ونازعه في أمره فإنه خرج عن حده من كونه عبدا فقيرا ومن شأنه الخضوع والافتقار إلى أن فطغى وبغى واغتر بعدم الحاجة والاضطرار، فأوقعه غرور الهوى في أن يرى نفسه مستغنيا عن غيره لا يفتقر إلى أحد في قيام وصفه وتحقيق مراده.
قال تعالى: (كَلا إِنَّ الإنسان ليَطْغَى) (العلق:6)، ثم بين أن طغيانه كان بسبب رؤيته لنفسه مستغنيا عن غيره فقال: (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:7) ثم أعاد الله الأمر إليه سبحانه في كون الغني والاستغناء عن الغير إنما هو في حقيقته مقصور على الرب الأعلى فقال: (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (العلق:8).
·حقيقة الطاغوت تجاوز الحد في الخروج من الفقر الذاتي.
حقيقة الطاغوت تجاوز الحد في الخروج من الفقر الذاتي إلى الغنى الذاتيباستعلاء هوى النفس في الإنسان والاستكبار والظلم والطغيان، وهو ما يعبد من دون الله، قال تعالى: (وَإِذْ قُلنَا للمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْليسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ) (البقرة:34)وقال: (قَال فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (الأعراف:13). وقال: (اذْهَبَا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لهُ قَوْلا ليِّنًا لعَلهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَليْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَال لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه:46).
وقال: (هَل أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُل هَل لكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الآَيَةَ الكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَال أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَال الآَخِرَةِ وَالأُولى إِنَّ فِي ذَلكَ لعِبْرَةً لمَنْ يَخْشَى). وقال عن استعلاء هوى النفس في الإنسان ومنازعته لربه في وصف المشيئة بالعلو والطغيان: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لمَنْ يَرَى فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآَثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى) النازعات
وقال تعالى عن الكفار واستغنائهم على الحق: (عَبَسَ وَتَوَلى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لعَلهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لهُ تَصَدَّى وَمَا عَليْكَ أَلا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلهَّى كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ). وقال سبحانه لنبيه e: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود:1121).
وقد سمي الطاغوت طاغوتا لتجاوز الحد في كونه عبدا فقيرا زعم لنفسه أو زعم له غبره أنه علا في الكمال واستغنى عن الطلب والسؤال، كما قال رب العزة والجلال: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انْفِصَامَ لهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَليمٌ) (البقرة:257).