الموضوع: بر الوالدين
عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 27-12-2009, 09:25 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

بر الوالدين
من مبادئ الإسلام السامية «مبادلة الإحسان بالإحسان» قال الله تعالى ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) ([183])
انطلاقاً من هذا المبدأ الكريم حثت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الأولاد على الوفاء لوالديهم والاعتراف بفضلهم والبر بهم ورغبت في ذلك.
وبر الوالدين معناه التوسع في الإحسان إليهما وذلك بطاعتهما وإكرامهما والتواضع لهما والشفقة عليهما والتلطف بهما بأن يقول لهما قولاً حسناً وكلاماً طيباً مقروناً بالاحترام والتعظيم.
فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما قالت: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه شيخ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : {من معك؟ فقال: أبي، قال: لا تمش أمامه، ولا تقعد قبله، ولا تدعه باسمه، ولا تستسب له ([184])} ([185])
وقد قرن الله سبحانه برَّ الوالدين بعبادته لبيان حقهما على الولد إذ أنهما السبب الظاهر لوجوده في الحياة الدنيا قال الله تعالى: ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) ([186]) وقال تعالى ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) ([187]) .
كما قرن سبحانه شكرهما بشكره فقال : ( أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ )([188]) .
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- أنه قال: ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تُقْبَل منها واحدة بغير قرينتها؛
إحداها: قوله تعالى ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ س) ([189]) فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه.
الثانية : قوله تعالى ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) ([190]) فمن صلى ولم يزَّكِ لم يقبل منه.
الثالثة: قوله تعالى ( أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ) ([191]) فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه ([192])
والحق تبارك وتعالى أمر الأولاد بالبر بوالديهم، والرفق بهم، وخفض الجناح لهم، ولين القول والمؤانسة، والرحمة والملاطفة، والدعاء لهم والصدقة عنهم، وهذه آيات الإسراء تحدد النهج الذي يجب اتباعه في معاملة الوالدين ومعاشرتهما والتوصية بهما وخصوصاً حين يضعفان ويمرضان ويكبران ويحتاجان إلى العناية والخدمة.
  • يقول تعالى ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً ) ([193])
فلو تدبر الأولاد هذه الآيات المحكمات وفهموا معانيها وعلموا أنهم سيجزون في كبرهم بما جازوا به آباءهم وأمهاتهم لما عقوهم ونهروهم.
والحياة دين ووفاء فمن برَّ والديه برّه أبناؤه قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم، ومن أتاه أخوه متنصلاً فليقبل ذلك محقاً كان أو مبطلاً، فإن لم يفعل لم يرد عليّ الحوض}([194])
واعلموا أيها الأبناء أن الله قد جعل لكل من الوالدين باباً من الجنة يتفتّح بالخير على الولد كلما خرج يسعى لهما، وتنـزل عليه رحمة الله ما دام حريصاً على إرضائهما، فإن أغضب أحدهما غضب الله عليه وأغلق دونه باب الخير وإن كان الولد مظلوماً ([195])
روى البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مسلم له والدان مسلمان يصبح إليهما محتبساً إلا فتح الله له باببين من الجنة وإن كان واحد فواحد، وإن أغضب أحدهما لم يرض الله عنه، قيل: وإن ظلماه، قال: وإن ظلماه}([196])

برّ الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله
برّ الوالدين فرض عين على أولادهما، والجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين- إلا إذا غزى العدو بلاد المسلمين واغتصب أرضهم فإنه يصبح فرض عين، وفي هذه الحالة لا يجب على الولد أن يستأذنهما .
وفرض العين مقدم على الكفاية لذا قُدِّم برّ الوالدين على الجهاد، والأحاديث في ذلك كثيرة تذكر منها:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: {أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد} ([197])
فمع عظم فضل الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة فقد قدم الرسول صلى الله عليه وسلم برّ الوالدين وطاعتهما عليه حيث قال للرجل {ففيهما فجاهد} أي ابذل غاية جهدك في خدمتهما، واعمل أقصى ما تستطيع لإرضائهما.
وعنه رضي الله عنه قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال –أي النبي صلى الله عليه وسلم: {فهل من والديك أحد حيّ؟ قال –أي الرجل-: نعم، بل كلاهما. قال: أفتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما} ([198])
ما أحسن قول النبي صلى الله عليه وسلم {فأحسن صحبتهما}! ففيه حث على برهما وطاعتهما والتلطف بهما وخفض الجناح لهما وهذا يعدل أجر المجاهد في سبيل الله.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من اليمن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : {هجرت الشرك ولكنه الجهاد، هل باليمن أبواك؟ قال: نعم، قال: أذنا لك؟ قال: لا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارجع إلى أبويك فإن فعلا و إلا فبرهما} ([199]) .
ومقتضى هذا الحديث أنه لا يجوز للأبناء أن يخرجوا للجهاد ولا للسفر ولا لغيرهما إلا بإذن الآباء والأمهات.
وهنا نوجه دعوة للشباب الذين غُرِّر بهم وخُشِيت عقولهم بآراء منحرفة، وأفكار غريبة ، أن يقرءوا هذا الحديث ويعملوا به ويستأذنوا آباءهم وأمهاتهم قبل أن يخرجوا من بيوتهم لارتكاب أعمال التخريب والتفجير التي روّعت الآمنين وأفزعت المواطنين والمقيمين، وأزهقت أرواحاً، وأراقت دماء، وأهدرت أموالاً، وخربت دياراً.
فإن آباءهم سوف يبينون لهم الطريق ويهدونهم سواء السبيل، ويوضحون لهم الحق من الباطل، ويأخذون على أيديهم حماية لأنفسهم أولاً ثم لوطنهم ثانياً.
فأول ذنب ارتكبه هؤلاء هو عقوق الوالدين، والعاق في النار، فعن عليَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {من أحزن والديه فقد عقها} ([200])
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {بكاء الوالدين من العقوق} ([201]) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة؛ مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يُقرّ الخبث في أهله} ([202])
وإذا كانت الجنة محرمة عليه فإن النار هي مصيره وبئس المصير.


برّ الوالدين مقدم على رضى الزوجة
حفظ الإسلام للزوجة حقوقها وصان لها كرامتها وأوجب على الرجل الإنفاق عليها، وأمره بحسن معاشرتها قال الله تبارك وتعالى ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) ([203])
وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي}
قال ابن كثير –رحمه الله-: «... وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين –رضي الله عنها- يتودد إليها بذلك، قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني، فقال {هذه بتلك}([204]) ...» ([205])
ومع هذا فقد قُدِّم برّ الوالدين على رضى الزوجة لما لهما من فضل على الولد، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : كانت تحتي امرأة، كنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها، فأبيت، فأتى عمرُ النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {طلقها}([206]) .
ففي ذلك تقديم لبرّ الوالدين على الزوجة في أمر خطير ألا وهو طلاقها، وإنهاء حياتها معه، وإخراجها من عصمته، مع أنه يحبها ويريدها، وعلى العكس من ذلك سأذكر لك أيها القارئ الكريم قصة عجيبة من عصرنا الحاضر تبكي العين، وتُدمي الفؤاد، وتحزن القلب لما فيها من تفضيل للزوجة على الأم.
وهذه القصة رواها الشيخ علي القرني عن أحد بائعي المجوهرات في محاضرة له بعنوان «كل يغدو».
يقول البائع للشيخ :
«جاءني في أحد الأيام الأخيرة من شهر رمضان رجل وزوجته وأمه وابنه، وكانت الأم على حياء ومعها ابن هذا الرجل، فوقفت به في جانب المحل، وجاءت زوجته وأخذت من الذهب ما يعادل العشرين ألف ريال، ثم تقدمت الأم وأخذت خاتماً واحداً من الذهب قيمته مائة ريال وعندما جاء الابن ليدفع الحساب دفع العشرين ألف ريال، فقلت: بقي مائة ريال ، فقال الابن: لأي شيء؟ فقلت: لهذا الخاتم الذي أخذته أمك، فقال الابن: العجائز ليس لهن ذهب، وأخذ الخاتم من يدها ورماه على الطاولة، فما كان من الأم إلا أن تجرعت غصصها وأخذت ابنه بين يديها وخرجت إلى السيارة، فأنبته زوجته قائلة: لماذا فعلت ذلك؟ ستخرج أمك من عندنا، من سيمسك ابننا بعد ذلك؟ فأخذ الخاتم وذهب به إلى أمه، فقالت الأم: والله لن ألبس ذهباً ما حييت أبداً، ما كنت أريد سوى هذا الخاتم لأفرح به يوم العيد مع الناس، فقتلت هذه الفرحة في نفسي فسامحك الله ([207]).
هذا الولد أبكى بفعلته هذه قلب أمه، ولو أدرك ما يحل به من الخسران والندامة في الدنيا والآخرة لأسعدها قبل أن يسعد زوجته ويرضيهما.
وقد ذكرتُ هذه القصة بعد قصة عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- ليتبين لنا الفرق بين البر والعقوق، ولأخذ العبرة، والعظة فالسعيد من سعد بغيره والشقي من شقي بنفسه.


برّ الوالدين بعد موتهما
من الوفاء أن لا ينسى الإنسان المعروف ولا يجحد الفضل، وفضل الآباء على الأبناء عظيم ولذلك لم تكتف آيات الإسراء بالأمر بالإحسان إلى الوالدين في الدنيا فحسب بل بعد موتهما أيضاً ( وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) ([208])
وقد بينت السنة المطهرة الطرق التي يستطيع الإنسان أن يبرّ والديه بعد موتهما من خلالها، حدّث مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله هل بقي عليّ من برّ أبويّ شيء بعد موتهما أبرّهما به ؟ قال : {نعم خصال أربع: الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنقاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهو الذي بقي عليك بعد موتهما} ([209])
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:{رفع للميت بعد موته درجته فيقول: أي ربي أي شيء هذا؟ فيقول له: ولدك استغفر لك} ([210])
فاستغفر أيها القارئ لوالديك أو لمن مات منهما وردد قائلاً ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ) ([211]) ، ( وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) ([212]) وأكثر من الدعاء لهما فلقد انقطع عملهما من الدنيا إلا من ثلاثة أنت واحد منها، قال سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم : {إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له} ([213])
فلا تبخل أُخيّ على والديك بعد موتهما بالدعاء لهما والاستغفار، واستمطار الرحمة عليهما والرضوان، وتحرى أوقات الاستجابة والغفران.
ثم عليك أيضاً إنفاذ وصيتهما والصدقة عنهما، عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أن رجلاً قال: إن أمي توفيت ولم توص أفينفعها أن أتصدق عنها؟ {قال : نعم}([214])
وعن سعد بن عبادة قال: {قلت يا رسول الله إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قلت: فأي صدقة أفضل ؟ قال: سقي الماء} ([215])
ولا يتوقف البر بهما عند الدعاء والاستغفار والصدقة بل يمتدّ أيضاً ليشمل أموراً أخرى كثيرة منها:
- قضاء النذر عنهما فلقد روي عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أن سعد بن عبادة استفتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر، فقال: {اقضه عنها} ([216])
- ومنها قضاء الصوم عنهما، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من مات وعليه صوم صام عنه وليه} ([217])
وعن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: {نعم فدين الله أحق أن يقضى} ([218])
- ومن ذلك أيضاً الحج عنهما فعن ابن عباس –رضي الله عنهما- أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفحج عنها؟ قال: {حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا دين الله ، فالله أحق بالوفاء} ([219])
- ومن ذلك صلة أصدقائهما فعن ابن عمر –رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن أبرّ البرّ أن يصل الرجل أهل وُدِّ أبيه} ([220])
فمن قصر في بر والديه في حياتهما وندم على ما فرط في حقهما وخاف عاقبة العقوق فلا ييأس من روح الله ولا يقنط من رحمته، وليعلم أن باب الإحسان إليهما مفتوح على مصراعيه، فليدخل منه داعياً ومستغفراً لهما، وصائماً عنهما وحاجاً لهما وواصلاً أهل ودّهما، وإنما يتقبل الله من المتقين.

ثمرات بر الوالدين
لبرّ الوالدين ثمرات كثيرة منها:
· تفريج الكروب وذهاب الهموم والأحزان ([221]).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ه
بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر فمالوا إلى غار في الجبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يفرجها، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالديّ أسقيهما قبل ولدي، وإنه ناء بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومما , وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما ، والصبية يتضاغون عند قدمي. فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج لنا فرجة نرى منها السماء ففرج الله فرجة فرأوا منها السماء؛ وقال الثاني : اللهم إنه كان لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء فطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمئة دينار، فسعيت حتى جمعت مئة دينار فلقيتها بها فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم، فقمت عنها. اللهم فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج لنا منها ففرج لهم فرجة. وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيراً يفرق أرزاً، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي فعرضت عليه حقه فتركه ويرغب عنه فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً وراعيها، فجاءني فقال: اتق الله ولا تظلمني وأعطني حقي، فقلت: اذهب إلى ذلك البقر وراعيها، فقال: اتق الله ولا تهزأ بي، فقلت: إني لا أهزأ بك فخذ ذلك البقر وراعيها فأخذه فانطلق بها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج ما بقي ففرج الله عنهم}([222])
فبر الوالدين كما جاء على لسان الصادق المصدوق -في هذه القصة- المبلغ عن ربه الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سبب في حلول الفرج إذا بلغت الشدة غايتها، وسبب في تيسير العسر إذا استحكمت عقده.
· الزيادة في العمر والبركة فيه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من بر والديه طوبى له زاد الله في عمره}([223])
وقال أيضاً: {وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر} ([224])
فما أحلى الحياة إذا طال فيها العمر، وكثر فيها المال الحلال؛ وما أهنأ العيش إذا رافقته طمأنينة النفس وراحة الضمير ومحبة الناس.
ولك أُخيَّ أن تتأمل معي هذا الحديث الشريف الذي رواه أنس رضي الله عنه عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {من سرّه أن يمد له في عمره، ويزاد له في رزقه فليبرّ والديه وليصل رحمه} ([225])
· إجابة الدعوة
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص ، فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برّ لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك الله فافعل} ([226])
فلأويس بن عامر فضل كبير ومنـزلة عالية عند الله تعالى حتى أنه لو أقسم على الله لأبر الله قسمه، وذلك لبرهّ بأمه وإكرامه لها.
· مغفرة الذنوب وقبول التوبة
روي عن يحيى بن أبي بكر، قال: لما قدم أبو موسى الأشعري وأبو عامر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلما، قال: {ما فعلت امرأة منكم تدعى كذا وكذا؟ قالوا: تركناها في أهلها، قال: فإنه قد غُفِر لها، قالوا بما يا رسول الله؟ قال: كانت لها أم عجوز كبيرة، فجاءها النذير، إن العدو يريد أن يغير عليكم، فجعلت تحملها على ظهرها، فإذا أعيت وضعتها ثم ألزقت بطنها ببطن أمها، وجعلت رجليها تحت رجلي أمها من الرمضاء حتى نجت} ([227])
· قبول الأعمال ودخول الجنة.
في سورة الأحقاف آيات تحدثت عن صنف من الناس عرف حق الله تعالى عليه فشكره، وعرف حق والديه فأحسن إليهما وأطاع أمرهما، واجتهد في برهما، وعرف حق ذريته فأحسن تربيتها ودعا لها بلإصلاح والتوفيق، وسأل الله تعالى التوبة والمغفرة، فتقبل الله عمله، وغفر له ذنبه، ووعده بالجنة، قال الله تعالى وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) ([228])
وهكذا فليكن الأبناء:
حبٌّ للآباء، وبرٌّ بهم، واعتراف بفضلهم، وطاعة لهم، وتقديمهم على النفس والأهل والولد، خفض الجناح لهم، ولين الكلام معهم، ثم الدعاء والاستغفار لهم بعد وفاتهم.

وأختم هذا الموضع بأبيات تبين حقوق الأم وفضلها، يقول الشاعر:
لأمك حق لو علمت كبـــير كثيرك يا هذا لديه يســيرُ
فكم ليلة باتت بثقلك تشتــكي لها من جواها أنّة وزفيــرُ
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غصص منها الفؤاد يطير
فكم غسلت عنك اللأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير
وتفديك مما تشتكيه بنفسهــا ومن ثديها شرب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حنواً وإشفاقاً وأنت صغير
فآه لذي عقل ويتبع الهــوى وآه لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقــير ([229])
__________________
رد مع اقتباس