**********************************
` الاختيار : طلب ما هو خير وفعله ، قال تعالى : } وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا {[المزمل/20] (2) .
والاختيار يقال لكل فعل يفعله الإنسان لا على سبيل الإكراه ، كقوله تعالى : } وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُون َ{[الواقعة/20] ، وكما روى عن عبد اللَّه بن عمر رضي
ــــــــــــــــــــ
1. السابق ص214 .
2. المفردات ص161 ، وانظر الألفاظ المختلفة في المعاني المؤتلفة ، لأبى عبد الله محمد بن عبد الملك بن مالك الطائي الجياني ، تحقيق دكتور محمد حسن عواد ، دار الجيل ، بيروت سنة 1411هـ ، ص255 .
اللَّه عنهما ، قال : " قسم عمر خيبر ، فخير أزواج النبي e ، أن يقطع لهن من الماء والأرض ، أو يمضي لهن ، فمنهن من اختار الأرض ، ومنهن من اختار الوسق ، وكانت عائشة اختارت الأرض " (1) .
والاختيار قد يقال لما يراه الإنسان خيرا وإن لم يكن خيرا ، كقول اللَّه تعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون َ{[الجمعة/9] ، وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، أن عبد اللَّه بن أبي بن سلول لما توفي ، جاء ابنه إلى رسول الله e فقال : " يا رسول اللَّه ، أعطني قميصك أكفنه فيه ، وصل عليه واستغفر له فأعطاه النبي e قميصه ، فقال : آذني أصلي عليه فآذنه ، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر t ، فقال : أليس اللَّه نهاك أن تصلي على المنافقين ، فقال : أنا بين خيرتين ، قال : } اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ َ{[التوبة/80] ، فصلى عليه فنزلت : } وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِه ِ{[التوبة/84] (2) .
والخيرة : الحالة التى تحصل للمستخير والمختار ، كقوله تعالى : }وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ {[الأحزاب/36] ، وكقوله سبحانه : } وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَة ُ{[القصص/68] ، وعن أبي سعيد الخدري t، قال : " خطب النبي e ــــــــــــــــــــ
1. البخارى فى كتاب المزارعة (2328) 5/14 .
2. البخارى فى كتاب الجنائز (1269) 4/165 .
فقال : إن اللَّه خير عبدا بين الدنيا ، وبين ما عنده ، فاختار ما عند اللَّه ، فبكى أبو بكر الصديق t، فقلت في نفسي : ما يبكي هذا الشيخ ، إن يكن اللَّه خير عبدا بين الدنيا ، وبين ما عنده ، فاختار ما عند اللَّه ؟ فكان رسول اللَّه e هو العبد ، وكان أبو بكر أعلمنا " (1) .
والاستخارة : طلب الخير والتوجيه إليه ، وقد روى عن جابر بن عبد اللَّه tقال : " كان رسول اللَّه e يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها ، كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول : إذا هم أحدكم بالأمر ، فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللَّهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللَّهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي ، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، فاقدره لي ويسره لي ، ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي ، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ، ثم أرضني ، قال : ويسمي حاجته " (2) .
` الاختيار فى الاصطلاح الصوفى :
والاختيار فى الاصطلاح الصوفى يرد على معنيين ، أحدهما له أصول قرآنية ونبوية ، والثانى لا أصل له :
ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه البخارى فى كتاب الصلاة (466) 7/665.
2. أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة (1166) 4/58 .
الأول : الاختيار الذى يعنى اختيار العبد لما أراده اللَّه شرعا ، فليس للعبد إرادة مخالفة لإرادة اللَّه الشرعية ، وللصوفية فى هذا المعنى ، ما روى عن يحى بن معاذ (ت:258هـ) أنه قال : ( ما دام العبد يتعرف يقال له لا تختر ، فإنك لست بأمين فى اختيارك حتى تعرف ، فإذا عرفت ، يقال له : إن شئت فاختر وإن شئت فلا تختر ، فإنك إن اخترت فبنا ، فيما تختار وفيما لا تختار ) (1) .
والمعنى : ما دام العبد فى طريق المعرفة باللَّه ، فهو مأمور أن يختار اختيار اللَّه له بالمجاهدة فى اتباع الشرع ، ومن ثم إذا داوم على ذلك سوف تتكيف إرادته على مراد اللَّه واختياره ، وعند ذلك يسمع بسمع اللَّه ، ويرى بنور اللَّه ، فأى شئ يختاره وقتها ، سيكون اختيارا من اللَّه ، لأنه صديق يدور فى دائرة المجال الشرعى والكونى معا ، أو بعنى آخر تتفق إرادة العبد ، مع الإرادة الشرعية والكونية معا ، وهذا المعنى يشهد له أيضا ، ما روى عن أبي يزيد البسطامى (ت:261هـ) لما سئل من هو الأمير ؟ ، فقال : ( من لم يبق له اختيار وصار اختيار الحق له اختيارا ) (2) ، وقوله أيضا لما سئل ماذا تريد ؟ ، قال : ( أريد ألا أريد ) (3) ، فالاختيار فى اصطلاح الأوائل منهم ، إشارة إلى ما يختاره اللَّه ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص429 وانظر نوادر الأصول للترمذى ص89 وما بعدها حيث يبين أن اختيار العبد الذى يعود عليه بالخير يكون فى اختيار الله له وانظر ختم الأولياء ص279 .
2. كشف المحجوب ص470 ، وانظر فى تفصيل كلام أبى يزيد مفهوم الحرية عند صوفية القرنين الثالث والرابع ، رسالة ماجستير للمؤلف ، كلية دار العلوم (824) 1995م ص 240 .
3. الرسالة 2/473 ، وانظر قوت القلوب للمقارنة بكلام المكى 1/128 .
للعبد فى دنياة من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة ، والعبد يختار ذلك بعناية اللَّه له ، حتى يختار باختار اللَّه له ، لا باختيار نفسه (1) ، وهذا العبد الذى يختار اختيار اللَّه الشرعى على الدوام ، يجتمع فيه نوعان من اختيار اللَّه ، الأول هو الاختيار الشرعى ، والثانى هو الاختيار الكونى .
الثانى : وهو المعنى المخالف للأصول القرآنية والنبوية ويرد على وجهين :
1- اختيار اللَّه للعبد الاختيار الكونى مع تجاهل العبد العمل بالأسباب ، وهو باب التواكل والاحتجاج بالقدر على نفى الأسباب ، ومن ذلك ما روى عن الجنيد بن محمد (ت:297هـ) أنه أصابته الحمى فقال : يا إلهى عافنى ، فسمع من قال له فى قلبه : من أنت حتى تتدخل فى ملكى ، وتجعل لك خيرة ، إننى أدبر ملكى خيرا منك ، فاختر ما اخترت بدلا من أن تتقدم إلى باختيارك (2) .
وقد استدل الهجويرى (ت:465هـ) بذلك ، على أن الاختيار عند الصوفية يعنى أنهم يختاروا اختيار الحق على اختيارهم ، أى أنهم فى سلبية تامة تجاه ما يبتليهم به الحق من الخير والشر من صحة ومرض وغنى وفقر (3) ، ومعلوم أن ذلك مخالف للأصول القرآنية والنبوية ، فالدعاء من الأسباب العظيمة فى جلب ــــــــــــــــــــ
1. اللمع ص429 ، وانظر الزيد عن هذه العلاقة فى طريق الهجرتين لابن القيم ص216 .
2. كشف المحجوب ص470 وانظر فى معرفة الاختيار على مستوى الفعل الإنسانى سلبا أو إيجابا ، دراسات فى الفكر العربى لماجد فخرى ص78 وما بعدها .
3. لعل الهجويرى يعنى أن هذه المرحلة من الاختيار يسبقها إيجابية العبد فى التزام المجاهد والاتباع وإن كان كلام الجنيد لا يسعفه ، انظر السابق ص470 .
الخير ودفع الشر ، وقد أمرنا اللَّه به ، فقال تعالى : } وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم ْ{[غافر/60] ، وفى حديث أبى مالك الأشجعي t، كان الرجل إذا أسلم علمه النبي e الصلاة ، ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات : " اللَّهم اغفر لي وارحمني ، واهدني وعافني وارزقني " (1) ، ومن حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى t، قال e : " أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا اللَّه العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ، ثم قال : اللَّهم منزل الكتاب ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم " (2) وعن عبد اللَّه بن عمر t، أن رسول اللَّه e أمر إذا أخذ الرجل مضجعه أن يقول : " اللَّهم خلقت نفسي وأنت توفاها لك مماتها ومحياها إن أحييتها فاحفظها وإن أمتها فاغفر لها اللَّهم إني أسألك العافية " (3) .
2- المعنى الثانى للاختيار المخالف للأصول القرآنية والنبوية ، هو كون اختيار العبد ، عين اختيار الرب ، كما ذكره ابن عربى فى الفصوص عند قوله تعالى : } مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {[هود/56] .
قال : ( فكل ماش ، فعلى صراط الرب المستقيم ، فهو غير المغضوب عليهم من هذا الوجه ولا الضالين .. ، وقال تعالى : كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به .. فذكر أن هويته ، هى عين الجوارح التى هى عين العبد ــــــــــــــــــــ
1. أخرجه مسلم فى كتاب الذكر والدعاء (2697) 4/2073 .
2. أخرجه البخارى فى الجهاد (2966) 6/140 .
3. أخرجه مسلم فى كتاب الذكر والدعاء (2712) 4/2083 .
فالهوية واحدة ، والجوارح مختلفة ) (1) ، وقد ذكر الجيلى (ت:829هـ) أيضا أن اختيار العبد المخلوق فينا بالإرادة ، هو عين اختيار الحق وإرادته ، فإرادة العبد واختياره ، هو عين الإرادة القديمة (2) .
ومن ثم سواء كان العبد مؤمنا أو كافرا ، على شاكلة موسى u أو فرعون فالجميع عند هؤلاء الصوفية على صراط مستقيم ، واختيار الجميع هو بعينه اختيار الله ، ولا شك ان ذلك هدم لدين الله ، وضياع لمعانى التكليف ، وتبديد للعلة التى خلق الله من أجلها الدنيا والآخرة .
ــــــــــــــــــــ
1. فصوص الحكم ص149 وما بعدها ، وانظر أيضا لابن عربى شجرة الكون ، تحقيق رياض العبد الله ص49 وما بعدها ، ورأى ابن عربى واضح فى أنه لا يفرق فى الاختيار بين الخير والشر ، لا بالمعنى الشرعى ولا بالمعنى الكونى ، ويشاكله أيضا ابن سبعين حيث يرى أن الخير والشر ، لا فرق بينهما عند المحقق من حيث الحقيقة الوجودية لأن الوجود قضية واحدة ، وهو الخير المطلق ، وإننا بمحض الوهم نفرق فى عالم الظواهر بين الخير والشر ، انظر ابن سبعين وفلسفته الصوفية للدكتور أبى الوفا التفتازانى ص193 ، وقارن أيضا مع رأى فريد الدين العطار فى الاختيار ، انظر كتابه منطق الطير وادى العشق ص185 .
2. الإنسان الكامل 1/48 ، وانظر فى مقارنة رأى ابن عربى مع الجيلى ، ومدى اختلافهما ، معجم المصطلحات الصوفية للدكتورة سعاد حكيم ص441 ، وللمقارنة بين الاختيار من الوجة الكلامية والوجهة الفلسفية الصوفية ، انظر مشكلة الخير والشر بين المعتزلة والأشاعرة ، رسالة دكتوراة ، مخطوط بكلية دار العلوم ، جامعة القاهرة ، رقم (712) سنة 1975م .
**********************************