روى البخاري عن أبي هريرة أن سمع النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِى عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ ، فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِى قُحَافَةَ ، فَنَزَعَ بِهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ ، وَفِى نَزْعِهِ ضَعْفٌ ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ ، ثُمَّ اسْتَحَالَتْ غَرْبًا ، فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ ، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ » .
الذنوب : الدلو العظيمة فيها ماء ، والغرب : الدلو العظيمة التى تتخذ من جلد الثور. والقليب : البئر التى لم تبن جوانبها بالحجارة ونحوها، نزع : استقى بالدلو.
وهذه الرؤيا للأنبياء وحى، ولغيرهم مبشرات، لكن لا قيمة لها في إثبات الأحكام، أو إلزام النفس أو إلزام الغير بمقتضاها، لما روى عند البخاري من حديث أبى هُرَيْرَةَ قَال: (سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ لمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلا المُبَشِّرَاتُ قَالُوا وَمَا المُبَشِّرَاتُ قَال الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ).
وعند الترمذي وقال حَسَنٌ صَحِيحٌ 2272 من حديث أَنَس بْن مَالِكٍ أن رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قال: (إِنَّ الرِّسَالةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ فَلا رَسُول بَعْدِي وَلا نَبِيَّ، قَال: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلى النَّاسِ، فَقَال: لكِنِ المُبَشِّرَاتُ، قَالُوا: يَا رَسُول اللهِ وَمَا المُبَشِّرَاتُ؟ قَال: رُؤْيَا المُسْلِمِ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ)، فمن وسائل خطاب الرسل مع ربهم الوحي من خلال الرؤيا في المنام .
2- الوسيلة الثانية: من وسائل خطاب الرسل مع ربهم الوحي عن طريق الكلام الإلهي المباشر من وراء حجاب بدون واسطة يقظة، كما كلم الله موسى عليه السلام فقال: } وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَليْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لمْ نَقْصُصْهُمْ عَليْكَ وَكَلمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا { (النساء:164) .
وقال أيضا: } وَلمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّهُ قَال رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِليْكَ قَال لنْ تَرَانِي وَلكِنْ انظُرْ إِلى الجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلمَّا تَجَلى رَبُّهُ لِلجَبَلِ جَعَلهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلمَّا أَفَاقَ قَال سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِليْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ { (الأعراف:143).
3- الوسيلة الثالثة: من وسائل خطاب الرسل مع ربهم الوحي عن طريق الكلام الإلهي غير المباشر بواسطة إرسال أمين الوحي جبريل، وله في كيفية التبليغ إحدى حالتين، وردتا عند الإمام البخاري من حديث الحارث بن هشام t لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَال َ:
(يَا رَسُول اللهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الوَحْيُ؟ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ: أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْل صَلصَلةِ الجَرَسِ _ طنين الجرس أو ما يشبه الكاست عند تشغيله بسرعة كبير _ أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْل صَلصَلةِ الجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَليَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَال، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ المَلكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ، قَالتْ عَائِشَةُ رَضِي الله عَنْهَا: وَلقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَليْهِ الوَحْيُ فِي اليَوْمِ الشَّدِيدِ البَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ ليَتَفَصَّدُ عَرَقًا) .
ثم انقطع الوحي بعد ذلك، فلا ينزل على أحد من البشر إلى يوم القيامة كما قال الله تعالى: } مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلكِنْ رَسُول اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا { (الأحزاب:40).
فمن ادعى الاتصال المباشر في الخطاب مع الله تحت أي تأويل أو مسمى ليجعل كلامه مقبولا بين الناس، أو حاول أن يضفي القدسية على كلامه بادعائه أن ما يقوله أو ما يكتبه إنما تلقاه بطريق من طرق الوحي السابقة، فقد تجاوز أصول القرآن والسنة وسعى في هدمها، كقول القائل من الصوفية: (أخذتم علمكم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت يقول أمثالنا: حدثني قلبي عن ربى، وأنتم تقولون: حدثني فلان وأين هو؟ قالوا: مات، عن فلان، وأين هو؟ قالوا: مات).
أو كادعاء ابن عربي أن كتاب الفصوص أخذه من يد رسول الله e مكتوبا من اللوح المحفوظ، وهو مجرد ناقل أمين بلا زيادة أو نقصان، كما قال: (فحققت الأمنية، وأخلصت النية، وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب، كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان) .
وقوله أيضا: (فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحِكَم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب، فامتثلت ما رسم لي ووقفت عندما حد لي ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت، فإن الحضرة تمنع من ذلك) .
وهنا يشبه ابن عربي نفسه بالرسول صلى الله عليه وسلم في دقة البلاغ عن الله وخوفه من الوعيد الذي ورد في قوله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم:
(تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالمِينَ وَلوْ تَقَوَّل عَليْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل ِلأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ ثُمَّ لقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (الحاقة:47:43) .
أو كما قال عبد الكريم الجيلي يحاكى طريقة الوحي في التجلي الصوفي: (يتجلى الحق سبحانه وتعالى على العبد بتجل يسمع فيه صلصلة الجرس ويسمع تصادم الحقائق بعضها مع بعض، فيجد لها أطيطا يملأ ما بين السماء والأرض ثم إذا تقوى وثبت لسماع ذلك، يترقى ويسمع صلصلة الجرس عند رفع الستر).