كل ذلك وأمثاله تهوين لحرمة الدين، وانتهاك مقبوح مشين، انتهاك للثوابت المستقرة في اعتقاد المسلمين، وقد يجوز ذلك بعض المدافعين عن الصوفية من باب المخاطبات الروحانية والمحادثات الإيمانية، عند المكاشفات والتجليات التي تحدث لبعض الصوفية في شطحاتهم، فنقول له: هذا باب مفتوح على مصراعيه للمغرضين والحاقدين، ويكفي العاقل أن يقف على نظرة المستشرقين للوحي عند المسلمين، وكيف وجدوا في مثل ذلك سبيل الخلط بين الوحي وترهات الصوفية.
·جميع ما ورد في النقل حجة يوجب تصديق الخبر وتنفيذ الطلب.
الاحتجاج بالسنة النبوية عند السلف كالاحتجاج بالآيات القرآنية، فالاحتجاج بالأحاديث النبوية كالاحتجاج بالآيات القرآنية سواء بسواء، ولا خلاف بين جمهور العلماء الذين يعتد بهم في أن السنة يحتج بها، وتستقل بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن الكريم سواء بسواء في تحليل الحلال وتحريم الحرام، وأنها المصدر الثاني لمعرفة أصول الإسلام، بعد القرآن الكريم الذي هو خير الكلام، وأنه لا يستغنى عنها مطلقا لأنها المفصحة عن معاني القرآن، الكاشفة عن أسراره .
ولو أغفلنا السنة في الاحتجاج فإن الأحكام التي نستخلصها بعقولنا وجهدنا من القرآن لن تعبر عن حقيقة الوحي وقد أكد القرآن بوضوح أن السنة وحى من الله يجب الإيمان به، ويجب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء، وفي كل وقت في حياته وبعد مماته، لأنها أصول لم تخصص بزمن دون زمن، فيجب تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما ذكره من أخبار، وتنفيذ كل أوامره صلى الله عليه وسلم عن رضي ومحبة .
يقول ابن حزم: (إن القرآن لما كان هو الأصل الذي يرجع إليه في معرفة الإسلام، وجدنا فيه وجوب طاعة ما أمرنا به رسول الله e، ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفاً لرسوله e: } وَمَا يَنطِقُ عَنِ کالهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى { (النجم3)، فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله e على قسمين:
أحدهما: وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن .
والثاني: وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا) .
ومن الأدلة القرآنية التي تقرر هذه الحقيقة بلا نزاع قوله سبحانه وتعالى: } وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ { (الحشر:7) وقوله:
} قُل إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُل أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُول فَإِنْ تَوَلوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الكَافِرِين) (آل عمران:31:30) .
وقوله: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65) .
وقوله: (فَليَحْذَرْ الذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63).
وقوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ ضَل ضَلالا مُبِينًا) (الأحزاب:36) .
وأمثال ذلك في القرآن كثير، وكله يدل على أن السنة وحي من الله تعالى لرسوله e وأنه لا بد من اعتماد السنة في معرفة أصول الأشياء، والإذعان لها كالقرآن سواء بسواء .
وقد ثبتت روايات كثيرة في السنة تؤكد أن الصحابة y كانوا لا يتهاونون في ذلك، وأن النبي e حذرهم من الكذب عليه أو التكذيب بسنته، فمن ذلك ما رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث المقدام المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ t أن النبي e قال:
(أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلهُ مَعَهُ، أَلا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَليْكُمْ بِهَذَا القُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ) .
وفي رواية أخرى عند الترمذي وصححها الشيخ الألباني: (أَلا هَل عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلالًا اسْتَحْللنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ كَمَا حَرَّمَ اللهُ) .
وقد روى عند البخاري ومسلم من حديث علقمة عن ابن مسعود t أنه قال: (لعَنَ اللهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالنَّامِصَاتِ وَالمُتَنَمِّصَاتِ، وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلحُسْنِ، المُغَيِّرَاتِ خَلقَ اللهِ، فَبَلغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ، يُقَالُ لهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، وَكَانَتْ تَقْرَأُ القُرْآنَ، فَأَتَتْهُ فَقَالتْ: مَا حَدِيثٌ بَلغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لعَنْتَ الوَاشِمَاتِ وَالمُسْتَوْشِمَاتِ وَالمُتَنَمِّصَاتِ وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلقَ اللهِ، فَقَال عَبْدُ اللهِ: وَمَا لِي لا أَلعَنُ مَنْ لعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَقَالتِ المَرْأَةُ: لقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لوْحَيِ المُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ فَقَال: لئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لقَدْ وَجَدْتِيهِ، قال الله عز وجل:
(وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ) (الحشر:7) فَقَالتِ المَرْأَةُ: فَإِنِّي أَرَى شَيْئًا مِنْ هَذَا عَلى امْرَأَتِكَ الآنَ، قَال: اذْهَبِي فَانْظُرِي، قَال: فَدَخَلتْ عَلى امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ فَلمْ تَرَ شَيْئًا، فَجَاءَتْ إِليْهِ فَقَالتْ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، فَقَال: أَمَا لوْ كَانَ ذَلِكَ لمْ نُجَامِعْهَا) .
ومعنى لم نجامعها، قال جماهير العلماء: معناه لم نصاحبها ولم نجتمع نحن وهي بل كنا نطلقها ونفارقها، وقيل: يحتمل أن معناه لم أطأها، وهذا ضعيف كما ذكره النووي، والصحيح أن من عنده امرأة مرتكبة معصية كوصل الشعر أو ترك الصلاة أو غيرهما ينبغي له أن يطلقها .
وكلام عبد الله بن مسعود واضح في التزامه بالسنة قولا وعملا، كالتزامه بمقتضى أحكام القرآن، وروى أبو داود عن عمران بن حصين t أنه كان جالسا مع أصحابه، فقال له رجل من القوم: (يا أبا نجيد إنكم لتحدثوننا بأحاديث ما نجد لها أصلا في القرآن، فغضب عمران وقال للرجل: أوجدتم في كل أربعين درهما درهم، ومن كل كذا وكذا شاة شاة، ومن كل كذا وكذا بعيرا كذا وكذا، أوجدتم هذا في القرآن؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم هذا؟ أخذتموه عنا، وأخذناه عن نبي الله e وذكر أشياء نحو هذا) .
فولا عبرة بمذهب الشيعة والخوارج في رد بعض ما ورد في السنة لأن لهم مواقف خاصة في كثير من الصحابة، وهم رواة الحديث عن رسول الله e.
ولا عبرة أيضا ببعض آراء المعتزلة والمتكلمين الداعية إلى عدم الاحتجاج بالسنة في الآحاد، أو المتواتر من الروايات بحجة مخالفتها لآرائهم الكلامية كقول أبى الهذيل العلاف من شيوخ المعتزلة:
(إن الحجة من طريق الأخبار فيما غاب عن الحواس من آيات الأنبياء عليهم السلام وفيما سواها لا تثبت بأقل من عشرين نفسا، فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر).