ثامناً : تجرده وزهده الكبير :
فهم نور الدين محمود زنكي – رضي الله عنه – من خلال معايشته للقرآن الكريم وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنَّها مزرعة للآخرة، ولذلك تحَّررَ من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها، وخضع وانقاد، وأسلم نفسه ظاهراً وباطناً، فترفع رحمه الله عن الدّنيا وحطامها، وزهد فيهما وإليك شيئاً من مواقفه:
1- قال ابن الأثير : وحكى لنا الأمير بهاء الدين علي ابن الشكري وكان خصيصاً بخدمة نور الدين قد صحبه من الصبا، وأنس به وله معه انبساط، قال : "كنت معه في الميدان بالُّرها والشمس في ظهورنا، فكلّما سرنا تقدمنا الظل، فلما عدنا صار ظلنا وراء ظهورنا، فأجرى فرسه وهو يلتفت وراءه
وقال لي : "أتدري لأي شيء أجري فرسي وألتفت ورائي قلت : لا، قال : قد شبهت ما نحن فيه بالدنيا، تهرب ممن يطلبها وتطلب من يهرب منه"ا قلت : رضي الله عن مَلك يفكر في مثل هذا.
2- تشبه نور الدين محمود بعمر بن عبد العزيز في زهده وقد كان الأخير حاكم لأقوى دولة على الأرض في زمنه، فكان نور الدين لا ينفق على نفسه وعلى أهله إلا من ملك اشتراه من سهمه من الغنائم وكان يحضر الفقهاء ويستفتيهم فيما يحل له من تناول الأموال المرصدة لمصالح المسلمين فيأخذ ما يفتونه بحله ولم يتعداه إلى غيره البتة قال العماد الأصفهاني : كان رسم نفقته الخاص في كل سنة من جزية أهل الذمة مبلغ ألفي قرطاس ، يصرفه في كسوته ونفقته ومأكوله ومشروبه وحوائجه المهمة، حتى أجرة خياطه وطباخه، ومن ذلك المقرر المعين النزر ثم يستفضل ما يتصدق به في آخر الشهر ويفضه على المساكين وأهل الفقر.
3- وأما ما يهدي إليه من الثياب والألطاف وهدايا الملوك من المناديل والسكاكين والمهاميز والدبابيس، وكل دقيق وجليل لا يتصرف في شيء منه بل يعرض نظره عنه وإذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي ليحصّل أثمانها الموفورة ويصرفها في عمارة المساجد المهجورة (رحمك الله).
4- ولم يلبس قط ما حّرمه الشرع من حرير أو ذهب أو فضة ، وحكي لي عنه أنه حمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهبة فلم يحضرها عنده، فوصفت له فلم يلتفت إليها، وبينما هم معه في حديثها، إذ قد جاءه رجل صوفي فأمر له بها فقيل له : إنها لا تصلح لهذا الرجل، ولو أعطي غيرها لكان أنفع له، فقال : "أعطوها له فإني أرجو أن أعّوض عنها في الآخرة". فسلمت إليه فسار بها إلى بغداد فباعها بستمائة دينار أو سبعمائة، وأنا أشك أنها كانت تساوي أكثر.
5- قال رضيع الخاتون " زوجة نور الدين " : إنها قلت عليها النفقة ولم يكفها ما كان قد قّرره لها، فأرسلتني إليه أطلب منه زيادة في وظيفتها (أي مخصصاتها المالية)؟ فلما قلت له ذلك تنكر واحمّر وجهه ثم قال : "من أين أعطيها، أما يكفيها مالها؟ والله لا أخوض نار جهنم في هواها، إن كان تظن أن الذي بيدي من الأموال هي لي فبئس الظن؛ إنما هي أموال المسلمين ومرصدة لمصالحهم ومعدّة لفتق – إن كان – من عّدو الإسلام وأنا خازنهم عليها فلا أخونهم فيها"، ثم قال : لي بمدينة حمص ثلاث دكاكين ملكاً قد وهبتها إياها فلتأخذها : وكان يحصل منها قدر قليل نحو عشرين ديناراً.
6- قال ابن كثير : كان نور الدين عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على أهله وعياله في المطعم والملبس حتى قيل : "إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه، من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا".
وكان عمر الملاّء رجلاً من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل له بفتيت ورقاق فيفطر عليه. وكان إذا أقام الولائم العظيمة لا يمّد يده إليها إنما يأكل من طبق خاص فيه طعام بسيط.
*أين يسكن ليث الإسلام
وأما مقّر سكن حاكم الجزيرة والشام ومصر واليمن فكانت دار متواضعة تطل على النهر الداخل إلى القلعة من الشمال، ألحق بها صُفّة يخلو فيها للعبادة، فلما ضربت الزلازل دمشق، بنى بإزاء تلك الصفة بيتا من الأخشاب : فهو يبيت فيه ويصبح ويخلو بعبادته ولايبرح. ولما توفي دفن في البيت البسيط المقام من الأخشاب.
7- زهده في الألقاب :
عندما تفقد قيادة ما القدرة على الإسهام الجادّ في حركة التاريخ، يتحول همها إلى منح النياشين والألقاب لمن يقدرون من أجل أن تغطي عجزها وإنكماشها، لكن رجلاً فاعلاً كنور الدين يرفض هذه (المنح) خوفاً أن يكون في طياتها الكذب والمبالغة والزيف، وخوفاً أن تقوده إلى نوع من الاعتداد والغرور كثيراً ما انتهى إليهما القادة العاملون وأما نور الدين الذي علمه التجرد كيف يكون الرفض فإنه يتمنع حتى النهاية عن الذهاب مع الإغراء إلى ما يريد الشيطان لا ما يريد الله تلقى يوماً من بغداد هدية تشريف عباسيه ومعها "قائمة" بألقابه التي كان يذكر بها على منابر بغداد : "... اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط المثاغر نور الدين وعدته ركن الإسلام وسيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، رضيّ الإمامة وأثيرها، فخر الملّة ومجدها، وشمس المعاني وملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محي العدل في العالمين المظلومين من الظالمين ناصر دولة أمير المؤمنين".
لكن نورالدين أسقط جميع الألقاب وطرح دعاءً واحد يقول :" اللهم وأصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي" ، وثمة رواية أخرى تمنحنا مزيداً من الأضواء عن الموضع وتتضمن كلمات وجملاً من إنشاء نور الدين نفسه .. روي أنه كتب رقعة بخطه إلى وزيره خالد بن القيسراني – بعد أن استفزته كثرة الألقاب – بأمره أن يكتب له صورة ما يدعى له به على المنابر، وكان مقصوده صيانة الخطيب عن الكذب ولئلا يقول ما ليس فيه فكتب ابن القيسراني كلاماً ودعا له فيه ثم قال : وأرى أن يقال على المنبر : اللهم وأصلح عبدك الفقير إلى رحمتك، الخاضع لهيبتك، المعتصم بقوتك، المجاهد في سبيلك، المرابط لأعداء دينك، أبا القاسم محمود زنكي، فكان جواب نور الدين : هذا لا يدخله كذب ولا تزيّد. وكتب بخطه في أعلى الصفحة: مقصودي أن لا يكذب على المنبر أنا بخلاف كل ما يقال. أفرح بما لا أعمل ؟ والتفت إلى وزيره قائلاً : الذي كتبت به جيد : اكتب به نسخاً إلى البلاد. ثم أضاف ثم يبدأون بالدعاء : اللهم أره الحق حقاً اللهم أسعده اللهم انصره، اللهم وفَّقه .. من هذا الجنس.
إن القيادة التي تريد أن تنهض بالأمة وتمارس فقه النهوض في حياتها عليها أن تمنع كل ما من شأنه أن ينمّي روح النفاق والتزلف للمسؤولين لئن ذلك يوفر النقد البنّاء وحرية الرأي للشعوب حتى يعرف القادة أخطاءهم فيصلحوها في حركته النهضوية، وعلى القيادة أن تتصف بالتجرد لله في أعمالها وتزهد في حطام الدنيا الزائل. لقد كان زهد نور الدين، زهد المؤمن الذي لا يرغب في الدنيا، وما فيها من ملذات وشهوات، ويسعى ويعمل للآخرة دار النعيم والخيرات.