وقد سمي الطاغوت طاغوتا لتجاوز الحد في كونه عبدا فقيرا زعم لنفسه أو زعم له غبره أنه علا في الكمال واستغنى عن الطلب والسؤال، كما قال رب العزة والجلال: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انْفِصَامَ لهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَليمٌ) (البقرة:257)
وقال تعالى: (وَلقَدْ بَعَثْنَا فِي كُل أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَليْهِ الضَّلالةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ) (النحل:36).
وقال تعالى: (وَالذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلى اللهِ لهُمُ البُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ) (الزمر:17).
·كمال توحيد الربوبية لله يظهر بكمال توحيد العبودية لله.
إذا كانت معاني العبودية تقوم على الذل والافتقار والحاجة والاضطرار، فإن معاني الربوبية تقوم على الاستغناء بالنفس في كل اسم أو صف بحيث يكون كاملا، فكمال الأسماء والصفات والأفعال الذي يغني صاحبه عن كل معاني الحاجة والاضطرار والذل والافتقار، وهذا الوصف ليس لأحد على الإطلاق إلا لرب العزة والجلال.وكان توحيد العبودية لله هو إفراده بالطاعة والمحبة والتسليم والافتقار بالخضوع والتعظيم.
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلنَا مِنْ قَبْلكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِليْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلدًا سُبْحَانَهُ بَل عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْل وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُل مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلكَ نَجْزِي الظَّالمِينَ) (الأنبياء:26/29).
قال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلدًا لقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا للرَّحْمَنِ وَلدًا وَمَا يَنْبَغِي للرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:93).
والسبب في أن اتخاذا الولد شرك بالله يستوجب غضبه، أن الولد يستغني بأبيه، ودعوى استغنائه تستوجب توجه الفقير الذاتي بطلب الحاجة إلى الغني الذاتي، وحقيقة الأمر أن عيسى ليس غنيا بذاته، بل فقير بذاته يأكل الطعام كما قال تعالى: (مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المائدة:75) .
وكذلك قوله: (لنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً للهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِليْهِ جَمِيعاً) (النساء:172) .
فحقيقة الأمر أن عيسى u ليس غنيا بذاته، وإنما الله وحده هو الغني بذاته، وما سواه فقير إليه فقرا ذاتيا، ومن ثم فإنهم إذا التجئوا إلى غير الله ظنا منهم أنه موصوف بالغني ضيعوا أنفسهم وضيعوا من جميع الفقراء بذواتهم حين اتبعوهم في طلبوا المدد منهم، وفسد الكون بشركهم لأنهم ركنوا إلى عاجز فقير بذاته لن ينصرهم أو يعطيهم شيئا، فلم يخلقوا ذابا ولو اجتمعوا له.
ولو كان من ركنوا إليه غنيا على الحقيقة وموجودا بالفعل، لما منعهم الله من عبادته أو رجوع الفقير بذاته إليه في طلب حاجته، كما قال تعالى: (قُل إِنْ كَانَ للرَّحْمَنِ وَلدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ) (الزخرف:81).