لكنهم في الحقيقة أضعف من الذباب فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لهُ إِنَّ الذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلوِ اجْتَمَعُوا لهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالبُ وَالمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج:74).
فركنوا إلى فقراء بذواتهم من أمثالهم، وبالرغم من ذلك كان قيامهم الفعلي بإقامة الله لهم، وقيام حوائجهم وبقائهم متنعمين بفضل رب العالمين الرحمن الرحيم، وهذا عين الظلم العظيم الذي وعظ لقمان ولده أن ألا يقع فيه (وَإِذْ قَال لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لظُلمٌ عَظِيمٌ) (لقمان:13). فالله سبحانه يخلق ويعبدون غيره، ويرزق ويشكر سواه.
قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلئِنْ زَالتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَليماً غَفُوراً) (فاطر:41) وقال في أول السورة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَليْكُمْ هَل مِنْ خَالقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (فاطر:3).
وعند البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَال: (كَانَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ إِذَا تَهَجَّدَ مِنْ الليْل قَال اللهُمَّ رَبَّنَا لكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلكَ الحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَنْتَ الحَقُّ وَقَوْلُكَ الحَقُّ وَوَعْدُكَ الحَقُّ وَلقَاؤُكَ الحَقُّ وَالجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللهُمَّ لكَ أَسْلمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَليْكَ تَوَكَّلتُ وَإِليْكَ خَاصَمْتُ وَبِكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلمُ بِهِ مِنِّي لا إِلهَ إِلا أَنْتَ).
وقال تعالى: (إِنَّ الذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَليَسْتَجِيبُوا لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأعراف:194).
وقال: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلكُونَ لكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لهُ إِليْهِ تُرْجَعُونَ) (العنكبوت:17/22).
(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَل مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلمَّا نَجَّاكُمْ إِلى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ) (الإسراء/66/68).
والمعنى إذا مسكم الضر في البحر الخوف الشديد كخوف الغرق والإنسان في تلك الحالة لا يتضرع إلى الصنم والشمس والقمر والملك والفلك وإنما يتضرع إلى الله تعالى، فلما نجاكم من الغرق والبحر وأخرجكم إلى البر أعرضتم عن الإخلاص وتمسكتم بغيره.
·توحيد الإلوهية عن الخلف هو توحيد الربوبية عند السلف.
ولما كان كمال توحيد العبودية قائما على الإقرار بوصف الافتقار والاحتياج إلى الله في قيام الذات والأقوال والأفعال، كان كمال توحيد الربوبية قائما على الإقرار بوصف الغنى والكمال في توحيد الأسماء والصفات والأفعال، واعتقاد أن أفعال الله صادرة عن كماله، وكماله قائم على كمال أسمائه وصفاته، بعكس أوصاف العباد، فهي أوصاف نقص عند ولادتهم، وهم في اضطرار وافتقار منذ نشأتهم، ومن ثم فإن فقر الخلائق فقرا ذاتي، شاء من شاء وأبى من أبى.
ولا يصح القول بأن معنى الألوهية مقصور على الخالقية، كما هو حال الخلف المعروفين بأهل النظر والكلام الذين اتبعوا فلاسفة اليونان حيث جعلوا الإله بمعنى الخالق أو القادر على الاختراع، وجعلوا غاية التوحيد عندهم إثبات أن وجود الصانع وأنه واحد، وأن الواحد الحقيقي هو الشيء الذي لا ينقسم.
وقد ذكر الله u أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وكانوا يعتقدون أن الله خالقهم ورازقهم وأنه المنفرد بتدبير أمرهم كما قال تعالى في شأنهم: (وَلئِنْ سَأَلتَهُمْ مَنْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ ليَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّي يُؤْفَكُون) (العنكبوت:61)، لكنهم أشركوا بالله في كونهم عادوا بفقرهم ودعائهم قضاء حوائجهم إلى أولياءهم وإلى ربهم معا، فاتخذوا أولياءهم أندادا كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ وَلوْ يَرَى الذِينَ ظَلمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ) (البقرة:165).
ولما عذبوا في جهنم: } قالوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالمِينَ { (الشعراء:96/98)، فسوا بين الله وبين آلهتهم في المحبة والتعظيم، وخضعوا للموتى في أضرحتهم كخضوعهم للعلي العظيم.
كما يفعل كثير من عوام المسلمين الآن الذين بعظمون الله ويعظمون الموتى كتعظيم الله كما قال قائلهم:
يا ابن الرفاعي ما زالت ضمائرنا تطوى على حبك الغالي فترتاح
مهما دعوناك في ضيق تجيب ولو ضاقت بنا كرة الدنيا فتنزاح
إن الولاية مشكاة وأنت لها طول المدى يا أبا العباس مصباح
وقوله:
وقفت بالذل في أبواب عزمكموا: مستشفعا من ذنوبي عندكم بكم
أعفر الخد ذلا في التراب عسى: أن ترحموني وترضوني عبيدكم
فإن رضيتم فيا عزى ويا شرفي: وإن أبيتم فمن أرجوه غيركم
أو كقول القائل:
شيخي الرفاعي له بين الورى همم: نصالها ماضيات تشبه القدر
دخلت في ظلها أبتغى التفيؤ من: رمضاء دهري فجاء الدهر معتذر
والمعنى المقصود في هذين البيتين أن الشيخ الرفاعي قوته في العالم تشبه قوة الله في جريان المقادير، وأنه لما استغاث به جاء الدهر الذي يقلبه رب الدهر معتذرا إليه، فقوة الرفاعي في اعتقاده أشد من قوة الله وقدرته في جريان المقادير، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف:106)
لكن القلوب مفطورة على الإقرار بالخالق الغني بذاته أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات.