والتوحيد عندهم لا يتحقق إلا بنفي وإثبات ، نفي الحكم وسلبه عما سوى الله وإثباته لله وحده ، فلا يتم التوحيد حتى يشهد المسلم أن لا إله إلا الله ، فينفي الألوهية عما سوى الله عز وجل ويثبتها لله وحده ، وذلك أن النفي المحض تعطيل محض ، والإثبات المحض لا يمنع مشاركة الغير في الحكم فلا يكون التوحيد توحيدا حتى يتضمن نفيا وإثباتا .
وعلم التوحيد في اصطلاح العلماء : هو علم يكشف عن مذهب السلف في توحيد الله بالعبودية ، وإثبات العقائد الإيمانية ، بأدلتها القرآنية والنبوية ، والعقلية والفطرية ، والرد على المتبدعين في العبادات والمنحرفين في الاعتقادات ، فعلم التوحيد هو إثبات وحدانية الله وانفراده عمن سواه بنفي الشبيه والمثيل والشريك النظير.
والسؤال الآن : هل كان علم التوحيد معروفا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وما هي المصطلحات التي استخدمت في الدلالة على هذا العلم ؟ .
علم التوحيد اصطلاح سائد بين المسلمين منذ عصر النبوة ، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا على دراية تامة بما يجب معرفته في توحيد الله ، وكيفية الدعوة إلي لا إله إلا الله ، ومناقشة المخالفين في شركهم بالله ، وقد أفرد الإمام البخاري رحمه الله (ت:256هـ) في كتاب التوحيد بابا قال فيه : ( باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى ) ، ثم عقب بحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قال له : ( إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ، فَليَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تَعَالَى ) ، ولا شك أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان خبيرا في هذا العلم بالصورة التي تناسب إتمام الدعوة التي بعث من أجلها ، والتي يترتب علي نجاحها دخول الآلاف من أهل الكتاب في دين الله عز وجل ، وإلا ما كلفه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمر العظيم .
روى الإمام أحمد من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَال : بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، ضِمَامَ بْنَ ثَعْلبَةَ وَافِدًا إِلى رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَدِمَ عَليْهِ وَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلى بَابِ المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلهُ ثُمَّ دَخَل المَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ جَالسٌ فِي أَصْحَابِهِ وَكَانَ ضِمَامٌ رَجُلا جَلدًا –ضخما قوي الأعضاء - أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ – ذؤابتين تتدلى على الصدر من العمامة أو الشعر- فَأَقْبَل حَتَّى وَقَفَ عَلى رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فِي أَصْحَابِهِ – وعند البخاري 61 من حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ فِي المَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ وَالنَّبِيُّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَقُلنَا هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ المُتَّكِئُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا ابْنَ عبد المطلب فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ : قَدْ أَجَبْتُكَ ، فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ : إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي المَسْأَلَةِ فَلا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ فَقَالَ سَل عَمَّا بَدَا لَكَ - وعند أحمد من رواية ابن عباس ، فَقَال أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ المُطَّلبِ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلبِ قَال مُحَمَّدٌ قَال نَعَمْ فَقَال ابْنَ عَبْدِ المُطَّلبِ إِنِّي سَائِلُكَ وَمُغَلظٌ فِي المَسْأَلةِ فَلا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ ، قَال : لا أَجِدُ فِي نَفْسِي فَسَل عَمَّا بَدَا لكَ ؟ قَال : أَنْشُدُكَ اللهَ إِلهَكَ وَإِلهَ مَنْ كَانَ قَبْلكَ وَإِلهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ آللهُ بَعَثَكَ إِليْنَا رَسُولا ؟ فَقَال : اللهُمَّ نَعَمْ ، قَال : فَأَنْشُدُكَ اللهَ إِلهَكَ وَإِلهَ مَنْ كَانَ قَبْلكَ وَإِلهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْمُرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَنْ نَخْلعَ هَذِهِ الأَنْدَادَ التِي كَانَتْ آبَاؤُنَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ ؟ قَال : اللهُمَّ نَعَمْ ، قَال : فَأَنْشُدُكَ اللهَ إِلهَكَ وَإِلهَ مَنْ كَانَ قَبْلكَ وَإِلهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ آللهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَليَ هَذِهِ الصَّلوَاتِ الخَمْسَ ؟ قَال : اللهُمَّ نَعَمْ : قَال : ثُمَّ جَعَل يَذْكُرُ فَرَائِضَ الإِسْلامِ فَرِيضَةً فَرِيضَةً الزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالحَجَّ وَشَرَائِعَ الإِسْلامِ ، كُلهَا يُنَاشِدُهُ عِنْدَ كُل فَرِيضَةٍ كَمَا يُنَاشِدُهُ فِي التِي قَبْلهَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَال : فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَسَأُؤَدِّي هَذِهِ الفَرَائِضَ وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ ثُمَّ لا أَزِيدُ وَلا أَنْقُصُ ، قَال : ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلى بَعِيرِهِ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ حِينَ وَلى : إِنْ يَصْدُقْ ذُو العَقِيصَتَيْنِ يَدْخُل الجَنَّةَ ، قَال : فَأَتَى إِلى بَعِيرِهِ فَأَطْلقَ عِقَالهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلى قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إِليْهِ ، فَكَانَ أَوَّل مَا تَكَلمَ بِهِ أَنْ قَال : بِئْسَتِ اللاتُ وَالعُزَّى ، قَالُوا : مَهْ يَا ضِمَامُ اتَّقِ البَرَصَ وَالجُذَامَ اتَّقِ الجُنُونَ ، قَال : وَيْلكُمْ إِنَّهُمَا وَاللهِ لا يَضُرَّانِ وَلا يَنْفَعَانِ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل ، قَدْ بَعَثَ رَسُولا وَأَنْزَل عَليْهِ كِتَابًا اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ ، قَال : فَوَاللهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلكَ اليَوْمِ وَفِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلا امْرَأَةٌ إِلا مُسْلمًا ، يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَل مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلبَةَ .
|