ذهَبَتْ و جلستُ أفكر فيها إنها فتاة خلوقة و مؤدبة و محترمة كما أرى أنا فلمَ تقسو عليها والدتها هكذا .. أني أشعر بالشفقةِ عليها و خصوصاً عندما يضربها والدها أتساءل لمَ تقف والدتها عند الباب و هي تبتسم دون أن تحاول حتى تهدئة الأب لصحتهِ هو و ليسَ رحمةً لها أو شفقةً بحالها .
و في اليوم التالي عندما التقيتها وجدت عينيها مليئتين بالدموع فبادرت بسؤالها بسرعة :
- هل عرفتِ إن كانت زينب تحبكِ ؟
- نعم , إنها لا تحبني كما توقعت تماما .. أعطتني ورقة كتبَت فيها أنه مجرد مقلب و أنها مزحة .. عرفت أنها تحبني كصديقة و ليس كحبيبة و في الحقيقة أنا أفضل هذا الوضع أكثر بكثير .
- أنا أوافقكِ .. هكذا أفضل .
- و لكن ليس هذا ما يحزنني .
- إذاً ما الذي يحزنكِ ؟
- لقد .. لقد ..
و أجهشت بالبكاء .
- لقد ماذا ؟
- أنا ...
- أنتِ ماذا ؟ ماذا بكِ ؟ تكلمي ..
هدأت قليلاً ثم قالت :
- أنا مصابة بالسرطان .
صرختُ بعفوية :
- ماذا ؟
- نعم , أنا مصابة بسرطان الدم .
- كيف و ما الذي يؤكد ذلك ؟ هل قمت بفحوصات أم ماذا ؟
- في الأسبوع الماضي سقطت مغشياً علي ...
قاطعتها قائلة :
- ماذا ؟ و لمَ لم تخبريني ؟
- لم أشأ أن أقلقكِ و الآن دعيني أكمل .
- حسناً تفضلي .
- و اليوم سمعت أمي تتحدث مع شخص غريب و كان رجلاً قالت له: ماذا بها ؟ أجابها : لدينا احتمال بنسبة خمسون بالمائة أنها مصابة بسرطان الدم حتى الآن لسنا متأكدين و لكن عليها أن تواظب على تناول الأدوية التي وصفتها لها الدكتورة التي ذهبت إليها بانتظام . ثم أغلقت السماعة على الفور علمتُ أنها كانت تكلم الطبيب لأنني أعرف كل الأشخاص الذين تعرفهم أمي و ليس هناك رجل بينهم ثم أنا الوحيدة التي تتناول الأدوية بالإضافة إلى أن معاملتها معي تغيرت مائة و ثمانون درجة .
- كيف تغيرت معاملتها ؟
- خرجت قليلاً و بعد أن عادت قالت لي تعالي حبيبتي أتعلمين كم أحبكِ ثم ضمتني إليها و أقسمُ لكِ كانت هذه أول مرة تضمني فيها بحنان صادق .
- و لكن لا زلتِ غير متأكدة أنها أنتِ ثم هناك احتمال خمسون بالمائة ألا تكوني مصابة بالمرض .
- لا أعلم أنا خائفة .
- لا تخشي شيئاً فالموت ليسَ مخيفاً إلى هذه الدرجة .
- لا أنا لا أخشى الموت إنما أخشى السيئات التي لدي من المعاصي التي ارتكبتها مثلاً : أنتِ لا تعرفين هذا و لكن في العام الماضي كنت أغش في الامتحانات و امتنعت هذا العام فقط و كم من مرة كذبت فيها لأجل مقلبٍ تافه دبرته لصديقاتي ثم .. يا إلهي إني حقاًّ خائفة أرجو أن يشفع القرآن لي .. و الحمدلله أني بأدت بحفظهِ قبل معرفتي بهذا الأمر .
- عزيزتي اهدئي إن الله توابٌ رحيم يغفر لمن يشاء عليكِ بالتوبة و الندم و عدم تكرار ما فعلته ثم استمري قراءة القرآن و احفظي أجزاء أكثر منه و الصلاة في وقتها و صلاة السنن .
- و لكن هذه الأعمال أنا أقوم بها حتى عندما كنتُ بكامل صحتي .
- ضاعفيها .
- سأفعل و لا تنسيني من دعائكِ فأنا خائفة .
- لا تخافي أنا معكِ .
- لا أنتِ لستِ معي .. هل ستكونين معي عندما يضعوني في تلك الحفرة الضيقة تحت الثرى ؟ هل ستبقين بجانبي ؟ ستبكين فترة بعد وفاتي ثم سيجفُ دمعكِ و تنسيني .. أكاد لا أصدق جنان ستنساني .. زينب و أمينة أيضاً ..
ثم أنشدت :
فرشي التراب يضمني وهو غطائي .. حولي الرمال تلفني بل من ورائي..و اللحد يحكي ظلمةً فيها ابتلائي .. و النور خط كتابه أنسي لقائي ..و الأهل أين حنانهم باعوا وفائي ؟ و الصحب أين جموعهم تركوا إخائي؟؟ و المال أين هنائه؟ صار ورائي .. و الاسم أين بريقه بين الثناء؟هذي نهاية حالي ..فرشي التراب.. و الحب ودع شوقه و بكى رثائي .. و الدمع جف مسيره بعد البكاء .. هذي نهاية حالي فرشي التراب .. و الخوف يملأ غربتي .. و الحزن دائي .. أرجو الثبات و إنه قسماً دوائي .. و الرب أدعو مخلصاً أنتَ رجائي .. أبغي إلهي جنةً فيها هنائي ..
حاولت تهدئتها فردت علي :
- لا تحاولي تهدئتي .. فأنا أعلم أنني سوف أموت .. علي أن أذهب الآن أراكِ غداً إن بقيتُ حية .
- ستبقين حية إن شاء الله .
استلقيت على السرير و لم أستغرق ثانية حتى انفجرت باكية .. لا أعلم كيف استطعت حبس دموعي كل هذا الوقت .. و جلستُ أفكرُ فيها .. إنها الآن بمثابة أختي , بل هي أختي لا أستطيع احتمال هذه الفكرة لا أستطيع أن أتخيل بأنني سأفارقها في يوم من الأيام ..
و استيقظت في الساعة 3 فجراً .. لم أستطع العودة إلى النوم فقد كان الحزن يعتريني, شعرت بألم رهيب في رأسي, و بعد بضع دقائق رن هاتفي المحمول .. أجبت فإذا هي سارة .. الفتاة الحلوة الصغيرة الغالية تقول :
- السلام عليكم .
- و عليكم السلام و رحمة الله , كيف حالكِ الآن يا سارة ؟
- أفضل بكثير , هل أنتِِ مشغولة الآن ؟
- لماذا ؟ إنها الثالثة و اثناعشر دقيقة .. الوقت مبكر جداً .
- أعلم و لكن رأيت نور غرفتكِ مضاءً فعرفت أنكِ مستيقظة .. هل بإمكانكِ أخذي في جولة بسيارتك ؟
- الآن ؟
- نعم , إن كنتِ لا تستطيعين فلا بأس .
- لا بل أستطيع سأنتظركِ في السيارة أسرعي .
- حسناً .
نزلت و انتظرت بضع دقائق حتى جاءت و ركبت السيارة فانطلقت و مرت دقيقة .. اثنان .. ثلاث .. أربع .. خمس .. و هي لا تتكلم , و لكنها في النهاية تكلمت يبدو أنها فهمت شعوري بالغرابة قالت :
- هنالك الكثير من الأشياء التي أود قولها للعديد من الناس , هناك من أود شكرهم و من أود تأنيبهم , و من أود أن أنصحهم ، و من أعتذر منهم و ، من أودعهم فقط ..
- و لماذا ؟ هل أنتِ مسافرة ؟
- لا ... مريم ما بكِ أنسيتِ ؟
- لا لم أنسَ لكن لا أريدكِ أن تفكري بهذا التفكير السلبي .. هل فكرتِ بي و بمشاعري .. أنتِ تجرحينها عندما تقولين هذا .. هل فكرتِ بجنان ؟ زينب ؟ و أمينة ؟ و هديل ابنة عمك؟ هل تريدين فراقهم ؟ هل فكرتِ بما سيشعرون عندما يسمعون خبر مرضك ؟ أو وفاتكِ لا سمح الله ؟
- بلى فكرت بهم .. فكرت كثيراً , و أفضل أن أتغاضى عن هذا الأمر لانه يؤلمني بحق .. أكره التفكير بأنني سأفارقهم .. أكره ذلك و لكنها الحقيقة و لا يمكنني الهرب منها ..
قاطعتها قائلة :
- لا إنها ليست الحقيقة , إنما هو تفكيركِ أنتِ .. إنه التفكير السلبي , ربما يكون ايجابيا بالنسبةِ لكِ .. فهو خلاصكِ من حياتكِ القاسية و واقعكِ المؤلم و لكن فكري باللحظاتِ السعيدة التي أمضيتِها في حياتك , عندما تكونين مع أحبابك.
- لا أستطيع ..
- بل قولي لا أريد .. لأنكِ تريدين الموت .. تريدين الخلاص , إنكِ تتصرفين بأنانية ماذا عنا نحن ؟ ماذا عني أنا ؟ سأعاني كثيراً .. ماذا عن جنان ؟ ماذا عن زينب ؟ و ماذا عن هديل ابنة عمك؟ من سيساندها .. عندما تحزن لن يكون لها من تشتكي له ..هل فكرت بهؤلاء ؟ أم بنفسكِ فقط ؟
نكست رأسها و رأيت دموعها تنساب بهدوء ثم قالت :
- أنتِ محقة لكن..أنا أتألم كل يوم .. أبكي .. أعاني من حياتي .. و لا أحد بجانبي يساندني والدتي تكرهني قالتها بنفسها .. إذاً من يحبني ؟؟ عندما أخبرت زينب قالت أنها تحبني .. ثم ماذا؟ أعلم أنها قالت ذلك لتهدئتي أقدر ذلك .. لكن ..
حاولت أن أقول شيئا لكنها لم تدعني أتكلم و قالت :
- لا .. لا تقولي بأنكِ تحبيني .. أعلم أنكِ لا تفعلين .. ثم من قال إني لم أفكر بهذه الأشياء فكرت كثيراً و دعوت ربي بأن ألقى من أفارقهم في الفردوس الأعلى إن شاء الله.. إني حقاً لأتألم عندما أفكر بذلك.. علي الذهاب الآن .