
26-01-2010, 05:09 PM
|
 |
نـجــم الـعـطــاء
|
|
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 23
|
|
وعلى شاكلة الصوفية في تأويلاتهم الباطنية فسر الفلاسفة كابن سينا والفارابي وغيرهما معنى الألوهية في كلمة التوحيد، فالإله عندهم هو بذاته علة تامة أزلية للعالم بما فيه من الحوادث المتجددة، وقد فاضت المخلوقات عن الذات الإلهية أو ما يسمونها بالعلة الأولية أو المبدأ الأول أو واجب الوجود فاضت بالعلل والمعلولات بعدها، وكل علة عندهم أكسبت معلولها قوة الإيجاد والإعداد لما بعدها في تسلسل متصل، وليس العالم عندهم ناتجا عن علم وإرادة وقدرة اتصف بها خالقه، ولكنه صدر عنه صدور المعلول عن علته، فهو سبحانه وتعالى عندهم العلة الأولى التي لا يقوم بها شيء من الصفات والأفعال.
ولما قرروا أن العالم معلول لعلة قديمة أزلية، قالوا أيضا بقدم العالم وأنه لم يزل مع الله أزلا وأبدا، فالرب على أصلهم والعالم متلازمان كل منهما شرط في الآخر، والرب محتاج إلى العالم كما أن العالم محتاج إلى الرب، تعالى الله عن قولهم، وتلك عقيدة فلسفية باطلة تؤدي إلى هدم التوحيد ونسف حقيقة الألوهية التي اتصف بها الإله الحق، لأن الله تعالى لم يزل ذا قدرة ومشيئة وعلم وحياة، ولم يزل فعالا متكلما إذا شاء وكيف شاء، والله سبحانه كان وليس شيء غيره، وليس معه شيء من خلقه فكيف يقترن الخالق والمخلوق اقتران العلة بمعلولها ؟ .
فهؤلاء استخدموا الأقيسة التي تحكم عالم الشهادة في الحكم على خالقهم الذي ليس كمثله شيء، ومعلوم أن الله لا يخضع لقياس تمثيلي يستوي فيه الفرع والأصل، أو قياس شمولي يستوي فيه مع بقية أفراده، كما أنهم أيضا سلبوا عن رب العزة والجلال ما ثبت له في القرآن والسنة من أوصاف الكمال، عندما جعلوه علة تامة أزلية لا يحدث فيها ولا منها شيء، وجعلوه ذاتا خاملة لا حراك فيها ولا علم لها ولا مشيئة ولا قدرة ولا حكمة ولا عزة تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، فالله U عاب المشركين أنهم عبدوا الحجارة والأصنام ونعي عليهم كونها لا تخلق ولا تتكلم . وفضلا عن أن عقيدة السلف في معني الألوهية تدور حول إفراد الله بالعبودية وهي تختلف عن عقيدة الأشعرية والصوفية والفلاسفة إلا أنهم يجعلون المرجع في حدوث المخلوقات هو كمال الصفات التي تقوم بالذات الإلهية كالعلم والإرادة والقدرة والحياة والغني والحكمة وغير ذلك من الصفات عملا بقوله تعالى: } إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ { (يس/82).
ومن ثم فإن الله U صانع كل شيء بقدرته، وعلة كل شيء صُنْعُه، ولا علة لصنعه، وهو سبحانه وتعالى واحد أحد، وتر صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وليس الإله علة وجود الأشياء وإنما العلة صفاته الفاعلة ([1]).
·تصنيف التوحيد إلى نوعين والمصطلحات التي أطلقت على كل نوع .
إذا علمنا أن توحيد الألوهية عند السلف يعني توحيد العبادة، فيجدر بنا أن نذكر أنواع التوحيد عند السلف الصالح حتى يمكن التعرف على عقيدتهم ومنهجهم وأدلتهم في تصنيف التوحيد، فالتوحيد عند السلف نوعان، وقد يقسم إلى ثلاثة أنواع على اعتبار آخر سوف يأتي تفصيله، أما تصنيفه إلى نوعين والأسماء التي قد يرد بها كل نوع فبيانه كالتالي:
الأول: هو توحيد الغاية ويسمى أيضا توحيد الألوهية، وربما يطلق عليه أيضا توحيد العبادة، وتوحيد القصد والطلب، وتوحيد الشرع والقدر، وتوحيد الإرادة .
الثاني: هو توحيد الوسيلة، ويسمى توحيد الربوبية والأسماء والصفات أو يطلق عليه توحيد المعرفة والإثبات، أو توحيد العلم والخبر، وهذا النوع كما تقدم يمثل غاية المطلوب في توحيد الله عند كثير من الخلف أهل النظر والكلام وطائفة كبيرة من الصوفية ([2]) .
أما النوع الأول فسمي توحيد الغاية وتوحيد العبادة لقوله تعالى: } وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ { (الذاريات/56)، فعبادة الله وحده لا شريك له هي الغاية التي خلق الناس من أجلها، وهي أول الدين وآخره وظاهره وباطنه وقد بينت الآية العلة في خلق العباد بلام التعليل في قوله إلا ليعبدون .
ولما جعل أهل الضلال من الجهمية وأصحاب الاعتزال غايتهم في التوحيد تدور حول إثبات الأسماء ونفي الصفات وكذلك الأشعرية من بعدهم الذين صنفوا التوحيد بقسمة عقلية مبنية على ما يجب للذات من الصفات والأفعال، وجعلوا ذلك غايتهم من التوحيد، كان رد الفعل الطبيعي عند الصادقين من الموحدين أتباع السلف أن يبنوا لجميع المسلمين الفرق بين توحيد الغاية وتوحيد الوسيلة، وأن توحيد الغاية هو توحيد العبادة الذي من أجله نزلت الكتب وبعثت الرسل .
أما التوحيد عند هؤلاء ففضلا عن كون تصنيفاتهم له تخالف النصوص القرآنية والنبوية إلا أنها وما يدور حولها من موضوعات لم تكن محلا للخلاف بين الرسل وأممهم لأن الله U أودع في نفوس البشر من الإقرار بعظمته في ذاته وصفاته وأفعاله وربوبيته لخلقه ما أقر به المشركون في الجاهلية، فقد كانوا يعلمون أن الله U خالقهم ورازقهم وأنه عظيم في ذاته لا يماثل شيئا من معبوداتهم التي يعظمونها .
فالنوع الأول هو توحيد الغاية أو توحيد العبادة، ويسمي أيضا توحيد الألوهية أو الإلهية كلاهما صحيح ذلك لأنه معنى قول العبد: لا إله إلا الله، فقد تقدم أن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والإجلال والتعظيم وجميع أنواع العبادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (توحيد العبادة هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، أن يقصد الله بالعبادة ويريده بذلك دون ما سواه وهذا هو الإسلام، فإن الإسلام يتضمن أصلين: أحدهما: الاستسلام لله، والثاني: أن يكون ذلك له سالما، فلا يشركه أحد في الإسلام له وهذا هو الاستسلام لله دون ما سوا) ([3]) .
ويسمي توحيد القصد والطلب لأنه يتعلق بنية المسلم ومطلبه في الحياة، فمن حديث عُمَر بْن الْخَطَّابِ t قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ e يَقُولُ: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَي فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إلى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إِلَيْ) ([4]) .
فالعبادة تتضمن الطلب والقصد والإرادة والمحبة، وهذا لا يتعلق بمعدوم فإن القلب يطلب موجودا فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه ([5]) .
وهذا النوع من التوحيد يسمي أيضا توحيد الإرادة، فالإرادة في الأصل من راد يرود إذا سعي في طلب الشيء، وهي قوة مركبة في قلب الإنسان جعلت اسما لشروع النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أولا يفعل ([6]) .
والإرادة قريبة من القصد والنية والعزم على الفعل وكلها في من أعمال القلوب ومنطقة الكسب، كقوله تعالى: } مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَي لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا { (الإسراء/18) .
وقد سمي هذا التوحيد توحيد الإرادة لتوافق الإرادات، فالعبد إذا حققه توافقت إرادته مع الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية، فالمؤمن الذي كمل إيمانه تتوافق فيه الإرادات، والكافر تتخلف فيه إرادة الله الشرعية فقط، وهي إرادة بمعنى الأمر الشرعي الموجه إلى المكلفين كقوله تعالى: } يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ { (البقرة/185)، وكقوله: } مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ { (المائدة/6)، وتلك الإرادة قد تتخلف وقد يعصيها الإنسان أما إرادة الله الكونية القدرية فهي بمعنى الحكم المنتهي والقضاء المبرم والتقدير الواقع بأن يفعل أو لا يفعل، فمتي قيل: أراد الله كذا على المعنى الكوني فمعناه قضاه وقدره وحكم فيه أنه واقع، وهي بمعنى المشيئة وتسمى الإرادة الكونية، كقوله تعالى: } فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد ُ{ (البروج/16)، وكقوله أيضا: } قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا { (المائدة/17) .
(1) انظر المزيد عن توحيد الفلاسفة: الرسالة العرشية لابن سينا ص 10: 12، وانظر تهافت الفلاسفة لأبي حامد الغزالي ص 37، 38، نشر دار المعارف القاهرة سنة 1972م، والتعليقات ص 20 وهي رسالة من رسائل الفارابي ضمن أحد عشر رسالة، طبعة دار المعارف العثمانية، حيدر أباد الهند سنة 1926م .
(2) للتعرف علي أنواع التوحيد عند السلف، والأسماء التي قد يرد بها كل نوع، انظر اجتماع الجيوش الإسلامية 1/43، ومنهاج السنة النبوية 3/289، واقتضاء الصراط المستقيم لا بن تيمية 1/465، وله أيضا مجموع الفتاوى 3/89، 14/380، ومدارج السالكين 3/449، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص 88 .
(3) الفتاوى الكبرى 5/250 .
(4) البخاري في كتاب بدء الوحي 1/1 (45) .
(5) انظر بتصرف الفتاوى الكبرى لا بن تيمية نشر دار الكتب العلمية 2/298 .
(6) المفردات ص206، 207، ولسان العرب1/362 .
|