سئل سهل بن عبد الله التستري (ت:293) عن قوله تعالى: } وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ { (البقرة/34)، لما أمر إبليس بالسجود أراد منه ذلك أم لا ؟ فقال: أراده ولم يرده ([1])، ويقصد بذلك أنه سبحانه أراده شرعا، وإظهارا عليه إيجابا وتكليفا وهي إرادة الله الشرعية، ولم يرده منه وقوعا وكونا إذ لا يكون في ملكه إلا ما أراد الله تعالى، وهي الإرادة الكونية فلو أراد كونه لكان، ولو أراده فعلا لوقع لقوله سبحانه وتعالى: } إِنَّمَا أَمْرُه ُإِذَا أَرَاد شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون { (يس/82)،فلما لم يكن عُلِم أنه لم يرده، فقد كان الأمران معا، إرادته بالتكليف والتعبد، وإرادته ألا يسجد، فلم يقدر أن يمتنع من ألا يسجد كما لم يقدر من أن يمتنع أن يؤمن ([2]) .
وكما سمي هذا النوع بتوحيد الإرادة، فإنه يسمي أيضا توحيد الشرع والقدر، لأن عقيدة السلف وسط بين الجبرية والقدرية، فالمسلم يجب أن يسلم لله في تدبيره الشرعي وتدبيره الكوني معا كما سبق، فيعمل بشرعه ويؤمن بقدره لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، ومعنى ذلك أن المسلم إذا وفقه الله إلى الطاعة واجتهد في أحكام العبودية وأدى توحيد الألوهية نسب الفضل في طاعته إلى ربه، وأنها كانت بمعونته وتوفيقه لما سبق في حكمه وقضائه وقدره ولا ينسب الفضل إلى نفسه أو يمن به على ربه، قال تعالى: } يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ { (الحجرات:17) .
فهذه أغلب الأسماء والمصطلحات التي تطلق على النوع الأول من التوحيد في كتب العقيدة .
أما النوع الثاني وهو المسمي توحيد الوسيلة، أو توحيد الربوبية والأسماء والصفات أو توحيد المعرفة والإثبات، أو توحيد العلم والخبر، فقد سمي توحيد الوسيلة لأن إثباته أو الإيمان به فقط لا يكفي لدخول الجنة، لأن الله U حدد الغاية من خلق الإنسان بقوله: } وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ { (الذاريات/56)، فعبادة الله وحده لا شريك له وامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل هي الطريق إلى الجنة والغاية التي خلق الناس من أجلها كما تقدم، وعند البخاري من حديث أبي هريرة t أن رسول الله e قال: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَي، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَنْ يأبى ؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَي) ([3])، فالحصول على الجنة سببه الطاعة والعبادة .
أما من يجعل غايته من التوحيد البحث عن وجود الله والتعرف على أوصافه بقوانين العقل أو الذوق، كما هو الحال عند الجهمية والصوفية وأحفادهم من المعتزلة والأشعرية والماتريدية أو حتى بالرجوع إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فهذا كله عند السلف وسيلة لتحقيق العبادة من خلال معرفة المعبود، فتوحيد العبادة يدل على توحيد الربوبية والأسماء والصفات بالتضمن، قال ابن القيم: (وأما توحيد الربوبية الذي أقر به المسلم والكافر وقرره أهل الكلام في كتبهم فلا يكفي وحده، بل هو الحجة عليهم كما بين ذلك سبحانه في كتابه الكريم في عدة مواضع، ولهذا كان حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا)([4]) .
ويسمي النوع الثاني من التوحيد أيضا توحيد الربوبية والأسماء والصفات لأنه يدور حول إثبات الوحدانية في ربوبية الله U من خلال الأدلة النقلية والعقلية، وإثبات أنه سبحانه المنفرد بالخلق والتقدير والملك والتدبير، فلا خلق ولا رزق ولا عطاء ولا منع ولا قبض ولا بسط ولا موت ولا حياة ولا إضلال ولا هدي ولا سعادة ولا شقاوة إلا من بعد إذنه، وكل ذلك بمشيئته وتكوينه إذ لا مالك غيره، ولا مدبر سواه، فهذه حقيقة الربوبية ومعنى كونه رب العالمين ([5]) .
وكذلك فإن هذا النوع يدور أيضا حول الطريقة المثلى في معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله وحقيقة المنهج الصحيح الذي لم يتلوث بشيء من أفكار المخالفين وأدناس الشبهات التي تؤدي إلى هدم التوحيد في قلوب المسلمين ؟ وكيف أثبت السلف الصالح لربهم حقائق الأسماء والصفات ونفوا عنه مماثلة المخلوقات ؟
وكيف أن مذهبهم مذهب بين مذهبين وهدي بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطلين والمخيلين والمجهلين والمشبهين، كما خرج اللبن من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ؟ وكيف وضعوا ضابطا يحكم منهجهم ويبين عقيدتهم في الأسماء والصفات عندما قالوا بإثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله e من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ؟ وعندما قالوا: لا نعطل ولا نؤول ولا نمثل ولا نجهل، ولا نقول: ليس لله يدان ولا وجه ولا سمع ولا بصر ولا حياة ولا قدرة ولا استوي على عرشه، ولا نقول: له يدان كأيدي المخلوق ووجه كوجوههم، وسمع وبصر وحياة وقدرة واستواء كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم، بل قالوا: له ذات حقيقية ليست كسائر الذوات وله صفات حقيقية ليست كسائر الصفات، وليست دربا من المجازات أو نوعا من التخيلات، وكذلك قولهم في وجهه تبارك وتعالى ويديه وسمعه وبصره وكلامه واستوائه، ولم يمنعهم ذلك أن يفهموا المراد من تلك الصفات وحقائقها ([6])، هذا مع التعرف على فقه الأسماء الحسنى وفهم دلالتها مطابقة وتضمنا والتزاما، ودعاء الله بها، دعاء مسألة ودعاء عبادة، وتأثير ذلك في سلوك المسلم واعتقاده .
وهذا النوع يسمي أيضا توحيد العلم والخبر لأن تحصيل العلم به ورد فيما أخبرنا الله به في كتابه وسنة رسوله e، فغاية ما للعقل من جهد محدود في هذا الباب إثبات الخالق ووصفه بأوصاف العظمة، سواء بالنظر إلى الأسباب في الآفاق أو بالنظر إلى النفس وتركيبة الإنسان كما قال سبحانه: } سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ { (فصلت/53) .
أما لو ترك الإنسان لعقله العنان في وصف المعبود فسوف يضع الأقيسة والقواعد والقيود وسوف يتجاوز الحدود لا محالة في حكمه على ذات الله تعالى أو حكمه على صفاته وأفعاله، كما فعل أصحاب المدارس العقلية المنتهجين لفكر الجهمية، وقد كانت النتيجة الحتمية أن وقعوا بجهلهم في الزيغ والضلال ووصفوا الله بالعجز والمحال.
وتوحيد العلم والخبر يسمي أيضا توحيد المعرفة والإثبات لأن المسلم مطالب بمعرفته وإثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله e، فالتوحيد بغير إثبات الصفات هو في حقيقته نقص ومذمة كما هو الحال في الأصل الأول من أصول المعتزلة ([7])، فالمتوحد المنفرد عن غيره لا بد أن ينفرد بصفة يتميز بها ولا يشاركه فيها أحد سواه، أما الذي لا يتميز بشيء عن غيره ولا يوصف بوصف يلفت الأنظار إليه، فهذا لا يكون منفردا ولا متوحدا ولا متميزا، فالله وله المثل الأعلى أثبت لنفسه أوصاف الكمال التي انفرد بها دون غيره، ونفي عن نفسه أوصاف النقص ليثبت توحده في ذاته وصفاته وأفعاله وهذا منهج القرآن، فبعد أن بدأ سبحانه بالتوحيد أولا في قوله U} لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ { (الشورى: 11)، اتبع ذلك بإثبات الصفات العليا التي تليق به فقال: } وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { (الشورى: 11)، فالتوحيد يستلزم إثبات الصفات وهذا هو المناسب للفطرة السليمة والعقول المستقيمة، ومن أجل هذا سمي هذا النوع من التوحيد بتوحيد المعرفة والإثبات.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
(1) قوت القلوب لأبي طالب المكى1/ 128 .
(2) السابق 1/128.
(3) أخرجه البخاري في الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله S6/ 2655 (6851) .
(4) إغاثة اللهفان 1/30 .
(5) شفاء العليل 1/44 بتصرف .
(6) الصواعق المرسلة 2/426 بتصرف .
(7) الأصول الخمسة عند المعتزلة هي التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلها شعارات تستتر تحتها أنواع من الضلالات والشبهات هي أقرب عند التحقيق إلي الكبائر والشركيات انظر التنبيه والرد علي أهل الأهواء والبدع ص38، لأبي الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن المالطي الشافعي تحقيق محمد زاهد بن الحسن الكوثري، نشر المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة سنة 1977م .