وجه الاستدلال بالأحاديث على الشفاعة العظمى
الناظر في هذه الأحاديث يجد أن المؤمنين يرغبون إلى الأنبياء وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم كي يخلصوهم من الموقف العظيم ، إلا أننا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يشفع إنما يشفع في أمته .
قال شارح الطحاوية بعد إيراده لبعض أحاديث الشفاعة التي سقناها : " والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه ، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، في مأتى الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء ، كما ورد في حديث الصور ، فإنه المقصود في هذا المقام ، ومقتضى سياق أول الحديث ، فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس ، ويستريحوا من مقامهم ، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه ، فإذا وصلوا إلى الجزاء إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار ، وكأن مقصود السلف – في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث – هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ، الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها ، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح من الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث " (1) ثم ساق مضمون حديث الصور .
وفي كلام محمد بن محمد بن أبي العز الحنفي عدة أمور :
1- أنه أكد وجود هذا الإشكال في هذه الأحاديث ، وممن ذكر هذا الإشكال ابن حجر العسقلاني ، ونقله عن الدراوردي ، فإنه قال : " كأن راوي هذا الحديث ركب شيئاً على غير أصله ، وذلك أن في أول ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف ، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار ، يعني وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط ، وسقوط من يسقط في تلك الحالة في النار ، ثم يقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج " (2) قال ابن حجر بعد نقله كلام الدراوردي " وهو إشكال قويٌّ " (3) .
2- وقد أجاب شارح الطحاوية عن هذا الإشكال – كما نقلناه عنه – أن الذين نقلوا هذه النصوص قصَّروا في النقل ، وسر هذا التقصير أنهم قصدوا الرد على الخوارج الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها ، وزعموا أن كل من دخل النار فإنه فيها خالد ، واحتج على ما ذهب إليه بحديث الصور الذي يصرح فيه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع أولاً كي يأتي الحق للقضاء بين الناس ، ثم يشفع مرة أخرى لدخول الجنة ، ولو كان حديث الصور هذا صحيحاً لكان فيه حل لهذا الإشكال ، ولكنه حديث ضعيف كما بينه الشيخ ناصر الدين الألباني في تحقيقه لأحاديث الطحاوية .
ولعل ما ذهب إليه القاضي عياض وتابعه النووي وابن حجر وغيرهما عليه أكثر دقة وتوفيقاً مما قاله شارح الطحاوية ، قال ابن حجر : " وقد أجاب عن هذا الإشكال عياض وتبعه النووي وغيره بأنه قد وقع في حديث حذيفة المقرون بحديث أبي هريرة بعد قوله : " فيأتون محمداً ، فيقوم ويؤذن له " أي في الشفاعة ، وترسل الأمانة والرحم ، فيقومان جنبي الصراط يميناً وشمالاً ، فيمر أولكم كالبرق " الحديث ، قال عياض : فبهذا يتصل الكلام ، لأن الشفاعة التي لجأ إليه الناس فيها هي الإراحة من كرب الموقف ، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج ، وقد وقع في حديث أبي هريرة .. الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد ، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين ، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه ، فكان الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء والإراحة من كرب الموقف ، قال : وبهذا تجتمع متون الأحاديث ، وتترتب معانيها " (4) .
وقد زاد الحافظ ابن حجر هذه المسألة إيضاحاً ، وأورد النصوص الدالة على أن في بعض الأحاديث شيئاً من الاختصار فقال : " قلت : فكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر ، وسيأتي بقيته في شرح حديث الباب الذي يليه وفيه " حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً ، وفي جانبي الصراط كلاليب مأمورة بأخذ من أمرت به ، فمخدوش ناج ومكدوس في النار " فظهر منه أنه صلى الله عليه وسلم أول ما يشفع ليقضى بين الخلق ، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك .
وقد وقع ذلك صريحاً في حديث ابن عمر اختصر في سياقه الحديث الذي ساقه أنس وأبو هريرة مطولاً . وقد تقدم في كتاب الزكاة من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه بلفظ : " إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ، ثم بموسى ، ثم بمحمد ، فيشفع ليقضى بين الخلق ، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم " .
ووقع في حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى " ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني ، ثم يؤذن لي في الكلام ، ثم تمر أمتي على الصراط ، وهو منصوب بين ظهراني جهنم فيمرون ".
وفي حديث ابن عباس من رواية عبد الله بن الحارث عنه عند أحمد " فيقول عز وجل: يا محمد ما تريد أن أصنع في أمتك ؟ فأقول : يا رب عجل حسابهم " وفي رواية عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى " فأقول أنا لها ، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه نادى مناد : أين محمد وأمته " .
وتعرَّض الطيبي للجواب عن الإشكال بطريق آخر فقال : يجوز أن يراد بالنار الحبس والكرب والشدة التي كان أهل الموقف فيها من دنو الشمس إلى رؤوسهم وكربهم بحرها وسفعها حتى ألجمهم العرق ، وأن يراد بالخروج منها خلاصهم من تلك الحالة التي كانوا فيها .
قال ابن حجر : وهو احتمال بعيد ، إلا أن يقال إنه يقع إخراجان وقع ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه والمراد به الخلاص من كرب الموقف ، والثاني في حديث الباب الذي يليه ويكون قوله فيه : " فيقول من كان بعيد شيئاً فليتبعه " بعد تمام الخلاص من الموقف ونصب الصراط والإذن في المرور عليه ، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور فيتحدا " .
وأجاب القرطبي عن أصل الإشكال بأن في قوله آخر حديث أبي زرعة عن أبي هريرة بعد قوله صلى الله عليه وسلم فأقول : يا رب أمتي أمتي ، " فيقال : أدخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب " .
فقال : في هذا ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيما طلب من تعجيل الحساب ، فإنه لما أذن له في إدخال من لا حساب عليه دل على تأخير من عليه حساب ليحاسب ، ووقع في حديث الصور الطويل عند أبي يعلى : " فأقول وعدتني الشفاعة ، فشفعتني في أهل الجنة يدخلون الجنة ، فيقول الله : وقد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة " .
قلت : وفيه إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن ، ثم ينادي المنادي : ليتبع كل أمة من كانت تعبد ، فيسقط الكفار في النار ، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق ، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه ، فيطفأ نور المنافقين فيسقطون في النار أيضاً ، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجا عند القنطرة بينهم ثم يدخلون الجنة " (5) .
قلت : فهذا لو ثبت لرفع الإشكال لكن الكلبي ضعيف ، ومع ذلك لم يسنده ، ثم هو مخالف لصريح الأحاديث الصحيحة أن سؤال المؤمنين الأنبياء واحداً بعد واحد إنما يقع في الموقف قبل دخول المؤمنين الجنة والله أعلم .
--------------------------------
(1) شرح الطحاوية : ص 255 .
(2) فتح الباري : (11/437) .
(3) فتح الباري : (11/438) .
(4) فتح الباري : (11/438) .
(5) فتح الباري : (11/438) .