القواعد التي يحاسب العباد على أساسها
لو عذَّب الله جميع خلقه لم يكن ظالماً لهم ، لأنهم عبيده ، وملكه ، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء .
ولكن الحق تبارك وتعالى يحاكم عباده محاكمة عادلة ، لم تشهد البشرية لها مثيلاً من قبل ، وقد بين لنا ربنا في كثير من النصوص جملة القواعد التي تقوم عليها المحاكمة والمحاسبة في ذلك اليوم .
وسنذكر من ذلك ما ظهر لنا من تلك القواعد .
1- العدل التام الذي لا يشوبه ظلم :
يُوَفِّي الحقُّ – عز وجل – عباده يوم القيامة أجورهم كاملة غير منقوصة ، ولا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل ( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) [ البقرة : 281 ] .
وقال لقمان في وصيته لابنه معرفاً إياه بعدل الله : ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) [ لقمان : 16 ] .
وقال الحق في موضع آخر : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ) [ النساء : 40 ] ، وقال : ( وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) [ النساء : 77 ] . وقال : ( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) [ النساء: 124 ] .
وقال تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [ الزلزلة : 7-8 ] ، فقد أخبر الحق تبارك وتعالى في هذه النصوص أنه يُوفِّي كل عبدٍ عمله، وأنه لا يضيع منه ، ولا ينقص منه مقدار الذرة ، وهي الهباءة التي في أشعة الشمس إذا دخلت من الطاق ، ولا مقدار الفتيل ولا النقير ، والفتيل هو الخيط الذي يكون في شق النواة ، والنقير : النقرة الصغيرة التي تكون في ظهر النواة .
2- لا يؤخذ أحد بجريرة غيره :
قاعدة الحساب والجزاء التي تمثل قمة العدل ومنتهاه أن الله يجازي العباد بأعمالهم ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، ولا يحمل الحق تبارك وتعالى أحداً وزر غيره ، كما قال تعالى : ( وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) [ الأنعام : 164 ] . وهذا هو العدل الذي لا عدل فوقه ، فالمهتدي يقطف ثمار هدايته ، والضال ضلاله على نفسه ، ( مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) [ الإسراء : 15 ] .
وهذه القاعدة العظيمة إحدى الشرائع التي اتفقت الرسالات السماوية على تقريرها ، قال تعالى : ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى - وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى - أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى - وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى - وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى - ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى ) [ النجم : 36-41 ] .
يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى : ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [ الأنعام : 164 ] " أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى ، لا تؤخذ نفس بذنب غيرها ، بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها ، وأصل الوزر الثقل ، ومنه قوله تعالى : ( وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ) [الشرح : 2] ، وهو هنا الذنب ، .. والآية نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يقول : اتبعوا سبيلي أحمل أوزاركم ، ذكره ابن عباس ، وقيل : إنها نزلت رداً على العرب في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بأبيه وابنه ، وبجريرة حليفه " (1) .
الذين يجمعون أثقالاً مع أثقالهم :
قد يعارض بعض أهل العلم هذا الذي ذكرناه من أن الإنسان لا يحمل شيئاً من أوزار الآخرين بمثل قوله تعالى : ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ) [ العنكبوت : 13] ، وقوله : ( وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ) [ النحل : 25 ] .
وهذا الذي ذكروه موافق لما ذكرناه من النصوص ، وليس بمعارض لها ، فإن هذه النصوص تدل على أن الإنسان يتحمل إثم ما ارتكب من ذنوب ، وإثم الذين أضلهم بقوله وفعله ، كما أن دعاة الهدى ينالون أجر ما عملوه ، ومثل أجر من اهتدى بهديهم ، واستفاد بعلمهم ، فإضلال هؤلاء لغيرهم هو فعل لهم يعاقبون عليه (2) .
3- إطلاع العباد على ما قدموه من أعمال :
من إعذار الله لخلقه ، وعدله في عباده أن يطلعهم على ما قدموه من صالح أعمالهم وطالحها ، حتى يحكموا على أنفسهم ، فلا يكون لهم بعد ذلك عذر .
قال تعالى : ( إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) [المائدة : 105] ، وقال : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ) [ آل عمران : 30 ] ، وقال : ( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) [ الانفطار : 5 ] ، وقال : ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) [ الكهف : 49 ] .
وإطلاع العباد على ما قدموه يكون بإعطائهم صحائف أعمالهم ، وقراءتهم لها ، فقد أخبرنا ربنا – تبارك وتعالى – أنه وكل بكل واحد منا ملكين يسجلان عليه صالح أعماله وطالحها ، فإذا مات ختم على كتابه ، فإذا كان يوم القيامة أعطى العبد كتابه ، وقيل له : اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً .
قال تعالى : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا - اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) [ الإسراء : 13-14] .
وهو كتاب شامل لجميع الأعمال كبيرها وصغيرها ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) [ الكهف : 49 ] .
4- مضاعفة الحسنات دون السيئات :
ومن رحمته أن يضاعف أجر الأعمال الصالحة ( إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) [ التغابن : 17 ] .
وأقل ما تضاعف به الحسنة عشرة أضعاف ( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) [الأنعام : 160] . أما السيئة فلا تجزى إلا مثلها ( وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ) [ الأنعام : 160 ] . وهذا مقتضى عدله تبارك وتعالى .
وقد روى الحاكم في مستدركه ، وأحمد في مسنده بإسناد حسن عن أبي ذر رضي الله عنه قال : حدثنا الصادق المصدوق فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : " الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد .. والسيئة واحدة أو أغفرها ، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا ما لم تشرك بي ، لقيتك بقرابها مغفرة " (3) .
ومن الأعمال التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تضاعف عشرة أضعاف قراءة القرآن ، ففي الحديث الذي يرويه الترمذي والدارمي بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حرفاً من كتاب الله ، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها . لا أقول : ( الم ) حرف . ألف حرف . ولا حرف . وميم حـرف " وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . غريب إسناداً (4) .
وأخبرنا رسولنا صلوات الله وسلامه عليه أيضاً أن الذكر يضاعف عشرة أضعاف ، ففي سنن الترمذي والنسائي وأبي داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خصلتان – أو خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة ، وهما يسيرٌ ، ومن يعمل بهما قليل : يسبح الله في دبر كل صلاة عشراً ، ويحمده عشراً ، ويكبره عشراً ، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده ، قال : فلك خمسون ومائة باللسان ، وألف وخمسمائة في الميزان ، وإذا أخذت مضجعك تسبحه وتكبره وتحمده مائة ، فتلك مائة باللسان ، وألف في الميزان ، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة ؟ قالوا : فكيف لا نحصيها ؟ قال : يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته ، فيقول : اذكر كذا ، اذكر كذا ، حتى ينفتل ، فلعله لا يفعل ، ويأتيه وهو في مضجعه ، فلا يزال ينومه حتى ينام " ، أخرجه الترمذي والنسائي .
وفي رواية أبي داود بعد قوله : " في الميزان " الأولى ، قال : " ويكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه ، ويحمد ثلاثاً وثلاثين ، ويسبح ثلاثاً وثلاثين ، فذلك مائة باللسان ، وألف في الميزان ، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده .
قالوا : يا رسول الله ، كيف هما يسيرٌ ، ومن يعمل بهما قليل ؟ قال : يأتي أحدكم الشيطان في منامه ، فينومه قبل أن يقوله ، ويأتيه في صلاته فيذكره حاجته قبل أن يقولـها " (5) .
وحدثنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء الذي يرويه البخاري وغيره تردده صلى الله عليه وسلم بين ربه وموسى ، حيث كان يشير عليه موسى في كل مرة أن يرجع إلى ربه ، فيسأله أن يخفف عنه من الصلاة ، حتى أصبحت خمساً بعد أن كانت خمسين .. قال في ختام ذلك : " قال الجبار تبارك وتعالى : إنه لا يبدل القول ، كما فرضت عليك في أم الكتاب ، فكل حسنة بعشرة أمثالها ، فهي خمسون في أم الكتاب ، وهي خمس عليك ، فرجع إلى موسى . فقال : كيف فعلت ؟ قال : خففت عنا ، أعطانا بكل حسنة عشرة أمثالها " .
وقد يضاعفها أكثر من ذلك ، وقد تصل المضاعفة إلى سبعمائة ضعف ، وأكثر من ذلك ، ومن ذلك أجر المنفق في سبيل الله ، قال تعالى : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [ البقرة : 261 ] ، قال ابن كثير : هذا مثل ضربه الله لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته ، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. فقال : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) [ البقرة : 261 ] قال سعيد بن جبير : " يعني في طاعة الله " . وقال مكحول : يعني به الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك . وعن ابن عباس : الجهاد والحج يضعف الدرهم فيها إلى سبعمائة ضعف " (6) .
وأورد ابن كثير عند تفسير هذه الآية الحديث الذي يرويه مسلم والنسائي وأحمد عن عبد الله بن مسعود أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتأتين يوم القيامة بسبعمائة مخطومة " هذا لفظ أحمد والنسائي . ولفظ مسلم : جاء رجل بناقة مخطومة ، فقال : يا رسول الله . هذه في سبيل الله ، فقال : " لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة " (7) .
وأما الأعمال التي تضاعف أضعافاً لا تدخل تحت حصر ، ولا يحصيها إلا الذي يجزى بها : الصوم ، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله تعالى : " إلا الصوم فإنه لي : وأنا أجزي به " (8) .
والسر في كون الصائم يعطى من غير تقدير ، أن الصوم من الصبر ، والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب ، قال تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ الزمر : 10 ] ، قال القرطبي : " وقال أهل العلم : كل أجر يكال كيلاً ، ويوزن وزناً إلا الصوم ، فإنه يحثى ويغرف غرفا " (9) .
ومن الصبر : الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها وكربها التي يبتلي الله بها عباده ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) [ البقرة : 155-157 ] .
وعندما يرى أهل العافية عظم أجر الصابرين يتمنون أن تكون جلودهم قرضت بالمقاريض لينالوا أجر الصابرين ، ففي سنن الترمذي عن جابر ، ومعجم الطبراني عن ابن عباس بإسناد حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليودَّن أهل العافية يوم القيامة ، أن جلودهم قرضت بالمقاريض ، مما يرون من ثواب أهل البلاء " (10) .
ومن فضل الله تبارك وتعالى أن المؤمن الذي يهم بفعل الحسنة ، ولكنه لا يفعلها تكتب له حسنة تامة ، والذي يهم بفعل السيئة ، ثم تدركه مخافة الله ، فيتركها تكتب له حسنة تامة ، ففي صحيح البخاري ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل ، قال : " إن الله كتب الحسنات والسيئات ، ثم بيَّن ذلك ، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها ، كتبها الله له عنده حسنة كاملة ، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة ، فإن هو همَّ بها ، فعملها ، كتبها الله له سيئة واحدة " (11) .
تبديل السيئات حسنات :
وتبلغ رحمة الله بعباده وفضله عليهم أن يبدِّل سيئاتهم حسنات ، ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة ، وآخر أهل النار خروجاً منها . رجل يؤتى به يوم القيامة . فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، فيقال : عملت يوم كذا وكذا ، وعملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا .
فيقول نعم : لا يستطيع أن ينكر . وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه .
فيقال له : فإن لك مكانا كل سيئة حسنة .
فيقول : رب ، عملت أشياء لا أراها ها هنا " .
فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه (12) .
5- إقامة الشهود على الكفرة والمنافقين :
أعظم الشهداء في يوم المعاد على العباد هو ربهم وخالقهم وفاطرهم ، الذي لا تخفى عليه خافية من أحوالهم ، قال تعالى : ( وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) [ يونس : 61 ] ، وقال : ( إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ) [النساء : 33] .
ولكن الله يحب الإعذار على خلقه ، فيبعث من مخلوقاته شهداء على المكذبين الجاحدين حتى لا يكون لهم عذر ، وقد أشارت أكثر من آية إلى الشهداء الذين يشهدون على العباد ، كقوله تعالى : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) [ غافر : 51 ] ، وقوله تعالى : ( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء ) [الزمر :69] .
وأول من يشهد على الأمم رسلها ، فيشهد كل رسول على أمته بالبلاغ ، ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا ) [ النساء : 41 ] ، ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء ) [النحل: 89] .
وقوله : ( شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، هم الرسل ، لأن كل أمة رسولها منها ، كما قال تعالى : ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ) [ التوبة : 128 ] وقال تعالى : ( وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) [ القصص : 75 ] .
وكما يشهدون على أممهم بالبلاغ يشهدون عليهم بالتكذيب ، ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) [المائدة : 109] ، وقال: ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ - فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ) [الأعراف : 6-7] .
قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى : " هذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلوا إليهم ، ... وقول الرسل : ( لا علم لنا ) قال مجاهد والحسن البصري والسدي : إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم .. وقال ابن عباس : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا ، رواه ابن جرير ثم اختاره ، ولا شك أنه قول حسن ، وهو من باب التأدب مع الله عز وجل ، أي لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء ، فنحن وإن كنا أجبنا وعرفنا ما أجبنا ، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره لا علم لنا بباطنه ، وأنت العليم بكل شيء ، المطلع على كل شيء ، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا شيء " (13) .
ثم إن الأمم تكذب رسلها ، وتقول كل أمة ما جاءنا من نذير ، فتأتي هذه الأمة : أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشهد للرسل بالبلاغ ، كما قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) [البقرة : 143] .
وقد أورد البخاري في صحيحه في كتاب التفسير الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يدعى نوح يوم القيامة ، لبيك وسعديك يا رب ، فيقول : هل بلغت ؟ فيقول : نعم ، فيقال لأمته : " هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير . فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته . فيشهدون أنه قد بلغ ، ويكون الرسول عليكم شهيداً ، فذلك قوله جل ذكره : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) [البقرة : 143] " (14) .
وقد أفاد ابن حجر أنه قد جاء الحديث عند أحمد والنسائي وابن ماجة بلفظ : " يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل ، ويجيء النبي ومعه الرجلان ، ويجيء النبي ومعه أكثر من ذلك . قال : فيقال لهم : أبلغكم هذا ؟ فيقولون : لا ، فيقال للنبي : أبلغتهم ؟ فيقول: نعم ، فيقال له : من يشهد لك ؟ .. " الحديث . وذكر ابن حجر أيضاً أن في بعض روايات الحديث زيادة : " فيقال ما علمكم ؟ فيقولون : أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلغوا فصدقناه " (15) .
ومن الأشهاد الأرض والأيام والليالي ، تشهد بما عمل فيها وعليها ، ويشهد المال على صاحبه ، وقد عقد القرطبي في تذكرته لهذا الموضوع باباً ، وذكر فيه حديث الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ( يومئذٍ تحدث أخبارها ) [ الزلزلة : 4 ] . قال : " أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ، تقول : عمل يوم كذا ، كذا وكذا ، فهذه أخبارها " .
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب .
ويشهد على العبد أيضاً ملائكة الرحمن الذين كانوا يسجلون عليه صالح أعماله وطالحها ، كما قال تعالى : ( وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) [ق : 21] ، والسائق والشهيد الملكان اللذان كانا موكلين بتلك النفس .
وتشهد الملائكة على العباد بما كانوا يعملون ، ( وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ ) [ هود : 18 ] ، فإذا لج العبد في الخصومة ، وكذب ربه ، وكذب الشهود الذين شهدوا عليه ، أقام الله عليه شاهداً منه ، فتشهد على المرء أعضاؤه ، وقد مضى بيان هذا .
--------------------------------
(1) تفسير القرطبي: (4/157) .
(2) توسع أ . د . عمر الأشقر في بحث هذه المسألة في كتابه ( مقاصد المكلفين ) .
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، ورقم الحديث : 128 .
(4) مشكاة المصابيح : (1/661) رقم الحديث : 2137 .
(5) جامع الأصول : (4/372) . رقم الحديث : 2148 .
(6) تفسير ابن كثير : (1/561) .
(7) تفسير ابن كثير : (1/562) .
(8) مشكاة المصابيح : (1/613) ، ورقمه : 1959 . وهو في صحيح مسلم ، ورقمه : 1151 ورواه البخاري في مواضع : 1894 ، 1904 ، 5927 . واللفظ لمسلم .
(9) تفسير القرطبي : (15/240) .
(10) صحيح الجامع الصغير : (5/111) ، ورقم الحديث : 5360 .
(11) صحيح البخاري ، كتاب الرقاق ، باب من هم بحسنة أو سيئة ، فتح الباري : (11/323) .
(12) صحيح مسلم : (1/177) . ورقم الحديث : 190 .
(13) تفسير ابن كثير : (2/676) .
(14) صحيح البخاري : (4487) ، كتاب التفسير : (8/171) .
(15) فتح الباري : (8/172) .