الحوض
يكرم الله عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم في الموقف العظيم بإعطائه حوضاً واسع الأرجاء ، ماؤه أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء ، يأتيه هذا الماء الطيب من نهر الكوثر ، الذي أعطاه لرسوله صلى الله عليه وسلم في الجنة ، ترد عليه أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً .
وقد اختلف أهل العلم في موضعه فذهب الغزالي والقرطبي إلى أنه يكون قبل المرور على الصراط في ***ات القيامة ، واستدلوا على ذلك بأنه يؤخذ بعض وارديه إلى النار فلو كان بعد الصراط لما استطاعوا الوصول إليه (1) .
واستظهر ابن حجر أن مذهب البخاري أن الحوض يكون بعد الصراط ، لأن البخاري أورد أحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة ، وأحاديث نصب الصراط " (2) .
وما ذهب إليه القرطبي أرجح ، وقد استعرض ابن حجر أدلة الفريقين في كتابه القيم: ((فتح الباري)) (3) .
المبحث الأول
الأحاديث الواردة فيه
الأحاديث الواردة في الحوض متواترة ، لا شك في تواترها عند أهل العلم بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من خمسين صحابياً ، وقد ذكر ابن حجر أسماء رواة أحاديثه من الصحابة (4) .
ونحن نسوق هنا بعض هذه الأحاديث التي أوردها الخطيب التبريزي في مشكاته (5) :
1- عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حوضي مسيرة شهر ، وزواياه سواء (6) . ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السمـاء ، من يشرب منها فلا يظمأ أبداً " . متفق عليه .
2- وعن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن حوضي أبعد من أيلة (7) من عدن لهو أشدُّ بياضاً من الثلج ، وأحلى من العسل باللبن ، ولآنيته أكثر من عدد النجوم ، وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه " .
قالوا : يا رسول الله ! أتعرفنا يومئذ ؟ قال : " نعم لكم سيماء (8) ليست لأحد من الأمم ، تردون علي غراً محجلين من أثر الضوء " . رواه مسلم .
3- وفي رواية له (9) عن أنس . قال : " ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء " .
4- وفي أخرى له عن ثوبان ، قال : سئل عن شرابه . فقال : " أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل يغت (10) فيه ميزابان يُمدَّانه من الجنة ، أحدهما من ذهب والآخر من وَرِق " .
المبحث الثاني
الذين يردون الحوض والذين يذادون عنه
وردت أحاديث كثيرة بيَّن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم الذين يردون على حوضه ، والذين يمنعون من الشرب منه ، ونحن نذكر لك بعض ما أورده ابن الأثير منها في جامع الأصول (11) :
1- روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعن إليَّ رجال منكم ، حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني (12) ، فأقول : أي رب ، أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ؟ " .
2- ورويا أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني ، حتى إذا رأيتهم ، ورفعوا إليّ ، اختلجوا دوني ، فلأقولن : أي رب ، أصيحابي ، أصيحابي ، فليقالن لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " .
وفي رواية " ليردن عليَّ ناس من أمتي .. الحديث ، وفي آخره : فأقول : سحقاً لمن بدل بعدي " أخرجه البخاري ومسلم .
3- ورويا عن أبي حازم رحمه الله عن سهل بن سعد رضي الله عنه ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أنا فرطكم على الحوض ، من ورد شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، وليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثم يحال بيني وبينهم ، قال أبو حازم : فسمع النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا الحديث ، فقال : هكذا سمعت سهلاً يقول ؟ فقلت : نعم ، قال : وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد ، فيقول : فإنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي " . أخرجه البخاري ومسلم .
4- ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي – أو قال : من أمتي – فيحلَّؤُون (13) عن الحوض ، فأقول : يا رب ، أصحابي ، فيقول : إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى " وفي رواية (( فيجلون )) أخرجه البخاري ومسلم .
وللبخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينما أنا قائم على الحوض ، إذا زمرة ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلم ، فقلت : إلى أين ؟ فقال : إلى النار والله ، فقلت : ما شأنهم ؟ فقال : إنهم قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة أخرى ، حتى عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال لهم : هلم ، قلت : إلى أين ؟ قال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنهم قد ارتدوا على أدبارهم ، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم " (14) .
ولمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ترد عليَّ أمتي الحوض ، وأنا أذود الناس عنه ، كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله ، قالوا : يا نبي الله تعرفنا ؟ قال : نعم ، لكم سيما ليست لأحد غيركم ، تردون غراً محجلين من آثار الوضوء ، وليصدن عني طائفة منكم ، فلا يصلون ، فأقول : يا رب ، هؤلاء من أصحابي ، فيجيء ملك ، وهل تدري ما أحدثوا بعدك ؟ " .
وفي أخرى : " إن حوضي أبعد من أيلة من عدن ، لهو أشد بياضاً من الثلج ، وأحلى من العسل باللبن ، ولآنيته أكثر من عدد النجوم ، وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه ، قالوا : يا رسول الله ، أتعرفنا يومئذ ؟ قال : نعم ، لكما سيما (15) ليست لأحد من الأمم ، تردون علي غراً محجلين " .
وقد أورد القرطبي في التذكرة بعض الأحاديث التي سقناها ثم قال : " قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين : فكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه مالا يرضاه الله ، ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض ، المبعدين عنه ، وأشدهم طرداً من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها ، والروافض على تباين ضلالها ، والمعتزلة على أصناف أهوائها ، فهؤلاء كلهم مبدلون .
وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع .
ثم البعد قد يكون في حال ، ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ، ولم يكن في العقائد ، وعلى هذا يكون نور الوضوء يعرفون به ، ثم يقال لهم : سحقاً ، وإن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُظهرون الإيمان ويسرون الكفر فيأخذهم بالظاهر ، ثم يكشف لهم الغطاء فيقال لهم : سحقاً سحقاً ، ولا يخلد في النار إلا كل جاحد مبطل ، ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان " (16) .
--------------------------------
(1) انظر تذكرة القرطبي : 302 .
(2) انظر فتح الباري : (11/466) .
(3) فتح الباري : (11/466) .
(4) فتح الباري : (11/468) .
(5) مشكاة المصابيح : (3/68) .
(6) أي مربع لا يزيد طوله عن عرضه شيئاً .
(7) هي مدينة العقبة في الأردن .
(8) السيماء : العلامة .
(9) أي لمسلم .
(10) يَغت ، أي : يصُبَ ويسيل .
(11) جامع الأصول : 1/468 .
(12) اختلجوا : أخذوا بسرعة .
(13) يحلؤون ، أي : يدفعون ويطردون .
(14) همل النعم : الإبل الضالة . والمعنى أن الناجي منهم قليل .
(15) السيما : العلامة .
(16) التذكرة للقرطبي : ص 306 .