1- معنى المحو والإثبات في الصحف ، وزيادة الأجل ونقصانه :
قد يشكل على بعض الناس مواضع في كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله وسلم ، فيقول بعضهم : إذا كان الله علم ما هو كائن ، وكتب ذلك كله عنده في كتاب فما معنى قوله : (
يمحو الله ما يشاء ويثبت ) [ الرعد : 39 ] .
وإذا كانت الأرزاق والأعمال والآجال مكتوبة لا تزيد ولا تنقص فما توجيهكم لقوله صلى الله عليه وسلم : "
من سرَّه أن يُبسط له في رزقه ، ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه " .
وكيف تفسرون قول نوح لقومه : (
أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون - يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ) [ نوح : 3-4 ] .
وما قولكم في الحديث الذي فيه أن الله جعل عمر داود عليه السلام مائة سنة بعد أن كان أربعين سنة .
والجواب أن الأرزاق والأعمار نوعان :
نوع جرى به القدر وكتب في أم الكتاب ، فهذا لا يتغير ولا يتبدل ، ونوع أعلم الله به ملائكته فهذا هو الذي يزيد وينقص ، ولذلك قال الله تعالى : (
يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) [ الرعد : 39] . وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي قدر الله فيه الأمور على ما هي عليه .
ففي كتب الملائكة يزيد العمر وينقص ، وكذلك الرزق بحسب الأسباب ، فإن الملائكة يكتبون له رزقاً وأجلاً ، فإذا وصل رحمه زيد له في الرزق والأجل ، وإلا فإنه ينقص له منهما
(1) .
" والأجل أجلان : أجل مطلق يعلمه الله ، وأجل مقيد ، فإن الله يأمر الملك أن يكتب لعبده أجلاً ، فإن وصل رحمه ، فيأمره بأن يزيد في أجله ورزقه . والملك لا يعلم أيزاد له في ذلك أم لا ، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر ، فإذا جاء الأجل لم يتقدم ولم يتأخر "
(2) .
يقول ابن حجر العسقلاني : " الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل ، والذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل ، ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي ، فيقع فيه المحو والإثبات ، كالزيادة في العمر والنقص ، وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله "
(3) .
2- التوفيق بين الأقدار وبين " كل مولود يولد على الفطرة " :
وقد يقول بعض الناس كيف يكون الله قدر كل شيء مع أنه صح عن رسولنا أن كل مولود يولد على الفطرة ؟
فالجواب أنه لا تناقض ولا تعارض بين النصوص المبينة أن كل شيء بقدر ، والنصوص المخبرة بأن مولود يولد على الفطرة .
فالله فطر عباده على السلامة من الاعتقادات الباطلة كما فطرهم على قبول العقائد الصحيحة ، ثم إذا ولدوا أحاطت بهم شياطين الإنس والجن ، فأفسدت فطرهم وغيَّرتها ، وثبَّت الله من شاء الله هدايته على الحق .
والله يعلم من يثبت على الفطرة السويّة السليمة ، ومن تتغير فطرته ، علم ذلك في الأزل وكتبه ، فلا منافاة بين هذه النصوص ولا تعارض بينهما ، ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله : "
إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطاناً " .
والله يعلم من الذي تجتالهُ الشياطين وتغرر به ، ويعلم من يثبت على الحق ، ويهدى للصواب .
وإذا عرفت هذا الذي بيناه علمت كيف تُوَجِّه قوله صلى لله عليه وسلم : "
خلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً ، وخلق فرعون في بطن أمه كافراً " . رواه ابن عدي في الكامل ، والطبراني في الأوسط
(4) .
3- إذا كانت الأمور مقدرة فما معنى قوله : ( وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) :
وقد يحتج بعض الناس للقدرية النفاة بقوله تعالى : (
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) [ النساء : 79 ] ، ويظنون أن المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي .
وهؤلاء أخطؤوا الفهم ، فالمراد بالحسنات هنا النعم ، والمراد بالسيئات المصائب ، يدلنا على صحة هذا الفهم سياق النص . قال تعالى : (
أينما تكنوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كلٌ من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً - ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) [ النساء : 78 –79 ] .
فالله يحكي عن المنافقين أنهم كانوا إذا أصابتهم حسنة مثل الرزق والنصر والعافية ، قالوا : هذه من الله ، وإذا أصابتهم سيئة – مثل ضَرْبٍ ومرض وخوف من عدو – قالوا : هذه من عندك يا محمد . أنت الذي جئت بهذا الدين الذي عادانا الناس لأجله ، وابتلينا لأجله بهذه المصائب .
فالحسنات هنا النعم ، والسيئات المصائب ، وهذه كقوله تعالى : (
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ) [ آل عمران : 120 ] ، وقوله : (
وبلونهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ) [ الأعراف : 186 ] .
ثم قرر الحق أن المصائب والنعم لا تخرج عن قدر الله ومشيئته (
قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ) [ النساء : 78 ] .
ثم بين الحق تبارك وتعالى أن السيئات التي هي المصائب ليس لها سبب إذا أذنب العبد إلا من نفسه ، وأما ما يصيب العبد من الخير فلا تنحصر أسبابه ، لأنه من فضل الله ، يحصل بعمل العبد وبغير عمله من إنعام الله عليه ، فالواجب على العباد أن يشكروا ربهم ويحمدوه على ما أنعم به عليهم ، كما يجب أن يكثروا من التوبة والأوبة والاستغفار مما اقترفوه من ذنوب سببت لهم المصائب والبلايا .
وإذا أنت تأملت في قوله : (
ما أصابك من حسنة ... ) (
وما أصابك من سيئة ) علمت أن الحسنة والسيئة هي فعل الله بالعباد التي هي المصائب والنعم ، أما قوله (
فمن نفسك ) أي بسبب ذنوب العبد وخطاياه ، وهذا وإن كان مقدراً إلا أن الله قدر تكون المصيبة بسبب الذنب .
أما الحسنات والسيئات التي هي أفعال العباد فلا يقال فيها : (
ما أصابك ) وإنما يقول : (
من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ) [ القصص : 84 ] . وإنما قال هنا : (
جاء ) لأن الحسنة فعل الجائي ، ولذلك صرح بهذا في جانب الذنوب والمعاصي : (
فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ) [القصص:84 ]
(5) .
4- كيف يخلق الله الشر ويقدره ؟
وقد يشاغب بعض القدرية فيقولون : إنَّ الله مقدس عن فعل الشر ، وإن الواجب على العباد أن ينزهوا ربهم عن الشر وفعله ، وهؤلاء خلطوا حقاً بباطل فالتبست عليهم الأمور
وجواب هذه الشبهة أن الله تعالى لا يخلق الشرَّ المحض الذي لا خير فيه ، ولا منفعة فيه لأحد ، وليس فيه حِكْمَة ولا رحمة ، ولا يعذب الناس بلا ذنب ، وقد بين العلماء أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما ما في خلق إبليس والحشرات والكواسر من الحكمة والرحمة .
فالشيء الواحد يكون خلقه باعتبار خيراً ، وباعتبار آخر شراً ، فالله خلق إبليس يبتلي به عباده ، فمنهم من يمقته ، ويحاربه ويحارب منهجه ، ويعاديه ويعادي أولياءَه ، ويوالي الرحمن ويخضع له ، ومنهم من يواليه ويتبع خطواته .
--------------------------------
(1) راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 8/540 .
(2) راجع المصدر السابق : 8/517 .
(3) فتح الباري : 11/488 .
(4) صحيح الجامع الصغير : 3/113 ورقم الحديث : 3232 .
(5) راجع في هذا المبحث : مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 8/110، 224 .