ثمار الإيمان بالقدر
بينا من قبل أن عقيدة القدر التي جاء بها الإسلام مبرأة عبر التخاذل والكسل والخمول الذي أصاب قطاعاً كبيراً من الأمة الإسلامية عبر العصور باسم الإيمان بالقدر ، والمسؤول عن ذلك هو انحراف المسلمين في باب القدر حيث لم يفقهوه على وجهه .
ومن تأمل في عقيدة القدر التي جاء بها الإسلام وجد لها ثماراً كبيرة طيبة ، كانت ولازالت سبباً في صلاح الفرد والأمة .
وسنحاول أن نجلي بعض ثماره التي ظهرت خلال هذه الدراسة .
1- الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك :
لقد زعم كثير من الفلاسفة أن الخير من الله، والشر من صنع آلهة من دونه ، وإنما قالوا هذا القول فراراً من نسبة الشر إلى الله تعالى
(1) .
والمجوس زعموا أن النور خالق الخير ، والظلمة خالقة الشر .
والذين زعموا من هذه الأمة أن الله لم يخلق أفعال العباد ، أو لم يخلق الضال منها أثبتوا خالقين من دون الله .
ولا يتم توحيد الله إلا لمن أقرَّ أن الله وحده الخالق لكل شيء في الكون ،وأن إرادته ماضية في خلقه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فكل المكذبين بالقدر لم يوحدوا ربهم ، ولم يعرفوه حق معرفته ، والإيمان بالقدر مفرق طريق بين التوحيد والشرك . فالمؤمن بالقدر يُقرُّ بأن هذا الكون وما فيه صادر عن إله واحد ومعبود واحد ، ومن لم يؤمن هذا الإيمان فإنه يجعل من الله آلهة وأرباباً .
2- الاستقامة على منهج سواء في السراء والضراء :
العباد بما فيهم من قصور وضعف لا يستقيمون على منهج سواء ، قال تعالى : (
إن الإنسان خلق هلوعاً - إذا مسه الشر جزوعاً - وإذا مسه الخير منوعاً - إلا المصلين ) [ المعارج : 19-22 ] .
والإيمان بالقدر يجعل الإنسان يمضي في حياته على منهج سواء ، لا تبطره النعمة ، ولا تيئسه المصيبة ، فهو يعلم أن كل ما أصابه من نعم وحسنات من الله ، لا بذكائه وحسن تدبيره (
وما بكم من نعمة فمن الله ) [ النحل : 53 ]. ولا يكون حاله حال قارون الذي بغى على قومه ، واستطال عليهم بما أعطاه الله من كنوز وأموال : (
إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وأتيناه من الكنوز ما إنَّ مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين - وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأَحسِن كما أَحسَنَ الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين - قال إنما أوتيته على علم عندي ) [ القصص : 76 –78 ] .
فإذا أصاب العبد الضراء والبلاء علم أن هذا بتقدير الله ابتلاء منه ، فلا يجزع ولا ييأس ، بل يحتسب ويصبر ، فيكسب هذا الإيمان في قلب العبد المؤمن الرضا والطمأنينة (
ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير - لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم ) [ الحديد : 22-23 ] .
وقد امتدح الله عباده : (
الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنَّا لله وإنا إليه راجعون - أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) [ البقرة : 156 –157 ] .
3- المؤمن بالقدر دائماً على حذر :
المؤمنون بالقدر دائماً على حذر (
فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) [الأعراف : 99 ] فقلوب العباد دائمة التقلب والتغير ، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، والفتن التي توجه سهامها إلى القلوب كثيرة ، والمؤمن يحذر دائماً أن يأتيه ما يضله كما يخشى أن يختم له بخاتمة سيئة ، وهذا لا يدفعه إلى التكاسل والخمول ، بل يدفعه إلى المجاهدة الدائبة للاستقامة ، والإكثار من الصالحات ، ومجانبة المعاصي والموبقات .
كما يبقى قلب العبد معلقاً بخالقه ، يدعوه ويرجوه ويستعينه ، ويسأله الثبات على الحق ، كما يسأله الرشد والسداد .
4- مواجهة الصعاب والأخطار بقلب ثابت :
إذا آمن العبد بأنَّ كل ما يصيبه مكتوب ، وآمن أن الأرزاق والآجال بيد الله ، فإنه يقتحم الصعاب والأهوال بقلب ثابت وهامة مرفوعة ، وقد كان هذا الإيمان من أعظم ما دفع المجاهدين إلى الإقدام في ميدان النزال غير هيابين ولا وجلين ، وكان الواحد منهم بطلب الموت في مظانه ، ويرمى بنفسه في مضائق يظن فيها هلكته ، ثم تراه يموت على فراشه ، فيبكي أن لم يسقط في ميدان النزال شهيداً ، وهو الذي كان يقتحم الأخطار والأهوال .
وكان هذا الإيمان من أعظم ما ثُبَّت قلوب الصالحين في مواجهة الظلمة والطغاة ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، لأنهم يعلمون أن الأمر بيد الله ، وما قدر لهم سيأتيهم .
وكانوا لا يخافون من قول كلمة الحق خشية انقطاع الرزق ، فالرزق بيد الله ، وما كتبه الله من رزق لا يستطيع أحد منعه ، وما منعه الله لعبد من عبيده لا يستطيع أحد إيصاله إليه .
--------------------------------
(1) شفاء العليل : ص14 .