فالواجب والمستحب والمحرم والمكروه هذه الأربعة السيادة فيها للنقل للقرآن والسنة، النقل هو الذي يحكم هنا بحسن الأشياء وقبحها، والعقل تابع فيها للنقل يؤيده ويعضده ولن يجد عاقل في فطرته ما يخالف الأحكام التكليفية أو يعارض الشريعة الإسلامية، أما إذا قُدم العقل على النقل في الواجب والمستحب، والمحرم والمكروه من الأحكام، فسوف تظهر البدعة في الإسلام، وسوف تتغير ملامح الشريعة، وتصبح ألعوبة في يد المبتدع.
وأما دور العقل في الحكم على الأشياء بالحسن والقبح فهذا مقصور على المباح من الأحكام فقط، فالقيادة والسيادة هنا للعقل والنقل يؤيده ويعضده ويعاونه ويساعده.
فقد ثبت عند الإمام مسلم من حديث رافع بن خديج قال: (قَدِمَ نَبِيُّ اللهِ s المَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْل يَقُولُونَ: يُلقِّحُونَ النَّخْل، فَقَال: مَا تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَال: لعَلكُمْ لوْ لمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا فَتَرَكُوهُ، فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ قَال: فَذَكَرُوا ذَلكَ لهُ، فَقَال: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ).
وعند مسلم أيضا من حديث أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ s مَرَّ بِقَوْمٍ يُلقِّحُونَ فَقَال: لوْ لمْ تَفْعَلُوا لصَلُحَ، قَال: فَخَرَجَ شِيصًا – أي بلحا لا يؤكل - فَمَرَّ بِهِمْ، فَقَال: مَا لنَخْلكُمْ؟ قَالُوا: قُلتَ كَذَا وَكَذَا، قَال: أَنْتُمْ أَعْلمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ).
فالرسول s ترك الحكم بالحسن والقبح إلى عقولهم، واجتهادهم وخبرتهم في الحياة، فآرائهم مقبولة في المباحات من أمور الدنيا، دون بقية الأحكام الشرعية، أو التكليفات الدينية، فنقول لهؤلاء العقلاء، اصعدوا إلى القمر لتكتشفوا أسرار الكون وعظمة الله، وأرسلوا المركبات الفضائيه والتلسكوبات القوية لتراقبوا أعداء الله، وخذوا بأسباب القوة وسائر العلوم التي تنصروا بها دين الله.
لكنهم يجاهرون الله بالعصيان، تشبها بالغرب في الكفر والفسوق والعصيان، فأنت أيها المتحرر الذي ترى في الغرب أسوة، هل تأسيت بهم في العلم المادي، أم تشبهت بفسقهم وسميت ذلك تقدما حضاري؟ تفعل أفعال الكافرين الذين يستحقرون ديننا ويبغضون المؤمنين، فتسير خلفهم شبرا بشر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلته خلفهم، ولبست لباسهم، وتعريت مثلهم وشربت خمرهم، وألفت سكرهم، وطعمت بيسراك طعامهم، ثم قلدتهم وقلد أولادك مجونهم، ونشرت بجهلك فكرهم، وقلدت بغبائك أفعالهم، وخرجت عن وصفك، وواليتهم على بنى جنسك، ثم سميت ذلك حضارة، وعقلا وتحررا واستنارة، ثم تأتى وتقول أنا مسلم متحرر أشهد ألا إله إلا الله، ولن أغير حياتي وسأبقى على هذا إلى يوم وفاتي.
فالله عز وجل أنعم علي الإنسان بنعمة العقل، وجعل العقل محل التمييز وأساس الإدراك، وجعل له حدودا وقيودا لا يتجاوزها، فإن تجاوزها أصبح نقمة لا نعمة، فعلماء السلف الصالح جوزوا إعمال الفكر والعقل فيما يؤدى إلى إظهار الدين ونصرة المسلمين، والعمل بمقتضى القرآن والرد على المخالفين، الذين يقدمون آراءهم على كتاب رب العالمين وسنة سيد الأنبياء والمرسلين.
·قاعدة في تعريف البدعة والمبتدع:
العقل لا يقدم على النقل في الواجبات والمندوبات ولو قدم لظهرت بدع العبادات.قال ابن تيمية: (من تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين فإن الله لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب).
قراءة الفاتحة بدلا من الدعاء النبوي في صحيح مسلم من حديث عائشة: (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ).
قال الإمام مالك رحمه الله: (مَن ابْتَدَعَ في الإِسلام بدعة يَراها حَسَنة؛ فَقَدْ زَعَمَ أَن مُحمّدا - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خانَ الرّسالةَ ؛ لأَن اللهَ يقولُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لكُمْ دِينَكُمْ، فما لم يَكُنْ يَوْمَئذ دينا فَلا يكُونُ اليَوْمَ دينا).
· العقل لا يقدم على النقل في الغيبيات ولو قدم لظهرت بدع الاعتقادات.
كبدعة المعتزلة في القول بخلق القرآن التي فرضها الخليفة المأمون بن هارون وقتل فيها مئات من المسلمين .
أدخل الشيخ أبو عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق الأُزدي على الخليفة الواثق أمير المؤمنين وهو مقيد بالسلاسل، وكان شيخا شاميا أمر قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد باعتقاله لأنه كان يقول بقول الإمام أحمد بن حنبل في إثبات صفة الكلام لله تعالى، فسلم غير هائب ودعا فأوجز. قال له الواثق: يا شيخ ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه. فقال الشيخ الأزدي: يا أمير المؤمنين هذا لا يقوى على المناظرة. فغضب الواثق لإهانته قاضي القضاة، وقال: أبو عبد الله بن أبي دؤاد يضيق أو يقل ويضعف عن مناظرتك أنت ؟! فقال: هوّن عليك يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في كلامه ؟ فقال الواثق: قد أذنت لك.
ثم التفت الشيخ إلى أحمد بن أبي دؤاد وقال له: خبرني يا بن أبي دؤاد، أمقالتك تلك ـ يقصد الشيخ بدعته في القول بخلق القرآن ـ واجبة في أصول الدين فلا يكون كاملا إلا بما قلت ؟ قال ابن أبي دؤاد: نعم. قال الشيخ أبو عبد الرحمن: هل ستر الرسول s شيئا مما أمر الله به المسلمين في أمر دينهم؟ قال ابن أبي دؤاد: لا. قال الشيخ: أفدعا إلى مقالتك هذه ؟ فسكت بنُ أبي دؤاد. قال الشيخ أبو عبد الرحمن للخليفة الواثق: يا أمير المؤمنين هذه واحدة.
ثم قال: يا ابن أبي دؤاد أخبرني عن الله تعالى حين أنزل: } اليَوْمَ أَكْمَلتُ لكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَليْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لكُمْ الإِسْلامَ دِينَا {[المائدة:3]، فقلت أنت الدين لا يكون تاماًّ إلا بمقالتك في خلق القرآن، فهل كان الله تعالى الصادق في إكمال دينه أو أنت الصادق في نقصانه ؟ فسكت بن أبي دؤاد. قال الشيخ أبو عبد الرحمن لأمير المؤمنين الواثق: يا أمير المؤمنين ثنتان. ثم قال: يا أحمد مقالتك هذه علمها رسول الله أم جهلها ؟ قال: علمها. قال الشيخ أبو عبد الرحمن: أفدعا الناس إليها؟ فسكت بن أبي دؤاد. قال: يا أمير المؤمنين ثلاث.
ثم قال: خبرني يا أحمد، لمّا علم رسول الله s مقالتك التي دعوت الناس إليها هل وسعه أن أمسك عنها أم لا ؟ قال أحمد: علمها وسكت عنها. قال الشيخ أبو عبد الرحمن: وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رحمة الله عليهم ؟ قال: نعم، قال أبو عبد الرحمن: أفوسع رسول الله s أن علمها وأمسك عنها كما زعمت ولم يطالب بها أمته ؟ قال: نعم. فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الخليفة يقول: يا أمير المؤمنين إن لم يسعه ما وسع رسول الله السكوت عنه، فلا وسع الله على من لم يسعه ما وسع رسول الله أن يسكت عنه. قال الواثق: نعم لا وسع الله على من لم يسعه ما وسع رسول الله s أن يسكت عنه، فبكى وأمر بحل قيوده، فجاذب الشيخ أبو عبد الرحمن الحداد على القيود يود لو يحتفظ بها.
قال الواثق: ولم ؟ قال: نويت أن تجعل بيني وبين كفني لأخاصم بها هذا الظالم يوم القيامة وبكى الشيخ أبو عبد الرحمن، وبكى الواثق، وبكى الحاضرون. قال الواثق: اجعلني في حل. قال: والله لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراما لرسول الله s إذ كنت رجلا من أهله. قال الواثق: تقيم معنا. قال الشيخ أبو عبد الرحمن: ردك إياي إلى الموضع الذي أخذني منه هذا الظالم أجدى عليك وأنفع لي ثم قام وخرج .
وبعد هذه المناظرة بيت الولاة النية على رفع المحنة عن العباد، فلما تولى المتوكل الخلافة سنة 232هـ انتصر لأهل السنة، وكان من أفضل خلفاء بني العباس لأنه أحسن الصنيع لأهل السنة بخلاف أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمه المأمون فإنهم أساءوا إلى أهل السنة وقربوا أهل البدعة.
·من قدم العقل على النقل ضل تأكد من حيرة العقل وضلاله
كما أن كثيرا ممن قدم العقل تأكد من حيرة العقل وضلاله وتمسك بالنقل واعترف بفضله وحسنه وجماله.
قال في درء التعارض /89
القول بتقديم الإنسان لمعقوله علي النصوص النبوية قول لا ينضبط وذلك لأن أهل الكلام والفلسفة الخائضين المتنازعين فيما يسمونه عقليات كل منهم يقول:إنه يعلم بضرورة العقل أو بنظره ما يدعي الآخر أن المعلوم بضروة العقل أو بنظره نقيضه، وهذا من حيث الجملة معلوم فالمعتزلة ومن اتبعهم من الشيعة يقولون:إن أصلهم المتضمن نفي الصفات والتكذيب بالقدر الذي يسمونه التوحيد والعدل معلوم بالأدلة العقلية القطعية ومخالفوهم من أهل الإثبات يقولون:إن نقيض ذلك معلوم بالأدلة القطعية العقلية).
وأكثر الفضلاء العارفين بالكلام والفلسفة بل وبالتصوف الذين لم يحققوا ما جاء به الرسول تجدهم فيه حيارى كما وأعترف أبو عبد الله فخر الدين الرازي بضلال العقل وهداية النقل في باب الصفات فقال
ومن الذي وصل إلي هذا الباب أو ذاق من هذا الشراب؟ ثم أنشد:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ... وَغَايَةُ سَعْيِ الْعَالمِينَ ضَلالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا... وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذَى وَوَبَالُ
وَلمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُول عُمْرِنَا... سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ: قِيل وَقَالُوا
فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ رِجَالٍ وَدَوْلةٍ... فَبَادُوا جَمِيعًا مُسْرِعِينَ وَزَالُوا
وَكَمْ مِنْ جِبَالٍ قَدْ عَلتْ شُرُفَاتِهَا... رِجَالٌ، فَزَالُوا وَالْجِبَالُ جِبَالُ