
18-02-2010, 12:08 PM
|
 |
نـجــم الـعـطــاء
|
|
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
|
|
غزوة بن قينقاع ذكر الزهري أنها وقعت في السنة الثانية للهجرة، وذكر الواقدي وابن سعد أنها وقعت يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثانية.
واتفق معظم من كتب في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته على أنها وقعت بعد معركة بدر، إذ لم يلتزم يهود بني قينقاع بالمعاهدة التي أبرمها الرسول صلى الله عليه وسلم معهم، ولم يوفوا بالتزاماتهم التي حددتها، ووقفوا من الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين مواقف عدائية، فأظهروا الغضب والحسد عندما انتصر المسلمون في بدر، وجاهروا بعداوتهم للمسلمين، وقد جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم في سوقهم بالمدينة ونصحهم، ودعاهم إلى الإسلام، وحذرهم أن يصيبهم ما أصاب قريشًا في بدر، غير أنهم واجهوا النبي صلى الله عليه وسلم بالتحدي والتهديد رغم ما يفترض أن يلتزموا به من الطاعة والمتابعة لبنود المعاهدة التي جعلتهم تحت رئاسته، فقد جابهوه بقولهم: «يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًُا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وإنك لم تلق مثلنا.
وهكذا بدأت الأزمة تتفاعل إذ لم يكن في جوابهم ما يشير إلى الالتزام والاحترام، بل على العكس فإنهم قد أظهروا روحًا عدائيًا، وتحديًا واستعلاء واستعدادًا للقتال، فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم قوله تعالى: ( قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ ) [آل عمران: 12، 13].
الأسباب المباشرة للغزو:
(ا) نقض العهد:
لما انتصر المسلمون في بدر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود ما قال، أضمرت بنو قينقاع نقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين، وأخذوا يتحينون الفرصة السانحة لمناوشة المسلمين، حتى جاءتهم فرصتهم الحقيرة الدنيئة عندما جاءت امرأة من العرب قدمت بجَلَب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًا، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع ( الطبقات لابن سعد ).
فحين علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك سار إليهم على رأس جيش من المهاجرين والأنصار، وذلك يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثانية للهجرة، وكان الذي حمل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر العمري، واسمه بشير، وحين سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبذ إليهم العهد كما أمره الله تعالى في قوله: ( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ) [الأنفال: 58].
الحصار علي بنى قنيقاع:
وحين علم اليهود بمقدمه صلى الله عليه وسلم تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، كما ذكر ابن هشام، واستمر الحصار حتى قذف الله في قلوبهم الرعب واضطروا للنزول على حكمه صلى الله عليه وسلم، فقد فاجأهم صلى الله عليه وسلم بأسلوب الحصار، فأربكهم وأوقعهم في حيرة من أمرهم بعد أن قطع عنهم كل مدد وجمد حركتهم، فعاشوا في سجن مما جعلهم في النهاية ييأسون من المقاومة والصبر، فبعد أن كانوا يهددون رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأنهم قوم يختلفون بأسًا وشدة عن مشركي قريش، إذا بهم يضطرون للنزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم فربطوا فكانوا يكتفون أكتافًا، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي الأوسي.
مصير يهود بني قينقاع:
حاول ابن سلول زعيم المنافقين أن يحل حلفاءه من وثاقهم، فعندما مر عليهم قال: حلوهم، فقال المنذر: أتحلون قومًا ربطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله لا يحلهم رجل إلا ضربت عنقه، فاضطر عبد الله بن أبي ابن سلول أن يتراجع عن أمره ويلجأ إلى استصدار الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بفك أسرهم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أحسن في موالي -وكانوا حلفاء الخزرج- قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا محمد: أحسن في موالي، قال: فأعرض عنه، فأدخل ابن أبي يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسلني»، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللاً، ثم قال: «ويحك أرسلني» قال: لا والله، لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربع مائة حاسر، وثلاثة مائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم لك».
فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهم ثم أمر بإجلائهم، وغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ما كان لديهم من مال، وقد تولى جمع أموالهم وإحصاءها محمد بن مسلمة - رضي الله عنه -، وحاول ابن أبي ابن سلول أن يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في يهود بني قينقاع لكي يقرهم في ديارهم، فوجد على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم عويم بن ساعدة الأنصاري الأوسي، فرده عويم، وقال: لا تدخل حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فدفعه ابن أبي، فغلظ عليه عويم حتى جحش وجه ابن أبي الجدار فسال الدم.
الفقه السياسى عند النبى:
ويظهر في هذا الخبر فقه النبي صلى الله عليه وسلم السياسي في تعامله مع ابن سلول حيث لبى طلبه، فلعل هذا الموقف يغسل قلبه، ويزيل الغشاوة عنه فتتم هدايته، فقال له: هم لك، ولعل الذين يسيرون وراء زعامة ابن أبي يصلحون بصلاحه فيتماسك الصف، ويلتحم فلا يتأثر من كيد أعداء الإسلام.
وهناك بُعد آخر حيث حرص صلى الله عليه وسلم أن يتفادى حدوث فتنة في مجتمع المؤمنين، حيث إن بعض الأنصار حديثو عهد بالإسلام، ويخشى أن يؤثر فيهم رأس المنافقين عبد الله بن أبي لسمعته الكبيرة فيهم، ولذلك سلك صلى الله عليه وسلم معه أسلوب المداراة والصبر عليه وعلى إساءته تجنبا للفتنة وإظهارًا لحقيقة الرجل من خلال تصرفاته ومواقفه عند من يجهلها، ومن ثم يفر الناس من حوله ولا يتعاطفون معه، وقد حقق هذا الأسلوب نجاحًا باهرًا، فقد ظهرت حقيقة ابن سلول لجميع الناس حتى أقرب الناس إليه ومنهم ولده عبد الله، فكانوا بعدها إذا تكلم أسكتوه، وتضايقوا من كلامه، بل أرادوا قتله كما سيأتي بإذن الله تعالى.
تبرؤ عبادة بن الصامت من اليهود:
لما نقضت العهد بنو قينقاع وكان عبادة بن الصامت أحد بني عوف -لهم من حلف بني قينقاع مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي- مشى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخلعهم إليه، وتبرأ إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتولى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم (الطبقات الكبرى).
ولما تقرر جلاء بني قينقاع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة بن الصامت أن يجليهم، فجعلت بنو قينقاع تقول: يا أبا الوليد من بين الأوس والخزرج -ونحن مواليك- فعلت هذا بنا؟ قال لهم عبادة: لما حاربتم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني أبرأ إليك منهم ومن حلفهم، وكان ابن أبي وعبادة بن الصامت منهم بمنزلة واحدة في الحلف، فقال عبد الله بن أبي: تبرأت من حلف مواليك؟ ما هذا بيدهم عندك، فذكره مواطن قد أبلوا فيها، فقال عبادة: يا أبا الحباب، تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود، أما والله إنك لمعصم بأمر سنرى غيَّه غدًا، فقالت بنو قينقاع: يا محمد، إن لنا دينًا في الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعجلوا وضعوا» وأخذهم عبادة بالرحيل والإجلاء، وطلبوا التنفس، فقال لهم: ولا ساعة من نهار، لكم ثلاث لا أزيد عليها، هذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كنت أنا ما نفستكم، فلما مضت ثلاث، خرج في آثارهم حتى سلكوا إلى الشام وهو يقول: الشرف الأبعد الأقصى فالأقصى، وبلغ خلف الذباب ثم رجع ولحقوا بأذرعات.
وهكذا خرج بنو قينقاع من المدينة صاغرين قد ألقوا سلاحهم وتركوا أموالهم غنيمة للمسلمين، وهم كانوا من أشجع يهود المدينة، وأشدهم بأسًا، وأكثرهم عددًا وعدة؛ ولذلك لاذت القبائل اليهودية بالصمت والهدوء فترة من الزمن بعد هذا العقاب الرادع، وسيطر الرعب على قلوبهم وخضدت شوكتها.
القرآن ومولاة اليهود:
قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ *وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ *إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ *وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) [المائدة: 51-56].
قال ابن عطية في هذه الآيات: لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلهم، فقام دونهم عبد الله بن أبي ابن سلول وكان حليفًا لهم، وكان عبادة بن الصامت من حلفهم مثل ما لعبد الله، فلما رأى عبادة منزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سلكته اليهود من المشاقة لله ورسوله، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم، ولا أوالي إلا الله ورسوله، وقال عبد الله بن أبي: أما أنا فلا أبرأ من ولاء يهود، فإني لا بد لي منهم، إني رجل أخاف الدوائر(الطبقات لابن سعد)
إن الفرق واضح بين ابن سلول الذي انغمس في النفاق، ومرد عليه، وبين عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي تربى على المنهاج النبوي فصفت نفسه، وتطهر قلبه، وقوي إيمانه، وتنور عقله، فتخلص من آثار العصبية الجاهلية، والأهواء، والمصالح الذاتية، وقدم مصلحة الإسلام على كل مصلحة، فكان مثلاً حيًا للمسلم الصادق، المخلص لعقيدته.
==================
المصدر: كتاب (السيرة النبوية للصلابى)
|