غدر قبيلتي عضل والقارة، وفاجعة الرجيع: سبب بعث النبى أصحابه:
اختلفت مرويات سرية الرجيع فيما بينها كثيرًا حول السبب الذي من أجله بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت الذي يورد البخاري بأنه إنما بعث عينًا لتجمع المعلومات عن العدو، فإن مرويات أخرى بأسانيد صحيحة ورد فيها أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رهط من قبيلتي عضل والقارة المضريتين إلى المدينة وقالوا: (إن فينا إسلامًا فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهونا ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام)،
ويظهر أن قبيلة هذيل قد سعت للثأر من المسلمين لخالد بن سفيان الهذلي فلجأت إلى الخديعة والغدر، وقد جزم الواقدي بأن السبب هو أن بني لحيان وهم حي من هذيل، مشت إلى عضل والقارة، وجعلت لهم جعلا ليخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه أن يخرج معهم من يدعوهم إلى الإسلام ويفقههم في الدين، فيكمنوا لهم ويأسروهم ويصيبوا بهم ثمنًا في مكة.
وهكذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم هذه السرية التي تتألف من عشرة من الصحابة، وجعل عليهم عاصم بن ثابت بن الأقلح أميرًا، حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة أغار بنو لحيان، وهم قريب من مائتي مقاتل، فألجأوهم إلى تل مرتفع بعد أن أحاطوا بهم من كل جانب، ثم أعطوهم الأمان من القتل، ولكن قائد السرية أعلن رفضه أن ينزل في ذمة كافر، وقال عاصم بن ثابت: إني نذرت ألا أقبل جوار مشرك أبدًا، فجعل عاصم يقاتلهم وهو يقول:
النبل والقوس لها بلابل ما عِلَّتي وأنا جلد نابل
الموت حق والحياة باطل تزل عن صفحتها المعابل
بالمرء والمرء إليه آثل وكل ما حمّ الإله نازل
إن لم أقاتل فأمي هابل
فرماهم بالنبل حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم بالرمح حتى كسر رمحه، وبقي السيف فقال: اللهم حميت دينك أول نهاري فاحم لي لحمي آخره، وكانوا يجردون كل من قتل من أصحابه، فكسر غمد سيفه ثم قاتل حتى قُتل، وقد جرح رجلين وقتل واحدًا وكان يقول وهو يقاتل:
ورثت مجدًا معشرًا كرامًا أنا أبو سليمان ومثلي رامي
ثم شرعوا فيه الأسنة حتى قتلوه، وكانت سلافة بنت سعد بن الشُّهيد قد قُتل زوجها وبنوها أربعة، قد كان عاصم قتل منهم اثنين: الحارث، ومسافعًا، فنذرت لأن أمكنها الله منه أن تشرب في قحف رأسه الخمر، وجعلت لمن جاء برأس عاصم مائة ناقة، قد علمت بذلك العرب وعلمته بنو لحيان، فأرادوا أن يحتزوا رأس عاصم ليذهبوا به إلى سلافة بنت سعد ليأخذوا منها مائة ناقة، فبعث الله تعالى عليهم الدبر فحمته، فلم يدنُ إليه أحد إلا لدغت وجهه، وجاء منها شيء كثير لا طاقة لأحد به، فقالوا: دعوه إلى الليل، فإنه إذا جاء الليل ذهب عنه الدبر، فلما جاء الليل بعث الله عليه سيلاً ولم يكن في السماء سحاب في وجه من الوجوه، فاحتمله فذهب به فلم يصلوا إليه.
لقد قتل عاصم في سبعة من أفراد السرية بالنبال، ثم أعطى الأعراب الأمان من جديد للثلاثة الباقين، فقبلوا غير أنهم سرعان ما غدروا بهم بعد ما تمكنوا منهم، وقد قاومهم عبد الله بن طارق فقتلوه واقتادوا الاثنين إلى مكة، وهما خبيب وزيد بن الدثنة فباعوهما لقريش، وكان ذلك في صفر سنة 4 هـ.
وفاء أصحاب النبى للنبى:
فأما خبيب فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل ليقتلوه بالحارث الذي كان خبيب قد قتله يوم بدر، فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بنات الحارث، استحد بها فأعارته، وغفلت عن صبي لها فجلس على فخذه، ففزعت المرأة لئلا يقتله انتقاما منه، فقال خبيب: أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى، فكانت تقول: ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزقًا رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو، ثم قال: (اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا ولا تبق منهم أحدًا) ثم قال:
لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وكلهم مبدي العداوة جاهد عليَّ لأني في وثاق بمضيع
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي فقد بضَّعوا لحمي وقد ياس مطمعي
وقد خيروني الكفر، والموت دونه فقد ذرفت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت وإن إلى ربي إيابي ومرجعي
ولست أبالي حين أُقتل مسلمًا على أي شق كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ مُمزع
فلست بمبدٍ للعدو تخشعًا ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي
فقال له أبو سفيان: أيسرك أن محمدًا عندنا يضرب عنقه وأنك في أهلك، فقال: لا والله، ما يسرني أني في أهلي، وأن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، ثم قُتل وصلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بجذعه ليلا، فذهب به ودفنه.
وأما زيد بن الدثنة فاشتراه صفوان بن أمية وقتله بأبيه (أمية بن خلف الذي قتل ببدر)، وقد سأله أبو سفيان قبل قتله: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي.
فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا وقد عرفت هذه الحادثة المفجعة بالرجيع نسبة إلى ماء الرجيع الذي حصلت عنده،
وفي هذه الحادثة دروس وعبر وفوائد منها:
الأسير والأمان:
للأسير أن يمتنع من قبول الأمان ولا يمكن من نفسه ولو قتل، أنفة من أن يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن، قال الحسن البصري: لا بأس بذلك، وقال سفيان الثوري: أكره ذلك. وفيه الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن قتل أولادهم، والتلطف بمن أريد قتله وإثبات كرامة الأولياء، والدعاء على المشركين بالتعميم، والصلاة عند القتل وفيه إنشاد الشعر، وإنشاده عند القتل دلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه.
وهذا الحدث يفتح أمام المسلمين بابًا واسعًا في التعامل مع الأحداث في اختيارهم الأسر إذا طلبوا مظلومين، أو اختيارهم القتال حتى الموت، ما دام الطالب لا يطلبهم بعدل وما دامت السلطة غير إسلامية.
تعظيم سنة النبي:
وفي الحديث يظهر تعظيم الصحابة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أن خبيبًا مع أنه في أسر المشركين، ويعلم أنه سيقتل بين عشية أو ضحاها، ومع ذلك كان حريصًا على سنة الاستحداد، واستعار الموسى لذلك، وفي هذا تذكير لمن يستهين بكثير من السنن، بل والواجبات بحجة أن لا ينبغي أن ينشغل المسلمون بذلك للظروف التي تمر بها الأمة، وفي الواقع لا منافاة بين تعظيم السنة والدخول في شرائع الإسلام كافة.
الإسلام ينتزع الغدر والأحقاد:
عندما استعار خبيب موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته، قالت المرأة: فغفلت عن صبي لي، تدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه فلما رأته فزعت منه فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله.
إنه موقف رائع يدل على سمو الروح، وصفاء النفس، والالتزام بالمنهج الإسلامي فقد قال تعالى: ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [الإسراء: 15].
إنه الوفاء يتعلمه الناس ممن غدر بهم، إن الاستقامة طبيعة سلوك المسلم في حالتي الرخاء والشدة وفي قول خبيب - رضي الله عنه -: (ما كنت لأفعل إن شاء الله) يشير هذا الأسلوب في البيان العربي إلى أن هذا الفعل غير وارد ولا متصور ولا هو في الحسبان، في هذا الظرف الحاسم، الذي قد يتعلق فيه الاستثناء، لموقع الضرورة، وإنقاذ المهج، لكن المبدأ الأصلي، الوفاء والكف عن البرءاء، لا تنهض له هذه الاعتبارات الموهومة.
وهذا مثل من عظمة الصحابة رضي الله عنهم حين يطبقون أخلاق الإسلام على أنفسهم مع أعدائهم، وإن كانوا قد ظلموهم، وهذا دليل على وعيهم وكمال إيمانهم.
حب النبي عند الصحابة:
إن حظ الصحابة من حبه صلى الله عليه وسلم كان أتم وأوفر، ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة وهم بقدره صلى الله عليه وسلم ومنزلته أعلم وأعرف من غيرهم؛ فبالتالي كان حبهم له صلى الله عليه وسلم أشد وأكبر.
ففي حادثة الرجيع يظهر هذا الحب في الحوار الهادئ بين أبي سفيان وبين زيد بن الدثنة، إذ قال له أبو سفيان: أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة، وإني جالس في أهلي.
وهذا الحب من الإيمان فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد فيهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار»(البخاري، كتاب الإيمان (1/72).
مما قاله حسان في ذم بني لحيان:
تأثر المسلمون بمقتل أصحاب الرجيع تأثرًا بالغًا، وكان حسان - رضي الله عنه - بشعره يعبر عن حال المسلمين، فمن يستحق الهجاء هجاه، ومن يستحق المدح مدحه، فقال في هجاء بني لحيان:
فأت الرجيع فسل عن دار لحيان إن سرك الغدر صرفًا لا مراج له
فالكلب والقرد والإنسان مثلان قوم تواصوا بأكل الجار بينهم
وكان ذا شرف فيهم وذا شان لو ينطق التيس يومًا قام يخطبهم
==============================
المصدر: كتاب (السيرة النبوية للصلابى)
|