عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 22-02-2010, 02:38 AM
the long night the long night غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
المشاركات: 23
معدل تقييم المستوى: 0
the long night is on a distinguished road
افتراضي


الباب الرابع : الحرية والحضارة

وهو محاولةٌ لإحياء فهم الإسلام ؛ من حيثُ هو رسالة غايتها تحرير " الإنسان " ، لتأهيله لعمارة الدنيا ، وقيادة البشرية ، نحاول من خلالها إعادة تركيب ملامحنا لنطل على العالم بوجه له سمة التسامح والمرونة ، وعقل يحمل مشروع تحطيم أغلال العبودية ، وقلب يأنس به كل من يقابله من بني البشر .. ويدرك من خلال التعامل معه أن هذا الدين موضوعه هو " الإنسان " ، وهدفه هو " تحرير " هذا الإنسان من الأغلال السياسية ، والأصار الاجتماعية التي صارت عليه .. لينشأ مجتمع " الحرية " من خلال تصحيح القيم والموازين ، وترشيد المشاعر والسلوك ، لتكون قادرة على أن تحتضن في أكنافها كل إنسان .

ولأن بذرة التغيير الحضاري لا تنمو ولا تزدهر وتورق وتؤتي ثمارها علوماً ومعارف ونظماً إجتماعية .. بل وتستقطب وتجذب خيرة الموارد البشرية والمادية من بيئات أخرى مختلفة ، إلا فى مناخ الحريّة .. و لأن الإنسان يعيش فى ظل الحرية نشيطاً في أعماله ، سعيداً بآماله .. فإن الحرية تصبح ضرورة .. ضرورة للدين وللعقل والفكر ، وضرورة لتوفير العدل والأمان ، وضرورة لرعاية العهود والحرمات .. وضرورة من ضرورات الحضارة بل يمكن أن نقول أن :

ـ الفصل الأول : الحرية شرط الحضارة

والذي أكدنا من خلاله أنه بقدر نقص الحريّة ، تنتقص الحضارة حتى تأخذ طريقها إلى التخلف والتصحر والتحجر .. حتى إذا استكملت تلك الجراثيم المهلكة حظها وبلغت مبلغها من التمكن تكون قد آذنت شمس الحضارة في ذاك الفضاء بالمغيب ليستقبل نعيق البوم فى ليالي التخلف المديدة . وينادي مؤذن الكون بالرحيل ..!!

أمّا حين تضىء شموس الحرية ، وتضرب بأشعتها فى كل واد ، فإن البشر تتسع آمالهم ، وتكبر هممهم ، وتتربى فى نفوسهم ملكة الاقتدار على الأعمال الجليلة ، فتتفتق القرائح فهماً ، وترتوي العقول علماً ، وتأخذ الأنظار فسحة ترمى فيها إلى غايات بعيدة ، فتصبح الإمكانات طوع اليد ، والطاقات طوع الفكر ، والمصير طوع الإرادة ، ويكون التخطيط طريق المجتمع فى بناء الحضارة ..



ولذلك فإن كل الحضارات يجمع بينها أنها توفّر العدل والحرية .. وهذا يجعلها مجالاً رحباً لتفتح الملكات ، وقوة جذب للنابغين وذوى الكفاءة والطموح فى شتى مجالات المعارف والعلوم والفنون والتجارة والمال ، ابتغاء ترقية ملكاتهم وتحقيق طموحاتهم .. بينما غياب هذه الحقوق والقيم يؤدى إلى أن تذبل الملكات ، ذلك أن الإكراه والقهر والضيق بالخلاف ، ورفض سنة التعدد وحقوق الآخر فى الاختلاف ؛ يجمد حركة الحياة فتأسن وتتحجر ، فيغدو الفضاء الإجتماعي طارداً للطاقات ، يضيق ذرعاً بالإبداع والمبدعين ، ينعق فيها البوم ، وتعشش فيه الفوضى ، وترى العصافير التى كانت تعمر الأشجار بشجي الغناء تأخذ فى الرحيل خشية الصيّاد المتربص باحثة عن فضاء حضاري آخر تجد فيه العدل والحرية والأمن ..



إن الاستبداد يخترق جسد المجتمع عبر وسائل عدة ، فيحطم كافة قوى المقاومة فيه ، و يمحو المميزات الفردية بداخل أفراده ، ويصهر الشخصيات الخاصة بهم فى بوتقة القطيع ، ثم يميّع أنفسهم فى سوائل ومحاليل تشبه إلى حد كبير ما يزعمه السحرة من محاليل تحوّل التراب إلى ذهب .. ولكنها هذه المرة تحوّل الذهب الإنساني إلى تراب عديم الفائدة ..!! ينمو في تربته الاستبداد ، ليصبح أشجاراً باسقة تمد ظلالاً من الرعب على المستعبدين فيتحول الفرد منهم إلى كائن مسخ يتقن الكذب والتمثيل .. لا يرى مشاكله بل يصطدم بها اصطداماً .. فيسرع الى الحلول الجاهزة والسريعة لمشاكل في حجم الجبال !!



ولأن زرع مفهوم الحرية لدى الإنسان هو الذي يصنع الحضارة ، لأنه يُنشئ لديه إرادةً نحو التغيير لا يستطيع لها دفعاً .. ولأن المفاهيم السليمة تُوجد المناخ الجيد ، وهو بدوره يُبْرز أحسن ما في الإنسان .. والمفاهيم القاتلة أو الميتة ، تُوجد مناخاً سيئاً ، وهو بدوره يُبْرز أسوأ ما في الإنسان ؛ فإن من أهم شروط الفكرة التى تنتج الحضارة أن تحرر الإنسان من كل ضروب القهر والاستبداد ، وأن تزوده بأهداف وقيم عليا تعطي معنى لحياته ؛ وتجعله يستعلي عن أن يَستعبِد غيره أو يُستعبد هو من أحد ، ولا شك أن الإسلام هو الفكرة المثلي ، والطريق الأقرب لتحقيق ذلك الهدف لأن :

ـ الفصل الثاني : الإسلام رسالة الحرية

والذي أكدنا من خلال أفكاره أن الحرية هي قيمة الحياة .. لأن الحرية هي شعور الإنسان بالتوافق والتناغم مع فطرة الحياة.. من حركة إيجابية ، وإرتقاء نحو الأفضل ، وشعور بالوجود ، وقدرة على التأثير ، و هي شعور بالتحرر من كل الآصار والأغلال والأوضاع التي تخالف الصورة الربانية للحياة الإنسانية .. تلك الأوضاع التي يخسر الإنسان فيها كيانه ، و شخصيته.. تفرده ، و إبداعه .. بل إنه يخسر نفسه !! .. ولذلك فإنه ، وإن كان في محاولة الخروج عن القطيع خطورة بالغة ، لكنها لا تساوي لحظة واحدة يبقاها الإنسان بلا قيمة بين قطيع البشر..

إن لهذه الحرية قيمة ضخمة .. بل هي قيمة الحياة ، وتتمثل فيها كل معاني الحياة ، ولذلك فإن من وهبه الله تلك النعمة لا بد أن يمنحها للأموات من العبيد قبل أن تنتهي رحلتهم على هذه الأرض .. يمنحها لهم وهو يدرك أن هذا المنح هو طريقه لأن يبقي هو في حياة .. ويسعي إلي تحرير " الإنسان " .. كل الإنسان ، في الأرض.. كل الأرض ، وهو يرى أن قيمة جهده في أن يبقى ساعياً نحو الحرية ، ونحو الحفاظ عليها ..وأن مهمة تحرير الإنسان هي السبيل للحفاظ على الحرية ترفرف في قلبه ؛ فيكون حمله لها من خلال رسالة أمن و هداية ، وليس رسالة إرهاب وجباية ..

ولا شك أن هذه هي رسالة الإسلام التى يخرج الله بها من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .. يحملها رواد ، فيهم من القدرة والطاقة ، والإدراك والكفاية ، والاستعلاء والحماسة ، والإصرار والصلابة ، بقدر ما فيهم من الإيمان ، والثقة بهذا الإيمان ، لكي يخلّصوا أنفسهم من ضغط هذا الواقع .. ولكي يملكوا – على الرغم من الواقع والتوجيه المضلل – أن يروا رؤية واضحة .. تصوراً آخر أرفع وأكمل ، وأعمق حيوية ، وأكثر طموحاً ، من كل التصورات التى تعم الأرض اليوم ، فتعبّد الإنسان للإنسان ..

إن هؤلاء الرواد يشعرون بـ " الأناقة الحضارية " ، في صورة القيام بدور حمل رسالة إنقاذ للبشر، وإخراجهم من عبودية بعضهم لبعض .. يرددون لكل العالم : " جئنا لنخرجكم من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة " ، و تثور ثائرتهم علي أحبائهم المقربين ، إذا هتكوا حرية أحد ، فتنفجر قداسة الحرية علي ألسنتهم : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟! " . ثم هم بتلك الرسالة يحاولون إرساء الأسس الصلبة لتحضّر راق متوازن يهضم كل ما حققته البشرية من مستويات سامقة من التحضّر ، ويعالج مشكلاته المستعصية فى نطاق مفهوم شامل للحرية .. تلك الحريّة التى تعنى عبادة الله بالحياة وفق منهاجه الذى يستجيب لكل أبعاد الإنسان وحاجاته الفكرية والنفسية والعقدية والحياتية عامة ، ويرحب بكل إنجاز حضاري يرسي نظاماً اجتماعياً يكفل الحريات والحقوق ، ويرتقي بالإنسان فى كل جانب من جوانب حياته ..



و حتى لا يصير هذا الفصل من الكتاب كموعظة لركاب سفينة تغرق ويأتيها الماء من كل مكان .. وحتى لا يكون حديثنا فيه كمن يقرر أن البحر هائج ، وأن قوارب النجاة لن تجدي شيئاً ؛ فإنه لا بد من باب نتحدث فيه عمّا يمكننا عمله حتى لا تغرق السفينة البشرية .. فننتقل من مرحلة عرض الإسلام الفكرة ، وإبراز حقيقتها وعظمتها وجماليتها ، إلي مرحلة الاهتمام بكيفية تحقيقها في الحياة العملية ، وتحويلها إلي مجتمع حيّ متحرك . نخرج به من نفق العبودية ؛ لنبدأ السير فى الطريق إلى الحرية ، ولذلك فقد ختمنا بحثنا بـ :
__________________
إلي الذين يحلمون بميلاد مجتمع الحرية حيث يسود فيه الاسلام و تعود الأمة الاسلامية إلي قيادة البشرية
أهدي لهم كتاب
نحو مجتمع الحرية
لفضيلة الشيخ الدكتور
محمد محمد بدري
رد مع اقتباس