من الله.. لله.. إلى الله..
من الله، لله، وإلى الله. فالله سبحانه وتعالى خلقنا وإليه نرجع. {وَهُوَ الّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، {هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ وَصَوّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}. وقد خلقنا الله سبحانه وتعالى لعبادته. {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ}.
وهكذا تحل عقدة الإنسان الكبرى، ويتلقى الأجوبة المقنعة لعقله والموافقة لفطرته على أسئلته المصيرية.
ولترسيخ هذا المعنى المتعلّق بكينونة الإنسان وصيرورته، ترى المسلم يقرأ في اليوم الواحد فاتحة الكتاب أكثر من مرة، فيقرأها على الأقل في الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، أي في الصلوات المفروضة وهي الحدّ الأدنى المطلوب، بل هي أول ما يحفظ المسلم، وإن شئت قلت هي ما يحفظ كل مسلم؛ إذ لا نجد بين المسلمين من لا يحفظها.
فماذا يعني المسلم بفاتحة الكتاب؟
أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام . فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال : مجدني عبدي - وقال مرة فوض إلي عبدي - فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".
ففاتحة الكتاب، هي أساس ربط صلة المخلوق بخالقه؛ إذ اختزلت كل المعاني والمفاهيم المتعلّقة بوجود الإنسان في هذه الحياة الدنيا. وبعبارة أخرى، فإن فاتحة الكتاب هي المعبّرة عن القاعدة الوجودية للإنسان المسلم المتمثلة في قوله: من الله، لله، وإلى الله. ولك أن تسأل: كيف ذلك؟
والجواب هو: علينا أن نتدبر في التركيب اللغوي للفاتحة.
فالفاتحة لم تتضمن من الأفعال إلا ثلاثة، وهي: نعبد، نستعين، اهدنا. والفعل هو المعبر عن النشاط الإنساني وحركته، ونرى هنا اقتصاره على تحقيق معنى العبودية التي خلق الإنسان من أجلها. فالإنسان بحمده لربّه سبحانه يقرّ بأنه الخالق المستحقّ للتمجيد والثناء، وهذا الإقرار يتبعه العمل المتمثّل في العبادة بمفهومها الشامل أي تحكيم شرع الله في كل كبيرة وصغيرة وفي كل مجالات الحياة؛ فالإنسان يعبد ربّه، ويستعين به على عبادته، والاستعانة على العبادة عبادة، ويدعوه لتوفيقه في هذا العبادة، والدعاء عبادة، حتى لا يكون مصيره كمصير المغضوب عليهم والضالين. أرأيت كيف جمعت هذه الآيات كل المعاني والمفاهيم الوجودية، فأنت تقرّ بوجود الله واستحقاقه للثناء والحمد، وتقرّ بأنه رب العالمين، وهذا معنى من أين أتيت، وتقرّ بعد ذلك بأنه مالك يوم الدين أي يوم الجزاء والحساب، وهذا معنى إلى أين المصير، ثمّ تقرّ بأنك عبد له، وتأمل في أن يكون مصيرك مصير من أنعم عليهم لا من غضب عليهم، وهذا معنى لماذا أتيت.
{رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.