((المشهد الثاني))
أدار المفتاح في قفل الباب ثم دفعه بقدمه وعاد ليلتقط كيس المشتريات الذي وضعه على الأرض...
طالعه وجه والدته المبتسم التي أطلت من المطبخ حين سمعت حركة عند المدخل... ألقى التحية ثم اقترب ليقبل جبينها و هي تتمتم بالدعاء له بالنجاح والصحة والهداية... تناولت من يده الكيس واختفت من جديد خلف باب المطبخ...
ألقى بنفسه في إعياء على أريكة في قاعة الجلوس و تناول جهاز التحكم عن بعد وراح يتنقل بين القنوات الفضائية في ملل... ارتفع صوت المؤذن في الخارج...
الله أكبر... الله أكبر...
إنه أذان المغرب...
سمع خطوات أمه وهي تخرج من المطبخ على عجل متوجهة نحو الحمام... لم يتحرك من مكانه، فقد كانت نظراته معلقة بوجه ممثلة حسناء تظهر على الشاشة. لم يكن يتابع المسلسل بانتظام، لكن فضولا غريبا تملكه في تلك اللحظات، و لبث يترقب في انتباه المشهد الموالي...
خرج أخوه سمير من غرفته وقد فاحت منه رائحة المسك... نظر إليه عند مروره على القاعة :
ـ رمزي... ألا تذهب إلى المسجد؟
تمطط رمزي في تكاسل وقال دون أن يلتفت إلى أخيه :
ـ لم أقض بعد الصلوات الفائتة... سأصلي في البيت...
هز سمير كتفيه في تسليم و خرج من فوره...
سمير أخوه الأصغر، لايزال في أولى سنوات الجامعة... لكنه يبدو أكبر من سنه. ليست لديه اهتمامات الشباب في مثل تلك الفترة من العمر... ورفاقه من مثل صنفه... لم يمنحوا أنفسهم الفرصة والوقت لاكتشاف الجامعة، مغامراتها و أسرارها... أقنعوا أنفسهم بما يسمى "الالتزام" وتخلوا عن كل أحلام الشباب...
ابتسم في سره في حزن... إنه ليرثي لحال أخيه، متأكد من أنه سيعيش حالة مراهقة متأخرة بسبب الكبت الذي فرضه على نفسه... بل اختاره... في بداية شبابه!
أليس الأفضل أن نعيش كل حالة في وقتها؟
سرح للحظات وأهمل المشهد الذي كان يترقبه من المسلسل... لم يشعر بنفسه إلا و قد غير القناة...
لم يكن متضايقا... بل هامت نظراته إلى غير وجهة...
كان سمير قد عاد من المسجد منذ فترة... لا يزال ضجيج أمه في المطبخ يطرق أذنيه وهي تغسل الأواني... يبدو أن سارة أخته الصغرى قد انضمت إليها، فضحكاتها تملأ المكان...
تطلع من النافذة... اختفت بقايا خيوط الشمس الأخيرة و خيم الظلام على الكون في الخارج
لم يكن قد تحرك من مجلسه بعد حين فتح الباب الخارجي من جديد... كان القادم والده
استقبلته والدته بابتسامتها الوديعة المعتادة :
ـ هل أعد مائدة العشاء؟
خطا نحو قاعة الجلوس وهو يقول :
ـ لم تتبقى إلا دقائق قليلة على صلاة العشاء... نصلي ثم نتعشى...
استقبل والده بابتسامة و تحية. جلس إلى جواره وهو يربت على كتفه :
ـ كيف حالك مع المنصب الجديد؟
ابتسم في رضا، وتحدثا قليلا عن الترقية الحديثة والعمل الجديد... وما لبث أن ارتفع النداء إلى صلاة العشاء. وقف والده من فوره، و قبل أن يغادر القاعة التفت إلى رمزي :
ـ ألا ترافقني إلى المسجد؟
تردد للحظات قبل أن يقول مبتسما :
ـ سألحق بك بعد قليل...
نظر إليه والده في عدم اقتناع، ثم انصرف و هو يهز كتفيه في يأس...
ظل رمزي في مجلسه بضع دقائق أخرى، ثم وقف فجأة كأنه تذكر شيئا... و كانت وجهته إلى غرفته
أغلق الباب خلفه و أخرج هاتفه الجوال الذي كان لا يزال على الوضع الصامت... هاله عدد الاتصالات والرسائل التي وصلته... و كلها من رقم واحد... رقمها! تجاهل الأمر و سارع بتكوين رقم آخر :
ـ كيف حالك يا رجل... لم نرك منذ فترة في النادي؟ من يلقى أحبابه ينسى أصحابه...
ارتفع ضحكه وهو يستمع إلى صوت صديقه الذي أجاب في مرح :
ـ أنت تعلم، الالتزامات الجديدة ومسؤوليات البيت...إضافة إلى الزيارات والاستضافات المتواصلة...
ضحك رمزي من جديد وهو يقول :
ـ هنيئا لك يا صاحبي... أخذتك مشاغلك الجديدة منا...
ـ وأنت... ألم يحن دورك بعد... الترقية و نلتها والحمد لله... متى نفرح بك أنت و ندى؟
انزعج لذكرها و قال في استياء :
ـ أنت أيضا تقول هذا...
ـ من الذي حدثك في الموضوع غيري؟
تذكر رمزي وجهها الباكي ذاك الصباح و زفر في ضيق :
ـ ندى نفسها... تصور أنها كانت تأول تصرفاتي وكلماتي على أنني أميل إليها وأريد الارتباط بها!
عاجله صاحبه في عتاب :
ـ لو كنت تضع حدودا لمعاملتك لها لما سمحت لنفسها بالتأويل والتحليل!
تنهد رمزي من جديد :
ـ تلك هي طريقتي معها ومع غيرها... لكنك تعلم أن ندى ليست الصنف الذي أبحث عنه...
بدا الارتياح في صوت محدثه وهو يقول :
ـ جيد... و الآن، أخبرني... ماهو الصنف الذي تبحث عنه؟
سكت للحظات و هو يفكر في حيرة... لم يكن قد طرح على نفسه السؤال من قبل... كيف يريدها؟ إنه على الأقل متأكد من أنه يريدها مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفهن وصادقهن و بادلهن الأحاديث ورافقهن في السهرات... يريدها مختلفة... من نوع مختلف تماما... وفجأة خطرت بباله سناء... بنت الجيران... فتاة محجبة... جميلة ورقيقة... ومن النوع الذي يسمونه بالملتزم... ولم يقدر على طرد صورتها من باله...
صحيح أنه لا يزال يؤجل تغيير نمط حياته ويرى أن الوقت لم يفت بعد ليعود إلى الله ويعيد النظر في تصرفاته... لكن الأمر بالنسبة إلى الفتاة مختلف! الفتاة التي يريد الارتباط بها لا يجب أن تكون من النوع "المستهلك"... "المجرِب"، أو "ذي الخبرة في الحياة"... يريدها طازجة، لم تصل إليها يد أي كان... محمية في علبة مخملية، مثل علبة الخاتم الذي سيضعه في إصبعها...
انتبه على صوت صديقه وهو يهتف :
ـ رمزي... أين ذهبت؟
ـ هااه...
ـ اسمع... يجب أن أذهب الآن... هناك من يستعجلني...
و ارتفع ضحكهما من جديد...
*******