((المشهد الثالث))
وقف أمام الشرفة و قد أشاح طرفا من الستار... أخذ يتطلع إلى الطريق في اهتمام مثلما صارت عادته منذ أسبوع أو أكثر... انتظر لبضع دقائق قبل أن يلمحها تخرج من منزلها الذي يفصله عن منزله عدد قليل من المنازل، على الجانب المقابل من الطريق... تابعها وهي تمر أمام منزله في خطوات رصينة في هيأتها المحتشمة، ووجهها الطفولي يرسم شبه ابتسامة خجلى...
ـ بني... الفطور جاهز...
لم يبعد عينيه عنها وهو يقول في سرحان :
ـ نعم... أنا آت...
تابعها بنظراتها إلى أن اختفت في المنعطف القريب، ثم توجه إلى المائدة.
بادل والدته ابتسامتها الحنونة و همس في حب :
ـ سلمت يداك يا غالية! وأدام الله علينا هاته النعمة...
سارعت والدته تصب القهوة في فنجانه و قالت وهي ترمقه بنظرة فاحصة :
ـ لكنك لا تريد أن تسعد قلب هاته الغالية...
هتف في احتجاج :
ـ أنا يا أمي؟! هل قصرت في شيء؟ اطلبي ولا تترددي... أنا ومالي و صحتي وكل ما أملك تحت أمرك وتصرفك!
طالعته بنظرة ذات معنى :
ـ لست في حاجة إلى كل هذا... لكنها أمنية في قلب كل أم... أن تفرح بأبنائها وترى أحفادها يرتعون حولها...
ابتسم هاته المرة ابتسامة واسعة، تختلف عن المزاج الذي تعودت أن تلقاه منه كلما خاضت في موضوع الزواج :
ـ كل شيء في وقته حلو...
أحست بأنه لان أخيرا... جذبت الكرسي المجاور وجلست وهي تنحني نحوه :
ـ ما رأيك في بنت خالتك ليلى... فتاة أصيلة، ذات جمال وأخلاق... هل تريد أن أخطبها لك؟
ربت على كفها في حنان وقال في هدوء منهيا الحوار :
ـ قلت لك لا تقلقي... سأهتم بالأمر بنفسي...
لكنها أصرت و هي تلاحقه إلى باب المنزل :
ـ رمزي، بني... هل تفكر في فتاة بعينها؟
اتسعت ابتسامته وهو يقول :
ـ قلت لك... كل شيء في وقته حلو...
ثم أضاف و هو يفتح الباب الخارجي :
ـ عن إذنك الآن... سأتأخر عن عملي...
******
((المشهد الرابع))
خرج من مكتبه قبل وقت انتهاء الفترة المسائية... كان مستعجلا... أدار محرك السيارة وانطلق في اتجاه غير اتجاهه الاعتيادي... لكنه كان يعرف الطريق جيدا... الطريق التي قطعها أكثر من مرة في الأيام القليلة الماضية... كان طريق كلية التجارة... نعم فقد عرف أنها تدرس في كلية التجارة، وعرف أيضا مواعيد خروجها... اطلع على برنامج محاضراتها لهذا الأسبوع...
ركن السيارة في موقف قريب وقطع المسافة مشيا إلى محطة الحافلات. رآها تقف وحيدة وهي تضم كراساتها إلى صدرها في هدوء... تقريبا في نفس الوضعية التي يراها عليها منذ بضعة أسابيع، في كل مرة راقبها فيها عن بعد... عرف صديقاتها وتعرف على محيطها، و حمد الله من كل قلبه لأن صديقاتها لا يركبن نفس حافلتها!
وها قد جاء اليوم الذي عقد فيه العزم على الخروج من صمته... وسار ليكلمها...
اقترب منها في خطوات مترددة و هو يكاد يسمع دقات قلبه المتسارعة. ما الذي يحصل معك يا رمزي؟ رمزي الذي تعود المصافحة والعناق، وإمساك الأيدي في المطاعم والأماكن العامة، يرتجف الآن... وحبيبات العرق تتجمع في جبينه...
رفعت عينيها إليه في حركة تلقائية، حين أحست بنظراته المركزة عليها... وسرعان ما خفضت نظراتها في حياء محبب... طار قلبه معه!
ـ آنسة سناء
ـ .........................
التفتت إليه وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة مترددة وقد انعكست دهشتها على ملامحها. لم تنبس ببنت شفة... ترقب توضيحا منه...
هل تعرفت علي؟ نحن جيران منذ أكثر من 5 سنوات... لكن العلاقات شبه مقطوعة بين العائلتين...
غالب خجله وهو يقول :
ـ أنا... رمزي... ابن جاركم... الحاج علي...
هزت رأسها موافقة، كأنها تنتظر المزيد... يبدو أنها تعرفت عليه...
ـ اعذريني...لست أدري من أين أبدأ... أعرفك بنفسي أولا... أنا مهندس، في شركة خاصة... دخلي جيد وأمتلك سيارة حديثة... وبوسعي أن أشتري منزلا مناسبا... في المنطقة التي تعجبك...
أحس أنه تسرعبملاحظته الأخيرة، وهو لم يشرح بعد طلبه وسبب محادثته لها...
لاحظ ارتباك البنت، و الدهشة التي اعترتها... فتدارك في سرعة :
ـ آسف...لم أفصح لك بعد عن سبب المحادثة... في الحقيقة، أنا معجب بك آنسة سناء... بأخلاقك وحيائك... و يسرني أن أتقدم لطلب يدك...
رفع عينيه إليهاليلمح أثر كلماته على قسمات وجهها. كان لونها قد تحول إلى الأحمر القاني، و عيناها قد التصقت بالأرض
ـ أردت أنأتعرف عليك أكثر... وأتيح لك الفرصة لتتعرفي علي أنت أيضا... قبل أن أفاتح والدك بصفة رسمية...
لم تكن قد رفعت عينيها بعد، لكنها تمتمت في خجل :
ـ أظن أنوقوفنا بهذا الشكل ليس الحل المناسب... يمكنك أن تتحدث إلى والدي ونتعرف أكثر فيما بعد
كان السرور واضحا في صوته و هو يهتف :
ـ إذن أنت موافقة؟ يمكنني أن أتقدم؟
********