((المشهد الخامس))
لم يكن يتصور بأنه سيتعلق بها بتلك السرعة... وإلى تلك الدرجة...
أصبح يتابعها يوميا حين خروجها... بجرأة أكبر... يخرج إلى الشرفة وينتظر مرورها ليحييها بابتسامة، قلما تردها... لكن قلبه كان يكتفي من احمرار وجنتيها... يتحين الفرص ليبادلها بضع كلمات أمام الكلية قبل أن تصل حافلتها، مع أنه كان يتمنى أن ترضى بأن يوصلها إلى المنزل بسيارته!
و كانت تلك اللحظات القصيرة تشعره بسعادة لا توصف...
رمزي الذي لم يكن يتحرج من محادثة الفتيات ومبادلتهن الضحك والمزاح، أصبح قلبه يدق بشدة حين يبادر سناء بتحية الصباح!
******
أخذ نفسا عميقا من السيجارة، ثم نفث الدخان من فيه في توتر.
عقد سمير حاجبيه وهو يقترب من أخيه الذي وقف في الشرفة موليا إياه ظهره، و هتف في ضيق :
ـ متى تتوقف عن استهلاك هاته السموم؟
ابتسم رمزي في لامبالاة :
ـ اتركني الآن... أحتاجها لتخفيف توتري...
وقف إلى جانبه و هو يرفع عينيه إلى السماء المظلمة :
ـ وما الذي يوترك يا أخي؟
بدت علامات الضيق على ملامح رمزي و هو يزفر في قلق :
ـ... لقد تأخروا في الرد...
رفع سمير حاجبيه في دهشة وهو يطالع أخاه في عدم تصديق مشوب بارتياح خفي :
ـ و هل يهمك الرد إلى هاته الدرجة؟ ظننتك لا تبالي كثيرا... بل استجبت لرغبة الوالدة!
لم يعلق رمزي فاستطرد سمير مبتسما :
ـ أراك قد تعلقت بها... ماذا فعلت بك هاته الفتاة!
ابتعد عنه رمزي متضايقا، لكن سمير ربت على كتفه وهو يقول :
ـ أرجو أن تكون من نصيبك... سناء فتاة رقيقة و ذات شخصية قوية... على خلق، ولا ينقصها الجمال...
استدار إليه رمزي في حدة و هو يمسك بياقة قميصه و يهتف به :
ـ و ما أدراك أنت بأخلاقها و طباعها؟
ضحكسمير وهويبعد قبضة أخيه عن قميصه :
ـ على رسلك يا أخي... لا تخف ليس لي أية علاقة بها... لكن أخاها سالم زميلي في الجامعة ويتحدث عنها كثيرا وعن مواقفها في البيت...
هدأ رمزي قليلا ثم طالع سمير في فضول :
ـ وماذا يقول عنها؟
ضحك سمير من جديد، لكنه لم يجب... ثم التفت إلى رمزي مطمئنا :
ـ لا تقلق... الفتاة وأهلها لا يعرفونك جيدا... أكيد أنهم يحاولون السؤال عنك... وسيجيبون قريبا...
********
((المشهد السادس))
رنت العبارة في ذهنه للمرة الألف و هو يقود سيارته في عصبية ذاك المساء... كان قد اتصل بوالدها ليستعجل الجواب... و كأنه استعجل النهاية... نهاية أحلامه مع سناء!
"الزواج قسمة و نصيب"
تلك العبارة الركيكة التي يقذف بها والد الفتاة في وجه الخاطب وهو يمثل الأسف... والتي يعني بها الرفض!
حين توقفت السيارة أخيرا، انتبه إلى أنه لم يكن أمام المنزل... قاده قلبه إلى حيث يمكنه أن يراها...
كان قد ركن السيارة قريبا من كليتها... وتقريبا بلا وعي أو سيطرة على أعصابه قفز منها و توجه إلى حيث يلقاها... سار بخطى سريعة وقلب موجوع... وتسمر في مكانه حين التقت عيناه بعينيها... لبضعة أجزاء من الثانية... قبل أن تغض بصرها في حيرة... وألم... وخوف من سؤال تنطق به عيناه... لماذا؟
ـ آنسة سناء... هل لي بكلمة؟ هل لي أن أفهم أسباب الرفض؟
رفعت عينيها في تردد... لكنها تكلمت أخيرا... تكلمت وتكلمت... بصراحة لم يتوقعها، و هي تصفعه بكل كلمة... وأحس بالأرض تميد تحت قدميه...
الصلاة... الفتاة محجبة وملتزمة، ولا ترضى بالاقتران بشاب لا يؤدي صلواته في المسجد... بل لا يحافظ عليها أصلا...
تهاونه في علاقاته مع الزميلات في العمل... لم يتصور أن شخصيته المرحة وأسلوبه الظريف الذي تثني عليه جميع الفتيات اللاتي عرفهن قد توضع يوما موضع شك واتهام!
التدخين... آفة لم يقدر على التخلص منها رغم قراراته السابقة و نواياه الطيبة... لكنها لا ترضى بمن يلقي بنفسه إلى التهلكة!
توقفت، فانقطعت أنفاسه... هل هاته هي صورتي في عينيها؟
لكنه رأى لمحة حزن في عينيها... حزن بعث في قلبه الأمل... وأعاد الهواء إلى رئتيه...
هل تراها تعلقت به قبل أن تعلم عنه كل هذا؟ هل تراها تتألم لأن وضعه لا يناسبها؟
وفي لحظة... أحس بأنه قادر على التغيير... بل أنه أخيرا وجد دافعا للتغيير...
خرج صوته مبحوحا... حزينا... مهموما :
ـ سناء... أنا لست هكذا... لم أرد أن أكون هكذا... لكنني لم أتخذ الخطوة المناسبة لأتغير... لأبدأ صفحة جديدة في حياتي وأسير في طريق سليمة... لكنني لا أريد أن أفقدك...
رفعت عينيها إليه في دهشة... فرأت الصدق والتصميم في عينيه...
هو نفسه لم يصدق ما أحس به في تلك الآونة... هو رمزي... ذو الشخصية القوية المستقلة... الذي لم يؤثر فيه عتاب والده الطويل، وحزن والدته المتواصل، ونصائح أخيه المتكررة... أحس فجأة باستفاقة، بانتفاضة قلبه التي طالما أجلها وماطلها وتناساها وأسكتها...
أخرج علبة سجائره و طالعها باحتقار... رمى بها عند قدميه و سحقها بشدة... لن يستسلم لها ثانية...
لكن هنالك خطوات كثيرة أخرى...ليثبت لها مدى جديته وعمق التغيير في نفسه...
ـ أعدك... أعدك بأن أتغير...
كان ردها البلسم الذي أعاد إليه الحياة :
ـ سأنتظرك... بقلبك الجديد...
***انتهت القصة الأولى***