*×*((صحــــــــوة قلــــب))*×*
((المشهد الأول))
قادته قدماه خارج القاعة و هو لا يكاد يشعر بخطوتاه... كان الامتحان صعبا... بل تعجيزيا... حتى هو الطالب المجتهد المتميز وقف حائرا أمام تلك المعادلات المعقدة و أظلمت الدنيا أمام عينيه في لحظات... هل ضاعت أحلامه في تحقيق الامتياز في اختبارات السنة النهائية؟ شد على أسنانه في حنق... ليس الاستسلام من طبعه...
وقف في بهو الكلية يبحث بعينيه عن رفيقه شوقي... وقعت عيناه على جمع قد احتشد أمام إحدى القاعات... ركز قليلا على الواقفين... و بالفعل ميز بينهم وجه رفيقه الملتهب... الكل خرج ساخطا من قاعات الاختبار!
سار نحوه و ربت على كتفه مهدئا،التفت شوقي نحوه و رسم ابتسامة متعبة :
ـ ضاعت الأحلام!
ـ لا تقل هذا... الاختبار كان صعبا على الجميع... و لا أظنهم يرضون برسوب الدفعة كلها!
تعالت ضحكات ساخرة، مغتصبة، لاح فيها الألم... ثم ارتفع صوت زميل آخر :
ـ ما بكم تقفون خارجا؟ "نادي الثقافة" يقترح عليكم وجبة خفيفة في الداخل! هلموا جميعا... و لننس خيبة اليوم!
تدافع الشباب إلى داخل القاعة و قد انطلقت أصواتهم في مرح غير متوقع... ما أسرع ما ننسى...
تباطأ وليد و وقف خارجا رفقة شوقي الذي لم يكن يميل هو الآخر إلى الانضمام إلى المجموعة، حيث اختلط الشباب و الفتيات في غير تكلف و لا اعتبار لحدود التعامل بين الجنسين...
حانت منه التفاتة إلى مدخل القاعة... و في تلك اللحظة رآها...
كانت تقف في مجموعة من الفتيات، و كان يبدو عليها الهدوء و الثقة، توزع الابتسامات و وجهها الصغير المشرق يبعث على الارتياح... تأملها للحظات و هو لا يكاد ينتبه إلى نفسه، شده جمالها و وداعتها... ثم خفض عينيه في حرج من تصرفه و هو يهمهم في صوت غير مسموع : أستغفر الله... الأولى لك، و الثانية عليك...
و سرعان ما عاد ليركز في الحوار القائم بين صديقيه...
*******
وقفت مع صديقتيها سوسن و داليا وسطالجموع و هي تتلقى التحيات والمجاملات من هذا و ذاك بعد أن ألقت كلمة الترحيب الافتتاحية بصفتها رئيسة نادي الثقافة، في الكلية. كانت عيناها تجولان هنا و هناك، تطمئن على حسن سير الحفلة الصغيرة التي نظمها النادي بمناسبة انتهاء فترة الاختبارات...
كانت تحاول جاهدة التركيز في حوارها مع صديقتيها لكن نظرها كان يسقر في كل مرة على مجموعة من الشبان تقف غير بعيدة عنهم، دون وعي منها...
ـ سارة أين ذهبت؟
التفتتإليها فزعة:
ـ هه؟ ماذا هناك؟
ابتسمت سوسن و قد لاحظت ارتباكها :
- كنت أسألك من أين اشتريت أقراطك فشكلها غريب و مميز...لكن يبدو أنك لم تسمعيني...
ثم اشرأبت بعنقها لتطالع إلى حيث هامت نظرات سارة :
ـ أيهم الذي أخذك منا؟ دعيني أخمن... ممم...
كان وليد يقف في تلك المجموعة و بدا أنه قد اندمج بسرعة في حوار ساخن حول فرص التشغيل عند الخروج من الكلية و أوضاع البلاد الاقتصادية...
ـ إنه المتحدث اللبق.. أليس كذلك؟
نظرت إليها سارة و قد احمرت وجنتاها دون أن تجيب...
ـ إنه وسيم و أنيق... لكن تبدو عليه الجدية و هو منذ وصوله يتحدث في الاقتصاد و المشاكل الاجتماعية! حتى أنه لم يهتم بمشاركتنا الحفلة... هل تظنينه الصنف المناسب لك؟
التمعت في عيني سارة نظرة ذات معنى... و جذبت رفيقتيها قائلة :
ـ تعاليا لنتعرف عليهم... و نعرفهم على النادي...
**********
((المشهد الثاني))
أدار المفتاح في قفل باب الغرفة، ألقى السلام، ثم ارتمى على فراشه في إرهاق...
أغلق شوقي، شريكه في الغرفة، بالسكن الجامعي، الكتاب الذي كان يطالعه و وضعه جانبا و هو يتأمل هيأته المتعبة
ـ أراك قد تعودت السهر خارجا و صرنا لا نراك إلا أطراف الليل...
ـ لا تبالغ إنها الساعة العاشرة!
ـ لكنك لم تكن هكذا في بداية السنة!
نظر إليه وليد مبتسما :
ـ دوام الحال من المحال...
رمقه شوقي بنظرة طويلة ثم سأله :
ـ و أين كنت إلى هاته الساعة؟
أسند وليد رأسه إلى الخلف و أغمض عينيه و هو يقول :
ـ أين تظنني كنت... في النادي... كالعادة...
رفع شوقي حاجبيه في شك :
ـ النادي؟ إلى حدود الساعة العاشرة؟
تنهد و هو يستطرد :
ـ نعم، اجتماع طارئ... يجب أن نكون مستعدين جيدا للحملة... و الوقت يداهمنا...
ـ وليد ما الذي دهاك؟ لقد أصبح النادي يأخذ كل وقتك! لا تنسى أن الاختبارات النهائية قد اقتربت... و لا أرى أنك بدأت مراجعتك بعد...
فقد وليد صبره و هتف في حدة :
ـ و منذ متى تتدخل في شؤوني و تحقق معي بشأن دراستي و نشاطاتي؟
كان قد اعتدل في جلسته و جلس يطالع صديقه بنظرات صارمة...
خفض شوقي عينيه في حزن ظاهر و هز كتفيه في استسلام... تراجع بضع خطوات... ثم عاد إلى مجلسه و فتح كتابه من جديد... دون أن يعلق بكلمة
حل بينهما الصمت لبضع دقائق... كان التوتر واضحا في ملامحهما
ـ شوقي... لم أقصد... أنا آسف...
لم يرفع شوقي نظراته عن كتابه و هز رأسه متفهما :
ـ لا عليك... أنت لست طفلا... و تعي مسؤولياتك جيدا...
لم تكن المرة الأولى التي يتشاجران فيها... بسبب النادي
مذ انضم وليد إلى نادي الثقافة، ابتعد عن شوقي... و اتسعت الهوة بينهما...
رفع شوقي عينيه... التقتا بعيني وليد التي بدا فيها الندم :
ـ دعني أسألك سؤالا واحدا...
نظر إليه وليد في انتباه
ـ من كان حاضرا في الاجتماع اليوم؟
ـ أنا و سارة و...
توقفت الكلمات في حلقه... و لبث شوقي ينتظر في اهتمام
ـ كان هنالك سوسن و داليا و محمد و عماد... لكنهم غادروا قبلنا... كان هنالك عمل كثير... و سارة أصرت على إتمامه الليلة... فلم أستطع تركها بمفردها...
و قبل أن يتكلم شوقي سارع وليد يبرر :
ـ لكن الباب كان مفتوحا طبعا... و كان هنالك بعض الطلبة في الساحة... كما أننا كنا منهمكين في العمل... و...
قاطعه شوقي متهكما :
ـ لست مضطرا للتبرير... المهم هو أن تكون مقتنعا بما تفعل...
ـ ماذا تقصد؟
كانت ملامح وليد مكفهرة و قد علاها الارتباك...
تردد شوقي للحظات... لكنه قرر أن يواجه صديقه
ـ لست أدري هل أنت غبي أم أنك تتغابى.. الجميع يعلمون أنها مهتمة بك، و أنها تحاول إشراكك في كل نشاطاتها حتى تظل قريبة منك... و أنت تتحدث عن النادي... أظن أن النادي سيصبح دولة مستقلة إذا واصلتما العمل فيه على هذا النسق إلى نهاية السنة!! ألا تفهم أنه مجرد تعلة؟ لماذا لا تقترح انضمام آخرين إليه إذا كان لديها كم هائل من الأعمال مع أن الكثيرين يريدون ذلك؟
تصاعد الدم إلى وجهه و هو يحد نظراته إليه :
ـ ما الذي تقوله يا شوقي؟ هل جننت؟
واصل شوقي متجاهلا اعتراضه :
ـ أنت يا عزيزي شاب محترم، ملتزم و ليس لديك خبرة كافية بكيد الفتيات و ألاعيبهن
ـ لكن سارة فتاة محترمة... و هي لم تجبرني على شيء و لم تتجاوز حدود الزمالة...
طالعه شوقي في سخرية لاذعة :
ـ بالطبع فأنت نوع مختلف من الشباب... و هؤلاء الفتيات يعاملن كل فريسة باللغة التي تفهمها... و هيتعلم أنها لن تنجح في استمالتك بالدلال... بل بالجدية و العمل...
صرخ فيه وليد :
ـ هل تعلم... أنت معقد!
هز شوقي رأسه في ألم لكنه ابتسم و هو يتمتم : سامحك الله!
صرت تعايرني يا وليد! و من أجل من؟ من أجل بنت تلعب بك و تسخر من سذاجتك و حسن نيتك...
لكنه لم ينبس ببنت شفة...
سارع وليد يهتف :
ـ أنت تظلمها! ليست كل الفتيات كما تحسبهن
ـ أعلم أن كل الفتيات لسن من الطراز نفسه... لكن سارة يا وليد...
تردد شوقي قبل أن يقول :
ـ أنت لا تعرف ماضيها...
ـ ماذا عن ماضيها؟
ـ كانت لديها الكثير من العلاقات و الصداقات... و هي لا تتوانى عن اللعب بمشاعر الآخرين...
ـ لعلها إشاعات... هل تصدق كل ما يقال؟
ـ ليس هنالك دخان من دون نار...
قد تغير صوته و هو يقول :
ـ و ما يدريك... لعلها تابت و تغيرت... كما أن علاقتنا لا تتعدى الصداقة و العمل في النادي...
ـ و إلى أين تسير صداقتك معها؟
**********
((المشهد الثالث))
كان يقف مع مجموعة من الأصدقاء في بهو الجامعة... ينتقلون من موضوع إلى آخر، في انتظار محاضرات الفترة المسائية...
فجأة التفت الجميع عند سماع صوت أنثوي مميز ينادي من بعيد : وليد!
تبادل الرفاق ابتسامات وغمزات... أما شوقي فقد عقد حاجبيه في استياء و هو يرقب وليد الذي لبى نداء سارة دون أدنى تردد...
وقفت تنتظره على بعد بضعة أمتار... و ما إن لمحت نظرة التساؤل في عينيه حتى بادرته دون مقدمات :
- الليلة سنقيم حفلة عيد ميلاد داليا... يجب أن ترافقني لنشتري لها هدية
- هدية؟ مهلا... من قال أنني أريد أن أقدم هدية لداليا أو أنوي الذهاب إلى الحفلة أصلا؟
- ليس لديك خيار!
نظر إليها في شك و عقد ذراعيه أمام صدره :
- و كيف فقدت الخيار يا ترى؟
- وليد... أخبرت الجميع أن النادي سيتكفل بالحفلة لأن داليا من أبرز الأعضاء فيه... و أنت بصفتك نائب رئيس النادي من واجبك الإشراف معنا!
- سارة... أنت تعلمين أنني لا أحب هذه الحفلات... ثم أنت لم تسأليني رأيي...
بدت على وجهها الصغير علامات الأسف و الاستجداء :
- آسفة للغاية... و لكن غيابك سيؤثر سلبا على سير الحفلة!
ابتسم في تهكم وقال :
- لماذا؟ هل خصصت لي دور الراقصة أو المغنية؟
أطرقت في خجل و قالت :
- لا... و لكن...
لبث يطالعها في صمت... و انتظار... فواصلت بصوت أوضح :
- لقد تعودت أن نقوم بكل شيء معا... حتى أنني لم أعد أثق في قراراتي إن لم تشاركني فيها!
ثم أضافت و قد رفعت عينيها لتنظر إليه مباشرة :
- حتى أنني أريد التنحي عن منصب الرئيسة و ترشيحك مكاني... و أنا واثقة أن الجميع سيؤيدني... وليد... أنت تصلح للقيادة أكثر مني!!
**********
ارتفعت الأصوات الضاحكة الصاخبة من شقة داليا و قد تجمع عدد لا بأس به من الأصدقاء و الصديقات في المدخل...
كانت سارة تقف وسط الجموع كأنها صاحبة الحفلة تطلب تغيير الموسيقى، توشوش كلمة في أذن هذه و تبتسم لذاك... حتى داليا كانت لا تفارقها فالحفلة كانت ستكون مملة بغيابها.
لكنها رغم انشغالها وسط الزحام كانت عيناها لا تفارقان وليد : كان يبدو عليه الضجر... بل الانزعاج!!
تقدمت نحوه و قد كان واقفا قرب الباب متأهبا للخروج في أية لحظة! جذبته من ذراعه و هي تصرخ ليسمعها :
ـ تعال سنقسم الكعكة...
تبعها في امتعاض...
تم تقسيم الكعكة وسط هرج و مرج ثم فتحت الهدايا وتقدمت سارة لتفتح هدية النادي وهتفت بصوت رقيق و هي ترمق وليد بنظرة خاصة :
ـ وهذه هدية الناي... انتقاها لك وليد... المرشح الجديد لرئاسة النادي
ارتفعت الهتافات باسم وليد و سارة و عادت الموسيقى و الصخب...
كان يحس بالاختناق... لكن إحساسا غريبا انتابه في تلك اللحظات... إحساس مميز لم يدرك له معنى في حينه... و عادت كلمات شوقي ترن في أذنيه... إنها تهتم بي... تهتم بي...
و ما إن غفلت عنه سارة لثوان حتى تسلل خارجا... لينفرد بأفكاره...