بيان وسطية الإسلام في نظرته إلى أسباب الحياة المادية ، حيث لم يهوّن من شأنها ويحقر مُسْتَجْلِبَها وينقص من تصديقه ، بل اعتبرها من صميم الإيمان بالله وداخلة في التصديق بربنا العظيمإذ هو سبحانه خالقها وموجدها والآذن لها بالتأثير، فمن عمل بها على مقتضى ذلك كان مؤمناً بالله مطيعاً لأمره . وهذا هو وسط الطرفين في هذه المسألة : طرفٌ ظن الاستغناء بالسبب عن التوكل ، فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل ، وأخل بواجب التوحيد .
وطرفٌ أخذ يدخل في التوكل تاركاً لما أمر به من الأسباب ديانةً واعتقاداً أنها تنقص توكله ، فهو أيضاً جاهلٌ ظالم عاصٍ لله بترك ما أمره ، فإن فعل المأمور به عبادة لله .
ونورد في هذه الحلقة حديثاً شريفاً ، تتجلى فيه أهمية الأخذ بالأسباب المادية ، وأنها مما أمر به الشرع المطهر ، ولا تَضِيْرُ في تَوَكّل العبد أو تنقصه إذا كان معتقداً أن تأثيرها بأمر الله وإذنه لا تستقل بنفع ولا ضر .
فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ ، كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرُ ، فَسَلَّمْتُ ، ثُمَّ قَعَدْتُ ، فَجَاءَ الْأَعْرَابُ مِنْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَتَدَاوَى ؟ فَقَالَ : تَدَاوَوْا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً ، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ .(1)
من دلائل الحديث :
1 - دل الحديث على الأمر بالتداوي ، وتعليل ذلك بأن الله ما أنزل داء إلا أنزل له دواء 0
2 - قوله صلى الله عليه وسلم في تعليل الأمر بالتداوي : ( فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء ) ومثله ما رواه جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ). (2)
قال ابن القيم : " يجوز أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم : ( لكل داء دواء ) على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها ، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ، ولكن طوى علمها عن البشر ولم يجعل لهم إليه سبيلا ، لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله .
والثاني : أن يكون من العام المراد به الخاص ، ويكون المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء ، فلا يدخل في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء ، وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد : ( تدمر كل شيء بأمر ربها )(3) ، أي كل شيء يقبل التدمير ومن شأن الريح أن تدمره ونظائره كثيرة .
قال : والأول أحسن المحملين في الحديث .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( لكل داء دواء ) تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه ، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله ، تعلق قلبه بروح الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء .
وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه ، والتفتيش عليه.
وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب وما جعل الله للقلب مرضا إلا جعل له شفاء بضده فإن علمه صاحب الداء واستعمله وصادف داء قلبه أبرأه بإذن الله تعالى " . (4)
3 - قوله صلى الله عليه وسلم : ( غير داء واحد الهرم ) قال الخطابي : " فيه أنه جعل الهرم داء ، وإنما هو ضعف الكبر ، وليس هو من الأدواء التي هي أسقام عارضة للأبدان من قِبَل اختلاف الطبائع وتغير الأمزجة , وإنما شبهه بالداء لأنه جالب التلف ، كالأدواء التي قد يتعقبها الموت والهلاك ، وهذا كقول النمر بن تولب :
ودعوت ربي بالسلامة جاهداً .... ليُصِحّني فإذا السلامةُ داءُ
يريد : أن العمر لما طال به أداه إلى الهرم ، فصار بمنزلة المريض الذي قد أدنفه الداء وأضعف قواه ، وكقول حميد بن ثور الهذلي :
أرى بصري قد رابني بعد صحة ...وحسبك داءً أن تصح وتسلما ". (5)
4 - دلّ الحديث على الأمر بالتداوي ، وقد أوجبه جماهير العلماء إذا كان به حفظ النفس من الهلكة المحققة ، قال ابن تيمية : " من التداوي ما هو واجب ، وهو ما يعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره ، كما يجب أكل الميتة عند الضرورة ، فإنه واجب عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء ، وقد قال مسروق : من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار" . (6)
وتنازع العلماء في حكم التداوي فيما دون ذلك ، على أقوال أربعة :
الأول : أنّ ترك التداوي مباح ، بل هو فضيلة لمن قوي على الصبر ، وعلم من نفسه القدرة على ذلك ، واستدلوا بقصة المرأة السوداء التي كانت تصرع ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك )(7) ، فقد دلّ هذا الحديث على جواز ترك المعالجة والتداوي ، قال ابن تيمية : "وأما التداوي فليس بواجب عند جماهير الأئمة ، وإنما أوجبه طائفة قليلة ، كما قاله بعض أصحاب الشافعى وأحمد ، بل قد تنازع العلماء أيما أفضل : التداوى أم الصبر ؛ للحديث الصحيح حديث ابن عباس عن الجارية التي كانت تصرع ، ولأن خلقاً من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتداوون ، بل فيهم من اختار المرض ، كأبَيّ بن كعب ، وأبي ذر ، ومع هذا فلم يُنكَر عليهم ترك التداوي ".
وقال في موضع آخر : " ومن نازع فيه [ أي في ضرورة التداوي ووجوبه ] خَصَمَتْه السنة في المرأة السوداء التي خيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين الصبر على البلاء ، ودخول الجنة ، وبين الدعاء بالعافية ، فاختارت البلاء والجنة ، ولو كان رفعُ المرض واجباً لم يكن للتخيير موضع ، ومثله اختياره الحمى لأهل قباء ، وخصمَه حالُ أنبياء الله المبتلين الصابرين على البلاء ، حين لم يتعاطوا الأسباب الدافعة له مثل أيوب عليه السلام ، وغيره ، وخصمَه حالُ السلف الصالح فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حين قالوا له : ألا ندعو لك الطبيب ، قال : قد رآني ، قالوا : فما قال لك : قال : إني فعال لما أريد ، ومثل هذا ونحوه يروى عن الربيع بن خيثم المخبت المنيب ، الذي هو أفضل الكوفيين ، أو كأفضلهم ، وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الهادي المهدي ، وخلق كثير لا يحصون عدداً ، ولستُ أعلم سالفاً أوجب التداوي ، وإنما كان كثير من أهل الفضل والمعرفة يفضّل تركه تفضّلاً ، واختياراً لما اختار الله ، ورضي به ، وتسليماً له ، وهذا المنصوص عن أحمد ، وإن كان من أصحابه من يوجبه ، ومنهم من يستحبه ويرجحه كطريقة كثير من السلف استمساكا لما خلقه الله من الأسباب وجعله من سنته في عباده " . (8)
وخلاصة هذا القول أنّ ترك التداوي مباح ، بل هو فضيلة لمن قوي على الصبر ، وعلم من نفسه القدرة على ذلك 0
وليس معنى ذلك أنه لا يرقي نفسه بالرقى الشرعية ، والأوراد والتعاويذ ، بل ذلك مشروعٌ على كل حال .
الثاني : استحباب التداوي ، قال به بعض أهل العلم ، للنصوص الواردة فيه ، كحديثنا هذا : ( تداووا ، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء ، غير داء واحد الهرم ) ، ولهدي النبي صلى الله عليه وسلم في أنه كان يَتَداوَى ويُدَاوِي ، وقد أطال في نصرة هذا القول ابنُ القيم رحمه الله تعالى .(9)
وقال ابن الجوزي : " أرى أن التداوي مندوب إليه ، للحديث الصحيح : ( ما أنزل الله داء إلا و أنزل له دواء فتداووا ) ومرتبة هذه اللفظة الأمر ، و الأمر إما أن يكون واجبا أو ندبا ، و لم يسبقه حظر فيقال : هو إباحة .
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول : ( تعلمت الطب من كثرة أمراض رسول الله صلى الله عليه و سلم و ما ينعت له ) (10) " .(11)
الثالث : أنه يستحب التداوي للأحاديث المشهورة فيه ، وإن ترك التداوي توكّلاً فهو فضيلة ، قاله النووي . (12)
الرابع : وجوب التداوي ، قال به بعض الحنابلة وبعض الشافعية ، وتمسكوا بالأمر الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم : ( تداووا ) .
هذا ما تيسر إيراده ، والله أعلم بالصواب ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
(1) أخرجه أبو داود ( كتاب الطب ، باب في الحمية ، 4 / 3 ) ح ( 3855 ) ، قال سفيان ابن عيينة : " ما على وجه الأرض اليوم إسنادٌ أجود من هذا " .
وقال الترمذي : حديثٌ حسن صحيح .
وصححه ابن حبان والحاكم .
( 2 ) أخرجه مسلم ( كتاب السلام ، باب لكل داء دواء ) ح ( 2204 ) 0
( 3 ) سورة الأحقاف ، آية رقم ( 25 ) 0
( 4 ) زاد المعاد لابن القيم ( 4 / 12 ) باختصار 0
( 5 ) معالم السنن للخطابي ( 5 / 346 ) 0
( 6 ) مجموع الفتاوى لابن تيمية ( 18 / 12 ) 0
( 7 ) أخرجه البخاري ( كتاب المرضى ، بَاب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ مِنْ الرِّيحِ ) ح ( 5652 ) ، ومسلم ( كتاب البر والصلة ، بَاب ثَوَابِ الْمُؤْمِنِ فِيمَا يُصِيبُهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حُزْنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا ) ح ( 2576 ) من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم 0
( 8 ) مجموع الفتاوى لابن تيمية ( 24 / 269 ) و ( 21 / 563 ) – باختصار - ، وينظر : زاد المعاد لابن القيم ( 4 / 70 ) ، المجموع شرح المهذّب للنووي (5 / 98 )0
( 9 ) ينظر : زاد المعاد لابن القيم ( 4 / 10 – 17 ) و ( 4 / 61 ) 0
( 10 ) قال الإمام أحمد : ( حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الزُّبَيْرِيُّ قَدِمَ عَلَيْنَا مَكَّةَ ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، قَالَ : كَانَ عُرْوَةُ يَقُولُ لِعَائِشَةَ : يَا أُمَّتَاهُ لَا أَعْجَبُ مِنْ فَهْمِكِ ، أَقُولُ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ، وَلَا أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالشِّعْرِ وَأَيَّامِ النَّاسِ ، أَقُولُ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ أَوْ وَمِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ ، وَلَكِنْ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالطِّبِّ ، كَيْفَ هُوَ ؟ وَمِنْ أَيْنَ هُوَ ؟ قَالَ : فَضَرَبَتْ عَلَى مَنْكِبِهِ ، وَقَالَتْ : أَيْ عُرَيَّةُ ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْقَمُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ ، أَوْ فِي آخِرِ عُمْرِهِ ، فَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَتَنْعَتُ لَهُ الْأَنْعَاتَ ، وَكُنْتُ أُعَالِجُهَا لَهُ ، فَمِنْ ثَمَّ ) مسند الإمام أحمد ( 7 / 99 ) ح ( 23859 ) 0
( 11 ) صيد الخاطر لابن الجوزي ( 99 ) باختصار 0
( 12 ) المجموع للنووي ( 5 / 98 )، وللاستزادة انظر : طرح التثريب ( 8 / 185 ) ، غذاء الألباب ( 1 / 457 ) 0
رائد بن حمد السليم / قسم السنة ، جامعة القصيم