عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 21-01-2007, 12:42 PM
الصورة الرمزية FRANKENSTEIN
FRANKENSTEIN FRANKENSTEIN غير متواجد حالياً
عضو قدوة
 
تاريخ التسجيل: Jul 2006
العمر: 34
المشاركات: 2,829
معدل تقييم المستوى: 0
FRANKENSTEIN is an unknown quantity at this point
افتراضي

جواسيس غيروا مجرى التاريخ

--------------------------------------------------------------------------------





تظل الجاسوسية ثاني أقدم مهنة في التاريخ وأكثر المهن تشويقا وغموضا، والواقع أن قواعد لعبة التجسس لم تتغير عبر العصور، لكن ربما منحها بعض الجواسيس خصوصية معينة وبعض التفاصيل المميزة مما أضفى على عالم الجاسوسية طبيعة غريبة ومثيرة وشديدة الغموض. وتمكن عدد من الجواسيس من إعادة صياغة التاريخ فقلبوا موازينه وأحرزوا، بدهائهم وحيلهم، النصر لبلادهم بعضهم حموا عروش ملوكهم مثل سير فرانسيس

والسينجهام الذي حارب بضراوة من أجل تأمين عرش الملكة إليزابيث الأولى، وآخرون جلبوا النصر لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية مثل ريتشارد سورج، هناك من تسبب في نكسة مثل جاسوس الموساد الأبرز ولفجانج لوتز الذي عمل في القاهرة كضابط ألماني سابق، قال البعض بفخر إن الحروب لا يمكن أن تحسم بالأساليب المحترمة، إنهم الجواسيس الأبرز في تاريخ الجاسوسية الذين أعادوا كتابة التاريخ.

ولفجانج لوتز
ولد في ألمانيا عام 1921 لأسرة يهودية، والده مخرج مسرحي ووالدته ممثلة وكل منهما لم يشعر بأية ارتباطات دينية ولهذا فإن والدته لم تقم حتى بختانه واتضح فيما بعد أن هذا الأمر سيلعب دوراً بارزاً في تغطية عمله كجاسوس لصالح “إسرائيل”.

انفصل والداه عام 1931 وفي عام 1933 عشية صعود هتلر إلى السلطة في ألمانيا هاجرت والدته إلى فلسطين وأخذت معها ابنها وعملت هناك في مسرح بتل أبيب في حين التحق ولفجانج بمدرسة بين شمين الاستيطانية وغير اسمه إلى زائيف جور اريح حيث كان زائيف هو الاسم العبري لاسم ولف أي الذئب ومع مرور الوقت أصبح خبيراً في ركوب الخيل وبعد عدة سنوات قبل أن يتم عامه الخامس عشر انضم إلى منظمة الهجانا الأمنية الاستخبارية. وكانت من بين مهامه حراسة الحافلات المدرعة التي تحمل ما تحتاجه مدرسة بين شمين التي كان يحيط بها العديد من القرى والمدن الفلسطينية الرافضة للوجود الصهيوني في أرض فلسطين.

في عام 1939 اندلعت الحرب العالمية الثانية وبما أن لوتز كان يتحدث الألمانية والإنجليزية ببراعة إضافة إلى العبرية والعربية رأت القوات الانجليزية أنه سيكون عوناً كبيراً لها وتم تجنيده وأرسل إلى مصر وظل هناك طيلة فترة الحرب وكانت مهامه الأساسية تتضمن التحقيق مع أسرى الحرب الألمان هناك حيث كانت مهارته في استخدام اللغة الألمانية عوناً كبيراً له.

عقب الحرب عاد إلى فلسطين وشارك في عمليات تهريب الأسلحة لمنظمة الهجانا وعندما أعلنت دولة “إسرائيل” في مايو/أيار 1948 خدم لوتز كملازم أول في قوات الدفاع “الإسرائيلية” ولعب ادواراً مختلفة في تنفيذ أكثر العمليات وحشية في الأراضي الفلسطينية، وبقي في الجيش بعد الحرب وفي عام 1956 رقي إلى رتبة لواء وقاد عملية “إسرائيلية” ضد القوات المصرية في سيناء في عملية أطلق عليها في “إسرائيل” اسم حملة السويس.

ومع بداية عام 1957 اتخذ القرار بإرساله إلى مصر حتى يمكنه جمع معلومات استخبارية عن المساعدات السوفييتية هناك التي تقدم للحكومة المصرية وللزعيم جمال عبد الناصر.

في نوفمبر 1959 أرسل إلى ألمانيا بعد عام من تنقله من مكان إلى مكان حتى يصعب اقتفاء خطواته ثم أرسل مرة أخرى إلى مصر ووصل هناك في ديسمبر/كانون الاول ،1960 وسرعان ما تمكن من إقامة العديد من الاتصالات المهمة حيث ذهب إلى نوادي الفروسية التي كانت مكان تجمع أهم القيادات العسكرية المصرية وترددت الأخبار عن الثري الألماني الذي تغلغل بين أبناء الطبقة الأرستقراطية المصرية وخلال أيام كان لوتز يتلقى الكثير من الدعوات لحفلات عشاء في أهم البيوت المصرية وكان الأثرياء الذين يستثمرون أموالهم في تربية الجياد يطلبون منه المشورة وسرعان ما قرر لوتز أن يظهر سخاءه حيث اشترى الجياد ووضعها في ناد للفروسية.

واستأجر فيلا في منطقة مصر الجديدة وتظاهر بأنه من هواة تربية الخيول العربية وبهذا تمكن من الانضمام لعضوية نادي الفروسية في الجزيرة ومن خلال النادي تمكن من عقد المزيد من الصداقات مع هواة تربية الخيول من المصريين والأجانب.

وبعد ستة أشهر عاد إلى أوروبا وقدم تقاريره إلى قيادات الموساد الذين أعلنوا رضاءهم التام عن سير عمله حيث أطلق على أيلي كوهين اسم رجل الموساد في دمشق أطلقت الوكالة “الإسرائيلية” على لوتز اسم عين تل أبيب في القاهرة.

وفي صيف عام 1962 عاد لوتز وزوجته إلى مصر وخلال الفترة التي قضاها مع زوجته في القاهرة تمكن من إقامة العديد من الحفلات والعلاقات البارزة دخل المجتمع المصري حيث أقام علاقات صداقة مع شخصيات بارزة في الاستخبارات العسكرية المصرية كما تمكن لوتز من إقامة العديد من الصداقات مع الخبراء الألمان الذين كانوا يعيشون في القاهرة وأصبح صديقاً شخصياً للعديد منهم مثل جرهارد بوش الذي يعتقد أنه كان يتجسس على الحكومة المصرية لصالح عاصمة ألمانيا الغربية بون إضافة إلى أنه تلقى قائمة بأسماء جميع العلماء الألمان في القاهرة وعناوينهم وتمكن من الحصول على تفاصيل دقيقة عن دور كل منهم في مصانع الإنتاج الحربي المصرية.

وفي تلك الفترة نجحت مهمته في معرفة كل ما يمكن معرفته عن الصواريخ الروسية سام وموقع بنائها بالقرب من قناة السويس في مدينة الإسماعيلية، وكان قد استخدم جهاز إرسال لاسلكي صغير أخفاه في حمامه الشخصي ومن خلاله أرسل رسائل سرية إلى الموساد طيلة خمس سنوات عن المعلومات السرية العسكرية المصرية وبرنامج الصواريخ المصرية.

في بداية الستينات كان رئيس الموساد وقتها إيسير هاريل شديد القلق من خطر العلماء الألمان الذين يعملون مع نظرائهم المصريين لتطوير برنامج الصواريخ حيث كان هناك خوف كبير من قدرة تلك الصواريخ على الوصول إلى المدن “الإسرائيلية” حيث أدركت الموساد من تجربة إطلاق مصرية أنها ناجحة وتشكل تهديداً حقيقياً على أمن “إسرائيل”.

ظل لوتز يعمل بشكل جيد في القاهرة لعدد من السنوات إلى أن حدثت تغيرات في السياسة الخارجية المصرية في خريف عام ،1964 حيث كانت مصر تعتمد على المساعدات العسكرية السوفييتية منذ منتصف الخمسينات واستخدم الروس المساعدات في الضغط على عبد الناصر لدعوة رئيس ألمانيا الشرقية والتر البريتش لزيارة القاهرة واعترضت حكومة ألمانيا الغربية ولكن عبد الناصر شعر أن عليه عدم إلغاء الزيارة في الوقت الذي كان فيه السوفييت يشتكون أيضا من العمليات الاستخبارية التي تقوم بها ألمانيا الغربية بالتعاون مع وكالة الاستخبارات الأمريكية ضدهم، وفي شتاء عام 1965 قبيل زيارة رئيس ألمانيا الشرقية أمر عبد الناصر باعتقال نحو ثلاثين عالماً من ألمانيا الغربية كانوا يعيشون في القاهرة وكان من بين الذين أمر باعتقالهم ولفجانج لوتز إضافة إلى زوجته ووالديها اللذين كانا في زيارة لمصر وقتها.

وعندها توقع لوتز أن الحكومة المصرية علمت بدوره في التجسس لصالح الموساد وخلال استجوابه اعترف بكل شيء فيما عدا كونه يهودياً و”إسرائيليا” حيث أصر على أنه ضابط ألماني سابق ضغطت عليه الموساد للتجسس لصالحها، وكانت الموساد تمكنت من تعيين محام ألماني للدفاع عنه أكد وقتها ما كان خافيا على الحكومة المصرية وحيث قال إنه بالفعل مواطن “إسرائيلي” خدم في الجيش “الإسرائيلي” وشارك في أكثر العمليات العسكرية والوحشية ضد الفلسطينيين.

وفي عام 1964 ظهر لوتز على شاشات التلفزيون المصري وهو يقدم اعترافه بأنه ألماني عمل في شبكة تجسس “إسرائيلية” في مصر منذ عام ،1961 وأنه نادم على ما فعل ويحمل للمصريين الاحترام والتقدير ويعترف بأنهم عاملوه معاملة حسنة في السجن والواقع أن السلطات المصرية حتى ذلك الوقت لم تعرف خلفية لوتز الحقيقية، واعتقدوا أنه ألماني مخادع يعمل لحساب “إسرائيل” وبدلاً من إعدامه أرسل إلى السجن مدى الحياة عام ،1965 وغرامة قدرها 20 ألف دولار أمريكي، وحكم أيضاً على زوجته بالسجن لمدة ثلاث سنوات، وتم إطلاق سراحه بعد ثلاث سنوات مقابل 500 ضابط مصري كانوا قد أسروا في حرب 1967وكانت المرة الأولى التي تعترف فيها “إسرائيل” بأن لوتز جاسوسها، وعند إطلاق سراحه ذهب إلى تل أبيب مع زوجته الألمانية اليهودية حيث وضع كتاب بعنوان “جاسوس الشمبانيا” ونال الكتاب نجاحاً كبيرا ولكن ثروة الجاسوس تضاءلت بشكل كبير عقب وفاة زوجته، وفي مقابلة أجريت معه عندما كان في رحلة في ميونخ عام 1978 شكا من أنه يعيش على حافة الفقر وأنه لا يتلقى سوى معاش لا يتعدى 200 دولار سنوياً يدفع له من قبل الموساد.

كيم فيلبي
يعد في سجلات تاريخ الجاسوسية زعيم حلقة عملاء كامبردج الشهيرة والأسطورية وأحد أهم جواسيس القرن العشرين، انضم إلى خدمة الاستخبارات السرية عام 1940 وترقى في منصبه حتى وصل إلى موقع رئاسة إدارة مكافحة التجسس السوفييتي وضابط الارتباط ما بين الاستخبارات البريطانية ال MI6 ونظيرتها الأمريكية الCIA وأيضا الFBI وهو من قام بتسريب جميع أسرار عمليات الحلفاء وقدمها إلى الروس وقام بالعمليات السرية من أجل إزاحة الستار الحديدي في السنوات الأولى للحرب الباردة كان عبثياً ومتعجرفاً وتهكمياً ومليئاً بالثقة بالنفس وكان جاسوساً بارعاً تمكن بكل ذكاء من التفوق على وكالات التجسس البريطانية التي عمل معها، وكان مخلصا للماركسية حيث فضل النظام السوفييتي بكل مساوئه عن النظم الغربية الديمقراطية وضحى في سبيل الماركسية بكل شيء بما في ذلك جنسيته وسمعته.

ولد في الهند البريطانية لأسرة تنتمي للطبقة العليا حيث كان والده ضابطاً مدنياً ذا رتبة عالية، وعقب تخرجه في إحدى مدارس الأرستقراطيين عام 1928 التحق بجامعة كامبردج وتخرج فيها عام ،1933 وكانت أول بناء في عمله كجاسوس سوفييتي مزدوج.

وعند تخرجه عمل فليبي في الصحافة وبحث عن وظيفة في صحف سياسية معتدلة وأخفى معتقداته الشيوعية وعندما اندلعت الحرب الإسبانية حصل فيلبي على عمل كمراسل لصحيفة لندن وهي وكالة صحافة صغيرة لتغطية الحرب، ولكنه في الواقع كان قد أرسل إلى أسبانيا من قبل السوفييت للتجسس على الثوار ضد الجمهوريين.

عاد إلى إنجلترا واندلعت الحرب العالمية الثانية ولكنه أرسل إلى فرنسا وفي هذا الوقت أصبح مراسلاً حربياً متمرساً وأظهر احتراماً للقائد الأعلى البريطاني ومن خلاله تمكن من الاطلاع على الأسرار العسكرية الأكثر أهمية والتي كان يرسلها إلى موسكو.

وعندما سقطت فرنسا عاد إلى إنجلترا مرة أخرى وعلى الرغم من عضويته في البعثة الأنجلو- ألمانية إلا إنه قرر الانضمام إلى خدمة الاستخبارات البريطانية السرية وتمكن ببراعة لا توصف من الانضمام إلى الاستخبارات السرية، وفي صيف عام 1940 كانت المرة الأولى التي أقام فيها اتصالاً بالخدمة السرية البريطانية.

وترقى في منصبه حتى وصل إلى منصب رئيس إدارة مكافحة التجسس السوفييتي وضابط الارتباط ما بين الاستخبارات البريطانية ال MI6 ونظيرتها الأمريكية ال CIA وأيضاً الFBI والذي قام بخيانة جميع أسرار عمليات الحلفاء وقدمها إلى الروس وقام بالعمليات السرية من اجل إزاحة الستار الحديدي في السنوات الأولى للحرب الباردة. في عام 1967 كتب من موسكو مذكراته في كتابه الشهير الذي ما زال حتى اليوم يطبع الآلاف من النسخ “حربي الصامتة” وهو الكتاب الذي أذهل العالم وفيه كشف عن تفاصيل عمله كجاسوس مزدوج لصالح الKGB للمرة الأولى واعتبره العالم أحد اكثر الجواسيس نجاحا في العالم وكان أيضاً كاتباً متميزاً قدم (قصة أيقونة) عن سنوات الحرب الباردة وأحدث ما يعد ثورة في عالم كتب الجاسوسية. الكتاب أعيد طبعه مرات ومرات بعد نحو 12 عاماً من صدوره للمرة الأولى وفيه يقدم فيلبي تفاصيل عمليات التجسس التي قام بها لصالح الاتحاد السوفييتي وكيف تمكن من النجاح في الهرب إلى موسكو عام 1963 والتي عاش بها حتى مماته عام ،1988 ويشرح لماذا ظل مخلصاً للشيوعية حتى بعد أن اكتشف جرائم ستالين؟

ويكتب في مذكراته: “في صيف عام 1940 كانت المرة الأولى التي أقيم فيها اتصال بالخدمة السرية البريطانية ولكن الأمر كان قضية مثيرة بالنسبة لي لعدة سنوات في ألمانيا النازية وفيما بعد في أسبانيا حيث خدمت كمراسل لصحيفة التايمز مع قوات الجنرال فرانكو “وفي جزء آخر يكتب: “قررت أن أترك التايمز قبل أن تتركني هي إن فكرة أن أظل أكتب ممجداً عظمة القوات البريطانية وروعة أخلاقيات جنودها للأبد كانت فكرة ترعبني”.

عند نهاية الحرب فإن إنجلترا وإلى حد كبير الولايات المتحدة أصبحتا أقل ثقة في حليفهما السوفييتي وأدركا أن جوزيف ستالين لديه خطط ما بعد الحرب تتضمن الاستيلاء والسيطرة على دول وسط أوروبا أثناء تحررها من الألمان، وأراد تشرشل أن تتم مراقبة السوفييت عن قرب ومن جانبه كما يذكر فيلبي اقترح أن يتم إنشاء مكتب مقاومة للشيوعية داخل الاستخبارات البريطانية في حين أدرك المشرف عليه أن فيلبي كان على صلة بضباط سوفييت ذوي رتب عليا في إنجلترا ودول أخرى وبهذا تمت الموافقة على خطة فيلبي التي أبهجت المشرف عليه السوفييتي اناتولي ليبيديف الذي استبدل ببوريس كورتوف مدير الاستخبارات المسؤول عن عمليات فيلبي لصالح الKGB والذي كان لفترة طويلة قد أشرف على عمليات فيلبي.

في 23 يناير 1963 ترك فيلبي أسرته وهرب إلى الاتحاد السوفييتي في حين انتظرته زوجته في حفل عشاء وسار عبر مرفأ في ميناء بيروت ومن هناك استقل سفينة إلى الميناء الروسي أوديسا وعاش فيلبي لعدة شهور في مدينة على نهر الفولجا على بعد آلاف الأميال من موسكو وعندما وصل موسكو كان بورجيس قد توفي إثر أزمة قلبية في سن 52 عاما وكانت وفاته بسبب الإفراط في الشراب.

جورج باهر خائن بريطاني
ولد جورج باهر في 11 نوفمبر 1922 وكان جاسوسا بريطانيا سابقا كان في الواقع جاسوساً مزدوجاً عمل أيضاً لصالح الاتحاد السوفييتي.

ولد في مدينة روتردام حيث كانت والدته هولندية ووالده مصرياً يهودياً نال الجنسية البريطانية وحمل اسم جورج باهر لواحد من أكثر الأسر اليهودية بروزا في أمستردام. وكان والده قد توفي وهو في الرابعة عشرة من عمره وأرسل إلى مدرسة بريطانية في القاهرة حيث كانت تلك هي أمنية والده ووصيته، وبينما كان هناك مع أقاربه أمضى معظم وقته مع عمه هنري كوريل الذي كان عضواً بارزاً في الحزب الاشتراكي المصري وعميلا للاستخبارات السوفييتية ال KGB وعندما عاد إلى أمستردام كان اشتراكياً مخلصاً.

كان بلاك عضواً نشطاً في المقاومة الهولندية المقاومة للنازية وهرب إلى لندن متنكرا في هيئة راهب حيث حاول البوليس السري النازي القبض عليه.

وفي انجلترا غير اسمه إلى جورج بلاك ومع مرور الوقت انضم للعمل في الاستخبارات البريطانية وبعض فترة وقع في حب سكرتيرة تعمل في الاستخبارات البريطانية ال MI6 تدعى أريس بيك وفيما بعد عمل في خدمة ملكة انجلترا وقررا الزواج، ولكن للأسف كانت أسرة الفتاة من الأسر البارزة التي لم توافق على زواج ابنتهم من جورج بلاك اليهودي، ولم تتمكن الفتاة من مقاومة موقف أسرتها الرافض وفي النهاية انتهت العلاقة وعندها شعر بلاك بالكثير من الغضب والإحباط وقرر أن ينتقم من انجلترا المتغطرسة التي رفضته وكان صلف أسرة حبيبته سبباً في تدمير عواطفه القوية التي حملها لفتاته التي لم يحب غيرها في حياته.وعندها اتجه إلى هنري كوريل عمه ومؤتمن أسراره في أمستردام حيث تمكن من تجنيده للعمل كجاسوس لصالح الKGB .

بعد الحرب العالمية الثانية تم تجنيده أيضاً للعمل في ال MI6 البريطانية وكانت مهمته إنشاء شبكات تجسس في الجزء الشرقي من أوروبا المحتل وقتها من قبل الاتحاد السوفييتي. وأرسل للخدمة العسكرية في الحرب الكورية وكان في سيول عندما اجتاحتها كوريا الشمالية. وخلال سنواته الثلاث كأسير في معسكرات كوريا الشمالية، اعتنق الماركسية وقال البعض إنه تعرض إلى عملية غسيل دماغ وإن كان هو نفسه قد أصر على أن اعتناقه الماركسية كان طوعياً. عقب الإفراج عنه عام 1953 أرسلته الMI6 للعمل كجاسوس مزدوج إلى برلين حيث أصبح هناك فعلياً “جاسوس ثلاثي” وأفشى أسرار المئات من الجواسيس البريطانيين للسوفييت.

وفي عام 1959 فضح أمره الجاسوس البولندي المنشق مايكل جلونويسكي، وفي عام 1961 بعد محاكمة عرضت تفاصيلها على شاشات التلفزيون حكم عليه بالسجن 42 عاماً وقالت وقتها الصحف البريطانية إن حكمه السجن مقابل كل جاسوس بريطاني تسبب في قتله وخانه وكان أطول حكم تحكم به المحكمة البريطانية.

بعد خمس سنوات من سجنه تمكن جورج بلاك من الهرب من سجنه بمساعدة من ثلاثة من أعضاء لجنة المائة الذين كان قد قابلهم في مصر قبل عامين، وهرب بلاك إلى الاتحاد السوفييتي وطلق زوجته التي أنجب منها ثلاثة أبناء وبدأ حياة جديدة وفي عام 1990 نشر سيرته الذاتية بعنوان (لم يكن هناك خيار آخر) وهو الكتاب الذي نال عنه من ناشره البريطاني أكثر من 60 ألف جنيه إسترليني قبل أن تتدخل الحكومة البريطانية وتمنعه من التربح من مبيعات كتابه.

وفي مقابلة مع شبكة أخبار ال”إن. بي. سي” عام 1991 قال بلاك إنه ندم على موت الجواسيس البريطانيين الذين خانهم.

وحتى عام 2004 كان يعيش في موسكو ويتقاضي معاشاً من الKGB وظل ماركسيا لينينياً مخلصاً، وأنكر بلاك أنه كان خائناً وأصر على أنه لم يشعر أساساً بأنه مواطن بريطاني قائلاً: “حتى تخون يجب أولا أن تنتمي وأنا لم أنتم أبداً لبريطانيا)




(ريتشارد سورج)… اسم قد يبدو مجهولاً وغير مألوف، إذا ما وضعته أمام أي قارئ عادي، في أي مكان في العالم، ولكنه يحتل، في تاريخ الجاسوسية، مكانة فريدة ومرموقة، لم ينافسه فيها أحد قط؛ فهو الجاسوس الوحيد عبر التاريخ، الذي كان لدوره الفعّال الفضل، في حسم نتائج حرب عالمية كاملة..
الحرب العالمية الثانية..

أو بمعنى أدق، كان (سورج)، على الرغم من نهايته، أنجح جاسوس عرفه التاريخ، حتى لحظتنا هذه، قياساً بما حققه من نتائج في مهمته...

والكتاب الذي نستعرضه هذه المرّة، والذي يحوي قصة الجاسوس الفذ (سورج)، أو (سيرجي)، كما يطلق عليه السوفيت، كتاب صدر في ستينات القرن العشرين، وبالتحديد في شهر يونيو 1966م، عن دار القاهرة للطباعة والنشر، تحت عنوان ( الرجل ذو الوجوه الثلاثة)، وهو مترجم عن كتاب بنفس الاسم، للألماني (هانز أوتو مسنر)، أصدرته، في نفس السنة، يناير 1966م، شركة (راينهارت) للنشر في (نيويورك)....

وكان سبب اختيار المؤلف للعنوان، هو أن (سورج) كانت له ثلاث شخصيات، ووثقت به ثلاث حكومات أجنبية، خدع بمنتهى المهارة اثنتين منها، ومنح إخلاصه وولاءه كله للثالثة، لذا فقد اعتبره المؤلف صاحب ثلاثة وجوه ..
والمؤلف نفسه كان ملحقاً صغيراً، في السفارة الألمانية في (طوكيو)، قبيل الحرب العالمية الثانية، ولقد كان (سورج)، وبعض أفراد شبكته الجاسوسية، ضيوفاً في حفل زواجه، وكان بعضهم من أقرب الناس إليه، ولكنه لم يعرف أبداً حقيقة (سورج)، حتى مابعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945)...
ولقد راح (مسنر) يجمع المعلومات، من هنا وهناك، من الصحفيين، والزملاء، والمراسلين، حتى أمكنه أن يكتب تاريخ (سورج) كله تقريباً، إلى الحد الذي جعل كتابه أحد المراجع المهمة، لما يعرف الآن باسم (فن الجاسوسية)...
ونكتفي هنا بالحديث عن المؤلف؛ لنعود إلى صاحب الشخصية الرئيسية في الكتاب...
إلى (سورج)..

(ريتشارد سورج)...
ففي الملفات الرسمية، وصف (سورج) بأنه صاحب شخصية فريدة مبهرة، وثقافة واسعة، وذكاء مفرط، وجرأة وبراعة كادت كلها تبلغ حد الكمال..
هذا بالإضافة إلى حس مرهف، وقدرة مدهشة على فهم واستيعاب من أمامه، وسبر أغواره، والغوص في أعماقه حتى النخاع..
كذلك كان (سورج) يستطيع فهم من أمامه، وكشف طبيعته، وإجادة التعامل معه، بعد دقائق قليلة من لقائه الأوَّل به..
ويالها من موهبة خارقة، وجدت مستقرّها تماماً...
وهذا بالنسبة لطبيعتة الشخصية..
أما بالنسبة لمهاراته العملية، ومواهبه القيادية المدهشة، فحدِّث ولا حرج..

فبدقته وقوة شخصيته، أدار (سورج) أقوى وأنجح وأكمل شبكات الجاسوسية، داخل (الصين) و(اليابان)، خلال الحرب العالمية الثانية..
ولكن حتى هذا ليس سبب شهرته وأستاذيته، في عالم الجاسوسية، الذي لا تتوقَّف الصراعات فيه لحظة واحدة، في الحرب، وفي السلم أيضاً، وإنما تعود شهرته الفائقة، وأستاذيته المبهرة، التي أسهبت عشرات الكتب والمراجع في وصفها، والإشادة بها، والانبهار بخطوطها، طوال أكثر من نصف قرن من الزمان، إلى أنه الجاسوس الوحيد، في تاريخ الجاسوسية كله، الذي كان لنجاحه الفضل الأوَّل، في تغيير مسار حرب طاحنة رهيبة..

و(ريتشارد سورج) هذا هو الابن الثاني لمهندس ألماني، عمل في حقول بترول الإمبراطور، وحفيد (أدولف سورج)، السكرتير الخاص للمفكِّر (كارل ماركس)، وأحد الذين اعتنقوا الشيوعية منذ مولدها..
ولأنه كان يشعر بالعار، كل العار، بسبب هذا، فقد بذل والد (سورج) قصارى جهده؛ ليمحو من ذاكرته تماما أمر اعتناق والده للشيوعية، ولدفع الآخرين إلى نسيان هذا أيضاً، وتمنى لو استطاع أن يمحوه من مجرى الزمن أيضاً، حتى إنه ألحق ابنه (ريتشارد) بإحدى الفرق العسكرية الألمانية، إبان الحرب العالمية الأولى، كدليل قاطع على ولائه، وانتمائه لألمانيا وإمبراطورها، وقائدها، وأفكارها, ولكل ما يرتبط بها، ولو بأدنى رابطة أو صلة..

وعلى الرغم من أن (ريتشارد) قد أبلى بلاءً حسناً خلال الحرب الأولى، استحق معه التقدير والثناء من رؤسائه، بل والترقية المحدودة أيضاً، إلا أن عقله كان يستهجن ويحتقر القتال المباشر، والاشتباك الواضح الصريح، ويعتبر كليهما وسيلة من لا عقل له، ويبني في أعماقه فكراً آخر، ومستقبلاً مختلفاً..

وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، بدأ (سورج) في تحويل فكره وطموحاته إلى واقع عملي، وحقيقة ملموسة..
ومن جامعات (كييل) و(هامبورج)، حصل (ريتشارد سورج) على درجة الدكتوراه، في العلوم السياسية، عام 1920م، وفي اليوم نفسه، وقبل حتى أن يجف حبر شهادة الدكتوراه، كان يملأ استمارة الالتحاق بالحزب الشيوعي الألماني في (هامبورج)..
وكان هذا أحد الأخطاء الكبيرة في حياته..

فالواقع أن هذا القرار كان وبالاً على رأس (سورج)، وخاصة في تلك الفترة، التي تدهور خلالها الاقتصاد الألماني، وشارف الانهيار، وبات الحصول على وظيفة ثابتة ومحترمة من رابع المستحيلات، حتى بالنسبة لعبقري يحمل شهادة الدكتوراه مثله..
وهكذا تنقَّل (سورج) من وظيفة بسيطة إلى أخرى، ومن مدرِّس ابتدائي، إلى موظف في منجم للفحم، وإلى منزل حقير، في حي صغير، من أحياء (هامبورج) البسيطة..
ولكنه كان يشعر في أعماقه أن هذه ليست حتماً نهاية المطاف، وأن القدر مازال يدخر له الأفضل..

ولقد كان على حق تماماً، فقد كان القدر ينتظره هناك..
في ليلة باردة..
جداً.
نقطة التحوّل في حياة (ريتشارد سورج)، أشهر وأنجح جواسيس الحرب العالمية الثانية، كانت تكمن في ذلك اللقاء المثير، الذي باغته على نحو غير متوقّع، في منتصف ليلة من ليالي الشتاء الباردة، في قلب العاصمة الألمانية (برلين)..

ففي تلك الليلة، فوجئ (سورج) بزيارة من واحد من أهم، وأشهر، وأخطر الرجال، في تلك الفترة العصيبة، من تاريخ (ألمانيا)... (هنري تولمان)، رئيس الشرطة السرية للحزب الشيوعي الألماني، والرجل الذي اشتهر بقسوته وبروده وصرامته، ونظراته القادرة على تجميد الدم، في عروق أشجع الشجعان..

وداخل منزل (سورج) الحقير، التقى به (تولمان) وشرح له أن (موسكو) تهتم به كثيراً، وتتابع حماسه للمبادئ الشيوعية، ثم أخبره في النهاية أن عليه أن يسافر إلى (موسكو)، العاصمة الحمراء؛ ليلتقي ببعض المسؤولين هناك..

وسافر (سورج) إلى (موسكو)..

وهناك التقى بالرفيق (ديمتري مانولسكي)، رئيس قسم المخابرات الأجنبية في (الكومنترن)، وخضع معه لعدد من الاختبارات والدراسات، لم يفصح عنها الكتاب، ولكنها انتهت بعودته إلى (هامبورج)، وقد أصبح أحد العاملين في ذلك العالم الغامض المثير..

عالم الجاسوسية..

كانت مهمته الرئيسية هي جمع المعلومات السياسية، من كل مكان يذهب إليه، ورصد ردود الأفعال العالمية، تجاه التطورات الاجتماعية والاقتصادية السريعة والعنيفة، التي تحدث في (ألمانيا) النازية، وأنه في سبيل نجاح هذا، لابد وأن يخفي تماماً ميوله الشيوعية، ويتجنَّب حتى الإشارة إليها، بل والبدء في معارضتها، ومحاربتها، والاختلاف معها تمام الاختلاف، لو أُثير الأمر بأية صورة من الصور..

وعلى الرغم من أن القاعدة، في عالم المخابرات هي أن ينبهر العميل بالجهاز، إلا أن (سورج) قد هزم هذه القاعدة، وعكسها تماماً..

فلقد برع (سورج) في مهمته، وقام بها خير قيام، وبموهبة مدهشة، وبراعة منقطعة النظير، طوال خمس سنوات كاملة، تلقَّى خلالها الكثير من التدريبات، واكتسب عشرات المهارات والخبرات، وهضمها كلها بسرعة مذهلة، أبهرت السوفيت تماماً..

كما تحوَّل (سورج) إلى جامعة شاملة في العلوم واللغات، وأجاد بطلاقة تامة، الإنجليزية، والفرنسية، والروسية، واليابانية، مع عدد لا بأس به من اللهجات الصينية..

باختصار، لم تمض تلك السنوات الخمس، حتى أصبح (ريتشارد سورج) واحداً من تلك الفئة النادرة في عالم الجاسوسية..

الفئة التي تحمل لقب (جاسوس كفء)..

وعبر (أوروبا)، ومن خلال عمله كمراسل صحفي متجوِّل، راح (سورج) يمارس عمله، لينهال سيل من المعلومات المهمة والخطيرة، على السوفيت، الذين تضاعف انبهارهم بكفاءة جاسوسهم وقدراته، فقرَّروا تطوير العملية كلها، ونقله إلى مرتبة أكبر..
مرتبة العميل الخاص..
جداً..

وفي (موسكو)، التقى (سورج) بالكولونيل (بالدن)، رئيس المخابرات السوفيتية، الذي أعلنه بالترقية، وبما تعنيه أدبياً ومالياً، ثم أسند إليه أولى مهماته القوية..

لقد طلب منه السفر إلى (شنغهاي) في (الصين)، وجمع كل المعلومات الممكنة عن جنرال شاب، وهو (شيانج كاي شيك)، والعمل على إعادة تأهيل شبكة جاسوسية مهلهلة هناك..
وسافر (سورج) إلى (شنغهاي)..
وهناك التقى بأفراد شبكة الجاسوسية (المهلهلة)، وأخبرهم بصرامة أنه رئيسهم الجديد، وبدأ يضع قواعد العمل الجديدة، في نفس الوقت الذي راح يجمع فيه المعلومات عن (شيك)..

ومرة أخرى، أثار انبهار المخابرات السوفيتية ورجالها..
فقد حصل (سورج) على كل المعلومات المطلوبة، وأعاد بناء الشبكة، التي أُطلق عليها اسم (وحدة الصين)، والتي بدأ أفرادها يتساءلون، في دهشة وانبهار، عن رئيسهم الجديد، الذي لا ينام أبداً، والذي يعمل بنشاط جمّ، دون توقُّف أو هوادة، والذي قام بخطوة بالغة الجرأة، إلى الحد الذي أذهلهم جميعاً، وجعلهم يتعاملون معه بتقدير واحترام ومهابة بلا حدود، وكأنه إله الجاسوسية نفسه..

فلقد أقنع (سورج) القنصل الأمريكي بتأجير حجرتين من منزله لرجل أعمال واقتصاد ألماني، يُدعى (فريدريك مانهايم)، والذي لم يكن في الواقع سوى جاسوس آخر، وخبير في الاتصالات اللاسلكية، يعمل لحساب السوفيت، ويُدعى (ماكس كلوس)، وكانت حقائبه، التي انتقلت إلى منزل القنصل الأمريكي، تحوي جهاز الاتصال اللاسلكي، الذي ظلّ يبث الأسرار والمعلومات إلى (موسكو)، طوال عامين كاملين، دون أن يدرك الأمريكيون دورهم في هذا !!..

وبعد نجاحه المذهل، في إحياء (وحدة الصين)، التي تحوّلت من وحدة مهلهلة، إلى واحدة من أقوى وحدات الجاسوسية السوفيتية، في العالم أجمع، قرّر السوفيت استغلال مهارات وكفاءة (سورج)، في مجال حيوي آخر..

وانطلق (سورج) ليقتحم صحافة النازي، في قلب(برلين) نفسها، مؤيّداً بشهادة اثنين من أصدقائه، الذين أشادا ببراعته وأمانته، وإخلاصه المتناهي لعمله..
وكانت خطوة بالغة الجرأة منه بالفعل!!..
إذ كان يكفي أن يقوم جهاز (الجستابو) بتحريات جادة عنه، لينكشف أمره، وتفتضح خدعته، ويسقط في قبضة أشرس جهاز أمني، في ذلك الحين..
ولكن من حسن الحظ، أن (الجستابو) كان آنذاك مشغولاً بما بدا له أكثر أهمية..

لقد اكتفى بشهادة الرجلين، وبالشهادات التي نالها (سورج)، وتركه يعمل في منصب كبير الصحفيين والمراسلين الألمان، لجريدة (زيتونج)، الناطقة بلسان الحزب النازي، ويسافر إلى أقرب حليف للنازية، في ذلك الحين..
إلى (طوكيو) مباشرة..
وهناك بدأت مرحلة جديدة..
وخطيرة..
للغاية.
في (طوكيو)، بدأ (سورج) طريقه بلعب أهم دور، في قصة أي جاسوس حذر، في أرض جديدة..
دور الجاسوس النائم..
ومصطلح الجاسوس النائم هذا يستخدم لوصف جاسوس، تم زرعه في منطقة الهدف، أثناء مروره بمرحلة التوطين الأولى، التي يسعى خلالها لتثبيت أقدامه، في المجتمع الجديد، ومد جذوره في أعماقه، ويحظر عليه تماماً التورُّط في أي عمل تجسُسي خلال تلك المرحلة، مهما كانت المغريات؛ نظراً لاحتمال دفع أمر ما تحت يمينه، لكشف هويته، وتحديد حقيقة انتمائه..

لذا فلم يمارس (سورج) أية أعمال جاسوسية على الإطلاق، في الفترة الأولى، وإنما اكتفى بمد جذوره في المجتمع الياباني، وتوطيد صلاته واتصالاته، وإقامة جسور من الثقة والصداقة، بينه وبين أبرز العناصر السياسية، والاقتصادية، والعسكرية في (اليابان)، وعندما استقر به المقام، واطمأن إلى قوة ثباته في المجتمع الياباني، بدأ (سورج) في بناء شبكة الجاسوسية الجديدة..

وعلى الرغم من أن الشرطة السرية اليابانية (الكمبتاي)، كانت شديدة النشاط في تلك الفترة، وتتعامل مع كل الأجانب باعتبارهم جواسيس، إلا أن (ريتشارد سورج) قد تجاوز فترة التوطين الأولى، ونجح في إقامة صداقات وعلاقات قوية متينة، داخل المجتمع الياباني، بل وداخل (الكمبتاي) نفسه، مما ساعده على الخروج من مرحلة الكمون إلى مرحلة النشاط، والبدء في تنفيذ خطة تواجده الرئيسية..

وخلال فترة محدودة، أنشأ (سورج) شبكة قوية فعَّالة، راحت (موسكو) تتابع أخبارها بمنتهى الاهتمام الممزوج بالحذر، خاصة وأن (سورج) قد حدَّد مصروفاتها الشهرية بثلاثة آلاف دولار، وهو مبلغ هائل في ذلك الحين..

ولكن سرعان ما أدركت (موسكو) أن شبكة (سورج) تستحق هذا..
بل وما هو أكثر منه أيضاً..

فقد حقَّقت الشبكة اليابانية أوَّل انتصاراتها، عندما التقط أحد أفرادها، وهو الثري الياباني (أوزاكي)، محضر اجتماعات لجنة الدراسات الصينية، التي تحدَّثت عن رغبة (اليابان) في احتلال (منشوريا) الصينية..
ولقد حدث الغزو الياباني بالفعل، وكانت كارثة عسكرية على كل المستويات، إذ لم ينجح اليابانيون في احتلال (منشوريا) فحسب، وإنما أمكنهم احتلال شمال (الصين) كله أيضاً، وفرض هيمنتهم وسيطرتهم على مساحة واسعة من الأراضي الإستراتيجية..
وهنا، أدرك السوفيت أهمية وخطورة شبكة (سورج) اليابانية..
وبلا تردّد منحوا قائدها كل ما طلبه..

ثم فجّر (سورج) مفاجأة جديدة..
لقد أبلغ السوفيت أن الجيش الياباني في سبيله إلى الثورة، في فبراير 1936م، ثم لم تلبث ثورة الجيش أن حدثت، في التوقيت نفسه، وحملت في التاريخ اسم (حادث فبراير)..

وهنا تأكَّد السوفيت من أهمية عميلهم وقوته، وبراعته المذهلة في جمع وتحليل أخطر وأدق المعلومات..

وكان من الطبيعي -والحال هكذا- أن يتم تصنيفه باعتباره عميل نادر، على أعلى درجة من الأهمية والخطورة، وأن يتم إطلاع (ستالين) نفسه على تطورات عمله، أوّلاً بأوّل..

وخلال الأشهر التالية، توالت معلومات (سورج) وتحليلاته، على نحو مدهش، فأخبر (موسكو) باتفاقية التعاون العسكري، بين (طوكيو)
و(برلين)، وأيد قوله هذه المرّة بصور المستندات، الدالة على هذا..

وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، عام 1939م، كان (سورج) أشهر وأقوى وأخطر جاسوس للمخابرات السوفيتية، في العالم كله، وكانت الشبكة اليابانية التي أقامها، هي أنشط شبكات الجاسوسية، ليس في تلك الفترة، وإنما في تاريخ المخابرات كله..

وعلى الرغم من اتفاقية الدفاع المشترك، التي وقَّعها (هتلر) مع (موسكو)، وصلت معلومات إلى السوفيت، من عميلهم الفذ (ريتشارد سورج)، تحمل مفاجأة مذهلة ومفزعة.
معلومات تؤكِّد أن (ألمانيا) ستهاجم الاتحاد السوفيتي قريباً..
وعلى الرغم من ثقتهم التامة في عميلهم (سورج)، شكك بعض قادة الجيش السوفيتي في المعلومة، وبدا لهم أنه من غير المنطقي أن يشن (هتلر) حرباً على (روسيا)، في الوقت الذي انشغلت فيه قواته كلها بضرب العاصمة البريطانية (لندن)، لدفع الأسد البريطاني إلى الانهيار والاستسلام..

وفي الثاني والعشرين من يوينو 1941م، بدأ (هتلر) بالفعل عمليته (بارباروسا)؛ لغزو الاتحاد السوفيتي..

وهنا انمحت آخر ذرة شك، في براعة (سورج) وكفاءته، ودقة ما يرسله من معلومات..

وهنا أيضاً، بلغ نشاط الشبكة اليابانية ذروته، وراحت معلوماتها تنهال على (موسكو)؛ لتنقل إليها أسرار اليابانيين أوَّلاً بأوَّل؛ إذ كان أخشى ما تخشاه (موسكو)، هو أن يستغل اليابانيون حربها مع النازيين، للانقضاض عليها من الخلف..

ونشطت شبكة (سورج) بكل قوتها، للبحث عن جواب هذا التساؤل القلق..

وعلى الرغم من حذره الغريزي، ودقته الفائقة، وشكوكه اللامتناهية، في كل من يتعامل معه، وقع (سورج) في الخطأ الذي يمكن أن يقع فيه أي رجل، مهما بلغت هويته..

لقد التقى ذات يوم بالراقصة اليابانية الفاتنة (كيومي)، وانبهر بها، وبجمالها الفتّان، وسحرها الطاغي، وأطلق لغريزته العنان معها، على الرغم من أنه لم يبد من قبل أبداً أدنى اهتمام بمثل هذه الأمور، حتى أنه لم ينتبه إلى أمر بالغ الأهمية والخطورة..

لقد كانت (كيومي) تعمل في الواقع، لحساب مكتب الجاسوسية المضادة الياباني..

ولكن، وكجاسوس خبير ومحترف، واصل (سورج) عشق (كيومي)، دون أن يمنعه هذا من مواصلة عمله، بنفس الدقة والاهتمام، متحدياً كل المخاطر كالمعتاد..

ثم فجأة وقعت في يده أخطر معلومة، يمكن أن يحصل عليها جاسوس على الإطلاق..

معلومة من مصادر عسكرية يابانية مطلِّعة، تؤكِّد أن (اليابان) لا تنوي أبداً خوض الحرب، في الجبهة السيبيرية، مكتفية بحروبها في (الصين)
و(الهند الصينية)..

وكانت هذه المعلومة تساوي الكثير..
والكثير جداً..

مع وصول هذه المعلومة الخطيرة إلى (موسكو)، ومع ثقتها الشديدة في قوة عميلها (سورج) وخطورته، نظراً لتاريخه السابق كله، اتخذت القيادة السوفيتية قراراً بالغ الأهمية والخطورة..

لقد قرَّر قادة السوفيت سحب ما يقرب من مليوني جندي، من الجبهة السيبيرية، مع كل معداتهم، ودفعهم لمواجهة الألمان في الغرب..

وكان أخطر قرار تم اتخاذه، في تاريخ الحرب العالمية الثانية على الإطلاق؛ إذ أنه يترك الجبهة اليابانية عارية تماماً، ويلقي بثقل السوفيت كله على الجبهة الألمانية..
وكانت نقطة تحوّل حاسمة، ليس في مسار محاولة الألمان لغزو الاتحاد السوفيتي فحسب، ولكن في مسار الحرب العالمية الثانية كلها..

لقد انهزمت (ألمانيا) النازية، أمام جنود (موسكو) وتراجعت، وظلت تتراجع وتتراجع خلال السنوات التالية، حتى انهزمت هزيمة ساحقة في النهاية، واندحرت على الجليد السوفيتي، وانهارت قياداتها، والسوفيت يدفعونها أمامهم، حتى (برلين) نفسها..

وكانت الهزيمة ساحقة ماحقة، في ذلك الحين، هوى معها الرايخ الثالث من حالق، وتحطّمت أسطورته بمنتهى العنف، حتى أن الفوهلر العظيم (أدولف هتلر) آثر الانتحار، على الوقوع في قبضة السوفيت أو البريطانيين..

أما (سورج) نفسه، فبعد أن حقَّق أعظم انتصاراته، وأبلغ المخابرات السوفيتية بأعظم معلومة، في الحرب العالمية الثانية كلها، وقع في خطأ بسيط، تخلّى خلاله عن حذره الأسطوري، الذي لازمه طيلة عمره..

لقد قرأ ورقة تحوي بعض الأسرار العسكرية، أمام (كيومي)، ثم مزّقها وألقى بها في سلة القمامة، على الرغم من أن ألف باء الجاسوسية، يحتم حرق الورقة، أو التخلُّص منها بأية وسيلة حاسمة، ويحذر تماماً من إلقائها في سلة المهملات، أو وسط القمامة..

وانتبهت (كيومي) للأمر..
ولأنها عميلة مخلصة ومحترفة، قامت (كيومي) بواجبها، وأبلغت الكولونيل (أوزاكي)، الذي أمر رجاله بجمع كل قصاصة ورق، في سلة قمامة (سورج)، وفرزها، وتجميعها، وإعادة لصقها..
ثم واجهه بتلك الورقة، قبل شروق شمس اليوم التالي..
وهكذا سقط (سورج)..
وسقطت شبكته اليابانية كلها..

المدهش للغاية، أن تلك المعلومة الأخيرة، التي لم يجد (سورج) الوقت لإرسالها إلى (موسكو)، في تلك الفترة، والتي ألقي القبض عليه بسببها، كانت أيضاً كفيلة بتغيير مسار الحرب كلها..
كانت معلومة تقول: إن الطائرات اليابانية تعتزم الهجوم على ميناء (بيرل هاربور) الأمريكي، فجر السادس من نوفمبر التالي..

وعند محاكمة (سورج)، بدا شامخاً قوياً مهيباً كعادته، وبدت نظراته حادة صارمة، تخيف وترهب قضاته أنفسهم، حتى وهو يتلقَّى مع (أوزاكي) الحكم بإعدامهما رمياً بالرصاص..

وفى السابع من نوفمبر 1944م، تم تنفيذ حكم الإعدام في الدكتور (ريتشارد سورج)، خبير العلوم السياسية، ومراسل جريدة (زيتونج)، والجاسوس السوفيتي، الذي حمل لقباً فريداً، بين كل الجواسيس، الذين عرفهم التاريخ..
لقب (الأستاذ)..

ونُكّست الأعلام في الاتحاد السوفيتي كله، حداداً على مصرعه..
وتم إصدار طابع بريد يحمل صورته..

ولكن هذا لم يحسم أسطورته..

فلسبب ما بدأ يتردّد خفية أن (سورج) لم يلق مصرعه فعلياً، وأن اليابانيين قد أطلقوا سراحه، بموجب صفقة ما...

ولم تؤيد اليابان هذا أو تنفِه، ولكن الراقصة الفاتنة (كيومي) أنهت فقرتها ذات ليلة بفزع شديد، لتخبر صديقاتها، وهي ترتجف في رعب، أن (سورج) بين روّاد الحانة، وأنه عاد ليقتلها، جزاء ما فعلته به..
ولم يصدّقها أحد.

وماتت (كيومي) في حادث غامض ذات ليلة تالية، لتترك خلفها لغزاً يرتبط بأخطر الجواسيس قاطبة..

(سورج)..

(ريتشارد سورج) ..

صاحب الوجوه الثلاثة..

الغامضة
__________________



Not everything that can be counted counts, and not everything that counts can be counted