
29-06-2010, 12:02 PM
|
 |
نجم العطاء
|
|
تاريخ التسجيل: Mar 2010
المشاركات: 5,807
معدل تقييم المستوى: 21
|
|
ملف : مقالات الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة(متجدد)
الألم... والقلم
بقلم: أسامه أنور عكاشه
.. حكمة في سطر.. أو كلمات مرصوصة متجاورة... أو عبارة مسجوعة.. توضع حول كل منها علامتا تنصيص... ثم تذيل بقول مكتوب في داخله حكمة قديمة أو قول مأثور فإذا كانت الكلمات ذات شهرة قيل إنها مثل من الأمثال السائرة!
وما أكثر هذه الجمل والعبارات الحكمة والمثل في حياتنا علي المستويين الفصحي والعامية.. وهي في أحيان كثيرة مقتطفات مقطوعة عن سياقها.. أو هي عبارات يخترعها الكاتب ويعجب بها فيعطيها صفة الحكمة أو المثل.. وإن كان من اللازم ان نفرق بين هذا النوع من المأثورات وبين الأمثال الشعبية والتراثية المحفوظة والمتفق عليها.
من نوعية الحكم اللقيطة ـ غير الموثقة ـ عبارة وراء كل عظيم امرأة وهي لا تعد حكمة بحال من الأحوال, بل إن الكثيرين وأنا منهم ينكرون فحواها إنكارا تاما لما فيه من حكم قطعي لاسند له, ويكفي للدلالة علي خطأ منطقه ان نذكر مثالين ـ مجرد مثالين ـ لزوجة سقراط وزوجة تولستوي.
حكم آخر مشابه يقول: الألم العظيم يصنع الفن العظيم..
ولأول وهلة تبدو العبارة جزلة متوهجة لدرجة تجعلني أتردد ألف مرة قبل ان أعارضها.. فمن يجرؤ علي معارضة ما يبدو بديهيا؟
من ينكر ان أرفع نماذج الأدب والفن خلفها ألم هائل ممض؟
من ينكر آلام ديستويفسكي في صرعه؟ وآلام تشيكوف وجورجي.. والسل ينهش رئتيهما ويستل الحياة منهما؟
من ينكر آلام كافكا في حياته المضطربة العاصفة؟ ومن ينكر مثيلها في حياة إدجار آلن بو وبودلير.
حسنا.. لا أحد ينكر.. ولا أحد أيضا يهرب من النقاش!
فما هو تعريف الألم العظيم أولا؟
هل هو الألم الناتج عن الإصابة الجسدية.. أي الألم المرضي بالمعني الفسيولوجي؟ أم هو الألم الناتج عن الإصابة النفسية؟
آلام المرض الجسمي هي قاسم مشترك بين كل البشر, وبديهي أنه لاتوجد أي علاقة سببية بين علة الجسد وبين عبقرية الإبداع, ولو افترضنا ان ديستويفسكي لم يصب بالصرع وتشيكوف لم يقع صريع الدرن الرئوي فهل كانت سلامتهما الصحية الجسدية تشكل حائلا دون أن يبدعا في فن الرواية والقصة القصيرة.. وهما بلا جدال أهم اسمين في عالميهما؟
قال بعض النقاد ـ من دارسي ديستويفسكي ـ إن أغني لحظات إبداعه وألمعها تلك التي كانت تعقب إفاقته من نوبة الصرع... وحاولوا تفسير ذلك بحالة الصفاء والحدة الذهنية التي يسببها تفريغ الشحنة الكهربائية في المخ.. أو شيئا قريبا من هذا ولن ندخل معهم في مساجلات طبية ولكننا نتساءل فقط: هل يعقل ان يكون هذا الكم الهائل من الإبداع الروائي قد كتب فقط عقب نوبات الصرع؟.. أمر مشكوك فيه إلي حد بعيد.
نفس الأمر مع العبقري الروسي الآخر.. انطون تشيكوف.. سيد القصة القصيرة من زمنه وإلي الان بلا منازع.. فقد كتب كما كبيرا من روائعه قبل إصابته المرضية.
نأتي الآن الي الاحتمال الآخر.. الي الألم الناتج من الإصابة النفسية.. ويجب بداية ان نحدد أولا ما نعنيه بعبارة الاصابة النفسية وهل هي المرض النفسي؟.. أم المعاناة النفسية الطبيعية التي لاتصل الي حد المرض.. اذا كانت الأولي فنحن نلحقها بمجموعة المرض الجسمي.. وننفي بالتالي أي علاقة ارتباط بين المرض النفسي والإبداع.. فحالة فان جوخ أو بودلير لا توثق إلا أحداثا في حياة أي منهما, ومن العبث والهزر السخيف الادعاء بأن جنون فان جوخ هو سبب عبقريته أو أن اصابة بودلير بجنون الهوس والاكتئاب نتيجة متطورة لإصابته بالزهري.. كانت أيضا مسببه لروعة أشعاره! لكننا نستطيع ان نفتح صدورنا وأذهاننا بأقل قدر من المعارضة والإنكار للحديث عن المعاناة النفسية.. ألم النفس وعناء الروح الناتجين عن حساسية الفنان المرهفة تجاه كل ما يمر بالحياة من حوله.. والتأثير هنا يكاد يكون معكوسا.
فليس شقاء الفنان أو تعاسته الروحية سببا في تفوق ابداعاته... بل الأصح هو ان فرط حساسيته وإدراكه للخطأ والظلم وغياب العدالة هي من يصيبه بأسوأ ما تسببه الجراح من آلام ومعاناة... وهذا لا يمنع ان تكون العملية في صورة دائرة لا نستطيع تحديد نقطة البداية علي محيطها. خاصة حين ترهف الآلام النفسية احساس القلم أو الريشة أو الآلة الموسيقية.
سئل ماكسيم جوركي ذات مرة عما يمثله تشيكوف في رأيه.. وكان رده غريبا مثيرا للدهشة.. إذ قال:
أري في كتابات تشيكوف ابتسامة القلب الحزين!
انها العبارة ـ المفتاح ـ ليس لأدب تشيكوف وحده.. بل لأدب جوركي ايضا.. وكل ادب اخر يمكن ان نصفه بالعظمة!.. فتصوير جوركي للنماذج البشرية المحطمة في مسرحيته الحضيض أو قصة ترنيمة السرير.. يدفع الدمع بأعيننا ولكنه لا يصيبنا بالاكتئاب, نفس المسألة حين نقرأ الأبله لديستويفسكي ونتعاطف مع الأمير ميشكين لدرجة البكاء علي مصير البراءة.. أو حين نقرأ العنبر رقم6 أو الغريمان لتشيكوف فنرتج ونرتعد حتي النخاع, ولكننا لا نصل الي حافة اليأس والإحباط, انه الحزن النبيل أو الشجن المغسول بدموع أمل وليد.. وتلك صفات الفن العظيم والكاتب الذي يقطر قلمه عذابا علي الورق يحس بهذا العذاب أولا.. يعانيه ويتمثله.. حتي تتشبع كل مسامه الإبداعية به.. ثم يفرزه.. وألمه هنا نابع من قدرته علي النفاذ داخل عذابات البشر.. بغض النظر عن حالته الانسانية الواقعية حتي لو كانت كل مفردات حياته هنيئة سعيدة راضية.. تسألني.. وماذا لو كان هو نفسه تعيسا شقيا... الن يكون الصدق هنا هو المؤثر وهو الحاكم؟
وأجيب بالايجاب واستدرك بأنه أفضل ولكنه ليس شرطا.. فالكاتب في أحيان كثيرة يكون كالممثل المطلوب منه اداء شخصية تخالف شخصيته وانفعالات تغاير انفعالاته ولكنه يحاول التقمص والمعايشة الكاملة وينجح فيها بقدر موهبته وحجمها.
بل إننا يجب ان نحذر نوعا من الفنانين الاشقياء الذين تبلغ تعاستهم مبلغا ينحو بهم الي التطرف الذي يفسد كل شيء.. فلا يبقي هناك فن عظيم ولا فن حقير.. ولا فن من أصله.. ولدينا مثال في عبد الحميد الديب... شاعر البؤس.. الذي نجمع علي موهبته وعلو كعبه كشاعر فذ.. ولكن أحدا لايستطيع ان يقدمه للناس أو يجمع آثاره.. لأنه تولي بنفسه وبسخرية مدمرة حرق كل مراكبه.. فأحرق معها فنه وشعره إلي الأبد.
|