أخذه سند الطريقة الجعفرية الأحمدية المحمدية:
وقد أخذ شيخنا عليه رضوان الله طريقة يد أحمد بن إدريس- رضي الله تعالى عنه- عن سيدي محمد الشريف- رضي الله تعالى عنه- ويحدثنا شيخنا الإمام الجعفري عن ذلك فيقول:
«وقد أجازني بهذا الطريق شيخي وأستاذي مربي المريدين الشريف السيد محمد عبد العالي، عن والده سيدي عبد العالي، عن شيخه العلاّمة: السيد محمد بن علي السنوسي عن شيخه العارف بالله تعالى السيد أحمد بن إدريس رضي الله تعالى عنه» [المنتقى النفيس ص2، 3].
رحلته العلمية :
ثم كان حضوره إلى مصر للالتحاق بالأزهر بإشارة من شيخه، سيدي عبد العالي- رضي الله عنه- وعن ذلك يحدثنا شيخنا رضي الله تعالى عنه يقول: «قبل مجيئي إلى الأزهر جاء أحد أهل البلد، بأول جزء من شرح النووي على صحيح مسلم، فاستعرته منه وصرت أذاكر فيه، فرأيت سيدي عبد العالي الإدريسي- رضي الله تعالى عنه- جالسًا على كرسي، وبجواره زاد السفر، وسمع من يقول: إن السيد يريد السفر إلى مصر، إلى الأزهر، فجئت وسلمت عليه، وقبّل يده، فقال لي مع حدة: «العلم يؤخذ من صدور الرجال لا من الكتب»، وكررها، فاستيقظت من منامي، وقد ألهمني ربي السفر إلى الأزهر، وحضرت الشيخ محمد إبراهيم السمالوطي المحدِّث، وهو يُدرس شرح النووي على صحيح مسلم، فجلست عنده، وسمعته يقرأ حديث: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإن استنفرت فانفروا» رواه مسلم [فتح وفيض ص11، 12].
شيوخه بالأزهر الشريف:
وقد تلقى الشيخ- رضي الله عنه- العلم بالأزهر الشريف، على يد نخبة من كبار العلماء العالمين، الذين جمعوا بين الشريعة والحقيقة، منهم الشيخ محمد إبراهيم السمالوطي، والشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ حبيب الله الشنقيطي، العالم المحدّث المشهور صاحب «زاد المسلم» وغيره من المصنفات المفيدة، الذي كان للشيخ معه لقاءات وكرامات، يحدثنا شيخنا- رضي الله عنه- فيقول: «ذهبت إلى بيت الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، بجوار القلعة، ناويًا بقلبي أن أستأذنه في أن أكون مقرئًا له متن من حديث البخاري ومسلم، فلما وصلت البيت وجلست بغرفة الاستقبال، وهي أول مرة أزوره بها، جاءني مبتسمًا، فلما سمعت عليه وقبّلت يده، قال لي: أنت الذي- إن شاء الله- ستكون سرادًا لي في هذا العام، ومعنى «سرادًا»: مقرئًا، والحمد لله قد لازمته خمس عشرة سنة، إلى الممات، ونزلت قبره، ولحدته بيدي، والحمد الله، وكنت أقرأ للإخوان الحاضرين درسًا قبل بالمسجد الحسيني، فإذا عارضني إنسان أو شاغبني يهمس لي في أذني عند جلوسه على الكرسي بقوله: يعاكسونك وأنت خير منهم، كأنه كان معي، ثم يأتي في دروسه بكل موضوع قصرت فيه، وقد حصل ذلك منه مرات كثيرة.
وكان إذا حصل له عذر يرسل تلميذًا أن أقرأ الدرس نيابة عن الشيخ، وفي يوم أرسل لي ورقة مكتوبة بخط يده، فيها «وقد وكلتك بقراءة الدرس» فتعجبت من ذلك، لماذا غيّر الشيخ عادته من المشافهة إلى المكاتبة؟ وما أشعر إلا ومدير المساجد قد حضر وأنا أقرأ الدرس، فسألني: وهل وكلك الشيخ؟ قلت: نعم، قال: وأين التوكيل؟ فقدمت له الورقة المرسلة من الشيخ، ففرح بها، ودعا لي بخير، فكانت هذه كرامة منه- رحمه الله تعالى، وغفر له وأسكنه فسيح جناته- فإنه كان يحبني كثيرًا ويقول لي: أنت بركة هذا الدرس. وقد أجزتك بجميع إجازتي ومؤلفاتي.
وكان يقول لي: عليك بشرحي على زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم، فإني ما تركت فيه شاذة ولا فاذة. [الذخيرة المعجلة، ص28]
ومن شيوخه الشيخ يوسف الدجوي رحمه الله، الذي يقول عنه شيخنا رضي الله عنه: «وكان أيضًا من العلماء العارفين، وقد لازمت درسه بعد صلاة الصبح بالجامع الأزهر الشريف، بالرواق العباسي سبع سنين، وكان السيد الحسن الإدريسي إذا جاء من السودان يلقاني في درسه وبعد الدرس يسلم على الشيخ، فيفرح فرحًا عظيمًا، فيقول: السيد أحمد بن إدريس قطب، لا كالأقطاب.
وكان الشيخ الدجوي قد أخذ الطريقة الإدريسية عن شيخي السيد محمد الشريف- رضي الله تعالى عنه- والشيخ الدجوي من هيئة علماء الأزهر وله مؤلفات نافعة، ومقالات قيّمة في مجلة الأزهر الشريف، وقد حضرت عليه التفسير من سورة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى آخر سورة الناس، ثم ابتدأ شرح البخاري بعده، وكان يحفظ القرآن الكريم بالتجويد والقراءات، ويذكر أقوال المفسرين، ويعرب الآية إعرابًا دقيقًا ويبين الألفاظ اللغوية فيها، ويتعرض للأحكام الفقهية على المذاهب، وكان يقرأ الحديث بالسند، ويترجم لرجاله ترجمة طريفة، ويذكر أقوالاً كثيرة قيّمة في أدلة التوسل بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ذكر أكثرها في مجلة الأزهر، المسماة (وقتها) نور الإسلام». [الذخيرة المعجلة، ص29]
ولقد كان شيخنا- رضي الله عنه- يحضر هؤلاء العلماء، حضور الواعي المتفهم، المحب للعلم وأهله، فكان كثيرًا ما يناقش شيوخه ويحاورهم، وكانوا يعجبون له وبفطنته وقوة حافظته وحجته، فيثنون عليه خيرًا ويدعون له بالتوفيق والبركة.
ويذكر لنا شيخنا- رضي الله عنه- صورة من ذلك مع شيخه الدجوي السالف الذكر، فيقول: «كان رحمه الله مرة يقرأ حديث سؤال القبر في صحيح البخاري، وكنت قد ذاكرت شرح الكرماني على البخاري، ورأيت فيه أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يظهر للمسئول عند قول الملك له: ما تقول في هذا الرجل؟ وبعد انتهاء الدرس قبّلت يده ولت له: يقول الشيخ الكرماني: إنه- صلى الله عليه وآله وسلم- يظهر للمسئول، فوكزني في صدري وقال لي: أنا ذاكرت شرح الكرماني واطلعت فيه على هذه المسألة، لما لم تذكرني بها في الدرس حتى يسمعها مني الناس؟».
ومرة كان يتكلم عن رؤية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- منامًا فقال: وإن الشيطان لا يتمثل به- صلى الله عليه وآله وسلم- إذا جاء في صورته الأصلية، والمعتمد أيضًا أنه لا يتمثل به إذا جاء في غير صورته الأصلية فقلت له: روى شيخنا السيد أحمد بن إدريس- رضي الله عنه- في كتابه المسمى «روح السنة» أنه- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «من رآني فقد رآني فإني أظهر في كل صورة»، ففرح فرحًا عظيمًا، وقال لي: هذا الحديث هو الدليل على أن الشيطان لا يتمثل به- صلى الله عليه وآله وسلم- ولو جاء في غير صورته الأصلية، أنت مبارك يا شيخ صالح، نفع الله بك المسلمين». [الذخيرة المعجلة، ص29]
ومن شيوخه الشيخ علي الشايب- رحمه الله- الذي حضر عليه الشيخ شرح منظومة الشيخ اللقاني المسماة «جوهرة التوحيد»، يقول عنه شيخنا: «وكان يدرسها في أول عام حضرت فيه إلى الأزهر الشريف، وكان يدرسها غيبًا، متنًا وشرحًا، وكان من العلماء الصالحين، وكان إذا دخل قبة سيدنا الحسين- رضي الله تعالى عنه- يحصل له حال خشوع عجيب، كأنه يشاهده وينزل عليه عرق كثير، وكنت أدرس عليه شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، وفي ليلة من الليالي رأيت النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في النوم وكان يحدثني في مسألة علمية أخطأت فيها، فغضب النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وقال لي: يا ولد، وذلك من ضمن كلام يطول، فلما أصبحت حضرت في الدرس، وقلت في نفسي وأنا جالس: يقول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- يا ولد، فهل أنا صغير؟ فالتفت إليّ الشيخ- وهو يدرس- وقال: إنما قلنا لك يا ولد كعادة العرب، لا لأنك صغير... وأمثال هذا الشيخ عند الصوفية يسمون أرباب القلوب، ولعلهم أن يكونوا المحدثين الذين منهم سيدنا عمر- رضي الله تعالى عنه- كما في حديث البخاري». [فتح وفيض: 21، 22]
ومنهم الشيخ حسن مدكور، والشيخ عبد الرحمن عليش، والشيخ محمد أبو القاسم الحجازي، والشيخ عبد الحي الكتاني، والشيخ أبو الخير الميداني، شيخ علماء سوريا، والشيخ أحمد الشريف الغماري، وأخوه الشيخ عبد الله الغماري، والشيخ علي أدهم المالكي السوداني، والشيخ حسن المشاط من علماء مكة المكرمة، والشيخ مصطفى صفوت، والشيخ عبد الحليم إبراهيم، والشيخ أبو يوسف، والشيخ محمد الحلبي، والسيد عبد الخالق الشبراوي، والشيخ محمد عطية البقلي، والشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي المالكي، والشيخ محمد العناني شيخ السادة المالكية، والشيخ الدليشني، والشيخ سلامة العزامي، والشيخ صادق العدوي، والشيخ أحمد وديدي من بلدة «رومى» بالسودان، والشيخ علي محمد إمام وخطيب مسجد دنقلا، والشيخ سيد حسن أفندي،والشيخ علي بن عوف، والشيخ أحمد النجار، المدرسان بمسجد دنقلا- رحمهم الله تعالى- وغيره من مشايخ الأزهر الشريف.
هذه الكوكبة من العلماء العاملين العارفين كان لهم عظيم الأثر في سعة علم الشيخ- رضي الله تعالى عنه- مع ما وهبه الله من ذكاء وقوة حافظة، فأكب الشيخ على دروسه وجاهد وثابر حتى نال الشهادتين العالية والعالمية من الأزهر الشريف، ثم أصبح صاحب حلقة ومدرسًا بالأزهر الشريف