تعيينه –رضى الله تعالى عنه – إماماً ومدرساً بالجامع الأزهر الشريف:
أما قصة تعيين الشيخ- رضي الله تعالى عنه- مدرسًا بالجامع الأزهر الشريف فهي جديرة بأن تُروى لما فيها من دليل ساطع على موهبة الشيخ العلمية، ومحبته للعلم وشيوخه، يحدثنا عنها الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي يقول: «ومن مواقف الشيخ التي بلغ التأثير فيها روعته، موقفه في رثاء أستاذه الكبير الشيخ يوسف الدجوي- رضي الله تعالى عنه- فقد كنا طلابًا في كلية اللغة العربية، ونادى الناعي منذرًا بوفاة الشيخ الكبير ومحددًا ميعاد الجنازة، فسارعت إلى توديعه، وكان المشهد مؤثرًا، تتقدمه جماعة كبار العلماء، برئاسة أستاذه الأكبر، الشيخ مصطفى عبد الرازق (شيخ الأزهر في ذلك الوقت) وحين بلغ الموكب فيها نهايته عند القبر، انتفض الشيخ صالح الجعفري خطيبًا، يرثي أستاذه فبدأ مرثيته، مستشهدًا بقول رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: إن الله- تعالى- لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» [فتح وفيض: 21، 22]، ثم أفاض في إيضاح منزلة العالم الفقيد، وأشاد ببعض مواقفه الجريئة أمام المبتدعة والملاحدة، وكان جلال الموقف، ورهبة المناسبة، واحتشاد الجموع، مما جعل نفس الراثي ممتدًا يتسع ويتدفق ويجيش، وكان لصوته هزة تحرك النفوس، وتعصب بالألباب، وما أن انتهى الخطيب من مرثيته حتى يسأل عنه الأستاذ الأكبر معجبًا، ثم بادر بتعيينه مدرسًا بالجامع الأزهر» [مجلة الأزهر، العدد: شوال سنة 1309هـ/ سبتمبر 1979م، من مقال للدكتور محمد رجب البيومي].
ومنذ ذلك الوقت بدأ الشيخ- رضي الله تعالى عنه- يلقي دروسه بالجامع الأزهر الشريف، وقد أُشربت نفسه حب العلم، اقتداءً برسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول شيخنا- رضي الله تعالى عنه-: «وكان- صلى الله عليه وآله وسلم- يرشد الناس بالدروس العلمية وبالقرآن العظيم، وقد تبعه شيخنا السيد أحمد بن إدريس- رضي الله تعالى عنه- في ذلك، فكان يرشد الناس بالقرآن الكريم والعلم. واستمر على ذلك حتى لقي ربه، وقد سألت الله- تعالى- أن يوفقني إلى ما كان عليه شيخنا العالم السيد أحمد بن إدريس صاحب العلم النفيس- رضي الله تعالى عنه.
فعلى جميع إخواني أن يسعدوني في حضور الدروس العلمية، وأن يحفظوا شيئًا من القرآن الكريم، فما عندنا إلا الدروس وحفظ القرآن، فأعينوني بعلوَّ همتكم، فما جمعتكم إلا على هذا الدرس، الذي فيه تفسير القرآن وتلاوته، فالعبادة لله وحده والعلماء هم الوارثون المرشدون» [أعطار أزهار أنوار حظيرة التقديس: ص143، 144].
«والشريعة مدارها العلم، والنبوة، والرسالة هي العلم، وإنما تشرف النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بالعلم والنبوة والرسالة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» [رواه الإمام أحمد وابن النجار عن أنس].
فيجب على كل عالم أن يدرس ما استطاع، وأن يعلّم الناس الشريعة الغراء، ولو كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- الآن لعلّم الناس العلم، لأنها هي وظيفته.
وقد دخل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- المسجد، فوجد حلقتين: وجد قومًا يقرأون العلم ويتدارسونه فيما بينهم، ووجد قومًا يذكرون الله تبارك وتعالى، فأثنى على المجلسين خيرًا، ثم جلس مع الذين يتدارسون العلم، ثم قال: إنما بُعثت معلمًا» [رواه ابن ماجه].
وقد خاطبه ربه بقوله: (لِتُبَيِّينَ لِلْنَاسِ مَا نُزِلَ إليهِمْ) [النحل: 44].
ومن تعلم يوشك أن يعمل، وأما الجاهل فبعيد عليه العلم، فعليكم أيها الناس بسماع العلم، ومذاكرة العلم، لأنه هو النور الذي يسترشد الإنسان به، قال سيدنا علي- رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه- : «الناس موتى وأهل العلم أحياء» [منير الأزهر: 174].
حلقات العلم ودرس الجمعة الشهير بالأزهر:
أما عن حلقة درس شيخنا الإمام الجعفري- رضي الله تعالى عنه- بعد صلاة الجمعة بالأزهر الشريف فقد كانت جامعة إسلامية صوفية، تعمقت فيها أصول الدين والشريعة علمًا، وتأكدت فيها أصول روحانية التصوف تربية، فكانت مظهرًا للحقيقة الصوفية، وكان منهجه: «أدبني ربي فأحسن تأديبي» بما ورثه من هدي نبوي عظيم، من الدوحة المحمدية الطاهرة نسبًا، العظيمة أثرًا، نفخ فيها الإيمان من روحه، فخلصت خلوص الزهد والورع والتقوى والصلاح، وسطعت سطوع الهدى، وفت صفاء الفطرة، التي تبلورت فيها محمدية الإسلام الموروثة، وصوفية الصفاء الموهوبة، فصار- رضي الله تعالى عنه- لسانًا لهداية الخلق، ففي دنيانًا فجّر للناس من ينابيع الحكمة وكنوز العلم والمعرفة وأسرار القرآن الكريم فجاء بالجديد والغريب من التفسير الذي لم يسبقه إليه سابق، ذلك لأنه- رضي الله تعالى عنه- لم يكن يملك عقلاً مكتسبًا، وإنما كان يملك عقلاً موهوبًا ملهما من الله- عز وجل- مقتديًا برسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فكان يعطي من كنوز عقله، ومواهب فكره، وفيوضات قلبه، وروحانيات روحن، ومن إنسانية نفسه، وكان يخاطب الخواطر والضمائر، ويجيب على تساؤلات العقول، وهواجس النفوس، فكانت حلقة درسه جامعة إسلامية، علمية المذهب، صوفية المشرب، تربط بين الشريعة والحقيقة، والظاهر والباطن، والنفس والروح، والعقل والخاطر.
وعن نفس هذا المعنى يحدثنا أحد العلماء الصالحين الذين أحبوا الشيخ- رضي الله تعالى عنه- وحضروا دروسه وهو الشيخ أحمد عبد الجواد الدومي- مدير الوعظ الأسبق بالقاهرة- رحمه الله تعالى وغفر له- فيقول في كلمته التي ألقاها في الاحتفال بمولد الشيخ- رضي الله تعالى عنه- سنة 1403هـ:
«دخلت يومًا مسجد الأزهر، كنت في صباح ذلك اليوم أقرأ في سورة الكهف، فلما وصلت إلى قوله تعالى: (وكلهم باسط ذراعيه بالوصيد) [الذخيرة المعجلة: ص29] أردت أن أعرف معنى كلمة «الوصيد».
ولما هممت أن آتي بالمصحف المفسر لأكشف عن معناها تذكرت أنني أقيم في مكان بعيد، فقلت في نفس: أذهب لألقي درسي، ثم إذا عدت إلى البيت أكشف عن معنى هذه الكلمة، وكان شيخنا- الشيخ صالح الجعفري- يلقي الدرس من الظهر إلى العصر كعادته، فدخلت عليه وجلست في حلقته، وبينما يسير الدرس سيرً متصلاً بتفسير آية من القرآن الكريم- ليست من سورة الكهف- سكت الشيخ، فقلت: ماذا يقصد شيخنا بقطع درسه؟ ثم أخذ الشيخ يقرأ آيات مرتلة من سورة الكهف، إلى أن وصل إلى قوله تعالى: (وكلهم باسط ذراعيه بالوصيد) وعند ذلك قال الشيخ: «إن الكلب بسط يديه على هيئة كذا وكذا، والوصيد هو الفناء.. نعود بعد ذلك إلى درسنا يا أحباب!!»، فقلت في نفسي: جزاك الله تعالى خيرًا.. وهذا من نور الله».
فى رواق المغاربة بالأزهر الشريف:
اتخذ شيخنا -رضى الله تعالى عنه- من الأزهر الشريف وطناً لا يفارقه إلا لأوجب الواجبات وألزم الضروريات كالحج مثلاً، فقد وفقه الله - تعالى - للحج سبعاً وعشرين مرة، أو لزيارة أهل بيت المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- ، وقد اتخذ من رواق المغاربة خلوة يخلو فيها بنفسه ويذكر الله - تعالى - بالقرآن الكريم والذكر القويم، استغفاراً وتسبيحاً وتهليلاً وتكبيراً وصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ويطالع العلم وينشره، ويتفكر فى آيات الله - تعالى - إنسانية وكونية وقرآنية ، ويستنطق الأكوان ، ويستلهم فيض القرآن ، ويحقق الخبر ، ويلتزم الأثر، عالى الهمة ، بالغ القمة ، متحدثاً بالنعمة.
من أقواله -رضى الله تعالى عنه- :
( الشريعة مدارها العلم، والنبوة والرسالة هى العلم، وإنما تشرف النبى -صلى الله عليه وآله وسلم - بالعلم والنبوة والرسالة، وقد قال -صلى الله عليه وآله وسلم- : ( وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر).
ومن نظمه :
بإسمائك الحسنى رجوتك سائلاً ولى حسن ظنٍ فيك أن تتقبلا
دعوتك يا الله دعوة من لجــــــــــا إليك بأسماء عظام وأقبـــــــــلا
سألتك يا الله يا من له الثنـــــــا تمنُّ على قلبى بتوحيد من علا
ويارب يا رحمن إرحم تعطفـــــــاً رحيمٌ فأدركنى بخيرٍ وأجــــــــزلا
ويا ملك هب لى من العز هيبةً يكون بها خصمى ضعيفاً معطـ،لا
والكثير والكتير من ديوانه رضى الله عنه
إنتقاله -رضى الله تعالى عنه - إلى الرفيق الأعلى :
عاش -رضى الله تعالى عنه - إحدى وسبعين سنة لم يغفل فيها عن ذكر الله تعالى والدعوة إليه واتباع سنة النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- وخدمة الإسلام والمسلمين ، حتى لقى ربه راضياً مرضياً فى مساء يوم الإثنين الثامن عشر من جمادى الأولى سنة 1399 هجرية، ودفن فى ضريحه العامر بالأنوار بجوار مسجده فى قلب القاهرة ، وعلى جبل الدراسة الأشم، بجوار حديقة الخالدين ، يتعانق مسجده المبارك مع مسجد جده مولانا الإمام الحسين -رضى الله تعالى عنه ، ومع مآذن الأزهر الشريف منارة العلم .