الله خلق كل دابة من ماء
المحصنات الغافلات المؤمنات, وتغلظ العقوبة علي ذلك.
وتنهي سورة النور عن دخول البيوت دون استئذان وسلام علي أهلها, وتضع الضوابط الشرعية لذلك, كما تأمر بغض البصر, وحفظ الفرج, وستر العورات, وبالاحتشام في الملبس والمظهر, كما تنهي عن التبرج بزينة, وتضع ضوابط حجاب المرأة المسلمة, وضوابط الزواج الإسلامي, وتحرم البغاء بكل صوره, وأشكاله وتعتبره من أبشع الجرائم المهدرة لكرامة الإنسان.
وتؤكد السورة الكريمة أن الله تعالى هو نور السماوات والأرض, وأنه يهدي لنوره من يشاء, وتدعو إلي عتق رقاب الأرقاء, وإلي بناء المساجد والقيام علي عمارتها وتطهيرها طمعا في مرضاة الله( سبحانه و تعالى ), وتجنبا لأهوال يوم القيامة.
وتبشر سورة النور أهل المساجد بأن الله تعالى سوف يجزيهم أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله, وفي المقابل تحذر الكفار بأن أعمالهم الجيدة سوف يجزون عليها في الدنيا, ولا رصيد لهم عند الله( سبحانه و تعالى ) في الآخرة, وتشبه أعمالهم السيئة بأحلك الظلمات المتراكبة فوق قيعان البحار العميقة, مؤكدة أن:
... وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ )( النور40).
وتؤكد السورة الكريمة أن جميع من في السماوات والأرض يسبح لله الذي له ملك كل شيء وإليه المصير, وتحذر من النفاق والمنافقين, وتفصح عن شيء من دخائل نفوسهم, وتقارن بين مواقفهم الكافرة, ومواقف المؤمنين الصادقين, وتأمر بطاعة الله ورسوله, جازمة أن ما علي الرسول إلا البلاغ المبين, مؤكدة أن وعد الله تعالى للذين آمنوا وعملوا الصالحات قائم إلي قيام الساعة.
وتعاود سورة النور الأمر بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, وطاعة رسول الله صلي الله عليه وسلم, كما تعاود الأمر بمزيد من ضوابط السلوك في البيت المسلم خاصة في حضرة رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم ومن بعده في حضرة كل مسئول عن العمل الإسلامي, وتحذر من مخالفة ذلك درءا للفتن في الدنيا وللعذاب في الآخرة.
وتختتم السورة الكريمة بالتأكيد مرة أخري أن لله ما في السماوات والأرض, وأنه تعالى عليم بخلقه الذين سوف يرجعون جميعا إليه فينبئهم بما فعلوا ويجازيهم عليه.
هذا وقد استعرضت سورة النور العديد من الآيات الكونية للتدليل علي صدق كل قضية غيبية جاءت فيها, وقد تم استعراض ذلك في مقالات سابقة ولا حاجة لإعادتها مرة أخري هنا.
من أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالى :
(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {45})
* ذكر ابن كثير( رحمه الله) ما مختصره: يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات, علي اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد,( فمنهم من يمشي علي بطنه) كالحية وماشاكلها, ومنهم من يمشي علي رجلين كالإنسان والطير, ومنهم من يمشي علي أربع كالأنعام وسائر الحيوانات, ولهذا قال
يخلق الله مايشاء) أي بقدرته, لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, ولهذا قال: إن الله علي كل شيء قدير. * وجاء في الظلال( رحم الله كاتبها برحمته الواسعة) ما مختصره: وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة, حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء, قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعا, وهو الماء,.. فهي ذات أصل واحد. ثم هي ـ كما تري العين ـ متنوعة الأشكال. منها الزواحف تمشي علي بطنها, ومنها الإنسان والطير يمشي علي قدمين. ومنها الحيوان يدب علي أربع. كل أولئك وفق سنة الله ومشيئته, لا عن فلتة ولا مصادفة
يخلق الله ما يشاء) غير مقيد بشكل ولا هيئة. فالنواميس والسنن التي تعمل في الكون قد اقتضتها مشيئته الطليقة وارتضتها( إن الله علي كل شيء قدير). *وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) ما نصه: الله خالق كل شيء, وأبدع الأشياء بإرادته, وخلق كل حي يدب من أصل مشترك هو الماء, لذلك لايخلو الحي منه, ثم خالف بينها في الأنواع والاستعدادات ووجوه الاختلاف الأخري, فمن الدواب نوع يزحف علي بطنه كالأسماك والزواحف, ومنها نوع يمشي علي رجليه كالإنسان والطير, ومنها نوع يمشي علي أربع كالبهائم, يخلق الله ما يشاء من خلقه علي أية كيفية تكون للدلالة علي قدرته وعلمه, فهو المريد المختار, وهو القادر علي كل شيء.
وجاء في تعليق الخبراء بالهامش ما نصه
الماء في الآية الكريمة هو ماء التناسل...., والآية الكريمة لم تسبق ركب العلم فقط في بيان نشوء الإنسان من النطفة..بل سبقته كذلك في بيان أن كل دابة تدب علي الأرض خلقت كذلك بطريق التناسل..., ومما تحتمله الآية من معان علمية أن الماء قوام تكوين كل كائن حي, فمثلا يحتوي جسم الإنسان علي نحو70% من وزنه ماء... ولم يكن تكوين الجسم واحتواؤه هذه الكمية الكبيرة من الماء معروفا مطلقا قبل نزول القرآن. والماء أكثر ضرورة للإنسان من الغذاء.., فبينما الإنسان يمكنه أن يعيش(60 يوما) بدون غذاء, فإنه لايمكنه أن يعيش بدون الماء إلا لفترة قصيرة تتراوح بين3 و10 أيام علي أقصي تقدير. والماء أساس تكوين الدم والسائل اللمفاوي والسائل النخاعي, وإفرازات الجسم كالبول والعرق والدموع واللعاب والصفراء واللبن والمخاط والسوائل الموجودة في المفاصل, وهو سبب رخاوة الجسم وليونته, ولو فقد الجسم20% من مائه فإن الإنسان يكون معرضا للموت. والماء يذيب المواد الغذائية بعد هضمها فيمكن امتصاصها, وهو كذلك يذيب الفضلات من عضوية ومعدنية في البول والعرق. وهكذا يكون الماء الجزء الأكبر والأهم من الجسم, وذلك يمكن القول بأن كل كائن حي مخلوق من الماء. * وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لما ذكره السابقون من المفسرين ولا حاجة إلي تكراره هنا.
من الدلالات العلمية للآية الكريمة
أولا: في قوله تعالى : والله خلق كل دابة من ماء:
(الدابة) في اللغة هي كل ما يدب علي الأرض أي يمشي عليها بخفة, وجمعها( دواب), وإن كان من اللغويين من يعتبر لفظة( دابة) جمعا لكل شيء يدب علي الأرض قياسا علي خائنة جمع خائن. ولذلك يقال
دب),( يدب)( دبا) و( دبيبا) لكل من مشي بخفة علي الأرض. وقد قيل إن الفعل يستعمل للتعبير عن حركة الحيوان أكثر من استعماله للإنسان, وللحيوان الذي يحيا علي اليابسة بالذات دون الحيوان الذي يحيا في الماء, ولكن الأولي إطلاقه علي عموم من مشي علي الأرض وذلك لقول الحق(تبارك و تعالى ):
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ )( النحل:61).
ومن الدلالات العلمية لقول الحق( سبحانه و تعالى ):والله خلق كل دابة من ماء...*.( النور:45)
(1) أن خلق الماء سابق لخلق جميع الأحياء, وهو ما أثبتته الدراسات الأرضية.
(2) أن الله( تعالى ) خلق كل صور الحياة الباكرة في الماء, والدراسات لبقايا الحياة في صخور قشرة الأرض تشير إلي أن الحياة ظلت مقصورة علي الماء لمدة تصل إلي نحو3400 مليون سنة( من3800 مليون سنة مضت إلي نحو400 مليون سنة مضت حين خلقت أول نباتات أرضية علي اليابسة), وأن خلق النبات كان سابقا لخلق الحيوان في الوسطين المائي واليابس, لأن الحياة الحيوانية علي اليابسة لم تعرف قبل365 مليون سنة مضت( في نهاية العصر الديفوني).
(3) أن كل صور الحياة( الإنسية, والحيوانية, والنباتية) لايمكن لها أن تقوم في غيبة الماء لأنه أعظم مذيب علي الأرض, وبذلك يشكل الوسيط الناقل لعناصر ومركبات الأرض إلي مختلف أجزاء النبات, ومنها إلي أجساد كل من الإنسان والحيوان, وذلك بما للماء من صفات طبيعية وكيميائية خاصة من مثل اللزوجة العالية, والتوتر السطحي الشديد, والخاصية الشعرية الفائقة.
(4) أن الماء يشكل العنصر الأساسي في بناء أجساد جميع الأحياء, فيكون ما بين71% من جسم الإنسان البالغ, و93% من جسم الجنين ذي الأشهر المعدودة, ويكون أكثر من80% من تركيب دم الإنسان, وأكثر من90% من تركيب أجساد العديد من النباتات والحيوانات.
(5) أن جميع الأنشطة الحياتية وتفاعلاتها المتعددة لاتتم في غيبة الماء, من التغذية, إلي الهضم, والتمثيل الغذائي, والإخراج والتخلص من سموم الجسم وفضلات الغذاء, ومن التنفس إلي التعرق والنتح, إلي التمثيل الضوئي في النباتات الخضراء, ومن النمو إلي التكاثر, وإلي غير ذلك من الأنشطة الحياتية ومن أهمها حفظ درجتي حرارة الجسم ورطوبته.
(6) أن وحدة مادة خلق الأحياء ـ وهي هنا الماء ـ تؤكد وحدانية الخالق( سبحانه و تعالى ), الذي أشرك به كثير من الجهال الضالين في القديم والحديث.
(7) أن في البناء المعقد لأجساد الكائنات الحية من الماء شهادة لله( تعالى ) بطلاقة القدرة المبدعة في الخلق, وشهادة بقدرته( سبحانه و تعالى ) علي إفناء خلقه وعلي إعادة بعثه.
ثانيا: في قوله تعالى :... فمنهم من يمشي علي بطنه ومنهم من يمشي علي رجلين ومنهم من يمشي علي أربع...*:
يوضح هذا النص الكريم أن طرائق تحرك الدواب هي وسيلة من وسائل تصنيفها الجيدة, وحركة الدابة هي انتقالها من مكان إلي آخر سعيا وراء طلب الطعام والشراب, أو للهرب من الأعداء, أو للارتحال عند التغيرات البيئية إلي مكان أنسب.
والطريقة الأولي التي حددتها الآية الكريمة في حركة الدواب هي المشي علي البطن كما هو شائع في الديدان وهي من اللافقاريات عديمة الأطراف التي تتبع قبائل عدة, وفي العديد من طائفة الزواحف(ClassReptilia), وهذه الطائفة الزاحفة زودها الله( سبحانه و تعالى ) بجلد سميك, خال من الغدد, ومغطي عادة بالعديد من القشور والحراشيف القرنية الجافة والصلبة, والتي تحمي جسمها من المؤثرات الخارجية, وتحفظه من الجفاف. وتنتشر هذه الحراشيف علي جميع أجزاء جسم الزاحف بما في ذلك الأطراف والذنب.
وتختلف هذه الحراشيف والقشور في أشكالها وأحجامها من نوع إلي آخر فقد تكون صغيرة الحجم ومحببة كالدرنات, أو كبيرة الحجم بيضية الشكل, أو مربعة, أو مستطيلة, أو مثلثة كما هو الحال في السحالي, أو علي هيئة صندوق يحيط بجميع الجسم كما هو الحال في السلاحف. والزواحف عامة من ذوات الدم البارد( أي المتغير في درجة حرارته), وغالبيتها تبيض بيضا ذا قشور صلبة, يلقح في بطن الأنثي, وينمو الجنين في داخل البيضة علي اليابسة أو في داخل جسم الأنثي حتي تفقس البيضة ويخرج منها.
والجنين في داخل البيضة يعيش وسط سائل خاص موجود داخل غشاءين, ويتصل الجنين في منطقته البطنية بكيس محي به الغذاء اللازم له أثناء مراحل نموه الجنيني حتي تكتمل, كما انه مرتبط بكيس آخر لتخزين المواد الإخراجية. وعلي الرغم من سمك قشرة البيضة إلا انه يسمح بمرور الغازات اللازمة لتنفس الجنين وهو بداخلها, ولكنه لا يسمح بدخول الماء.
وتاريخ الزواحف علي الارض يرجع الي ثلاثمائة مليون سنة مضت أي إلى نهايات العصر الفحمي أو الكربوني(TheLateCarboniferousEpoch), وقد سادت حقب الحياة المتوسطة سيادة واضحة( من245 مليون سنة مضت الي65 مليون سنة مضت) والذي عرف باسم حقب الزواحف العملاقة, ثم دالت دولة تلك الزواحف العملاقة بانتهاء حقب الحياة المتوسطة, وإن استمرت الطائفة ممثلة بأفراد أقل عددا وأصغر حجما من مثل السحالي أو( العظاءات) ومنها, الضب, والبرص والحرباء والورل, ومنها رتب الثعابين والسلاحف والتماسيح وجنس واحد هو جنس سفينودون(Sphenodon) أو تواتارا(Tuatara) من رتبة مندثرة عرفت باسم(OrderRhynchocephalia).
والزواحف تضم حيوانات بطيئة الحركة بصفة عامة, لانها تزحف ببطنها علي سطح الارض, ويعرف منها قرابة الستة آلاف نوع منتشرة في مختلف أرجاء الارض.
والأرجل في الزواحف إما غائبة تماما أو ذات اثر ضعيف لايكاد يدرك كما هو الحال في الثعابين بمختلف انواعها, وفي بعض انواع السحالي, وقد تكون الارجل موجودة ولكنها ضعيفة لا تكاد تقوي علي حمل الجسم بعيدا عن سطح الارض كما هو الحال في رتبتي السلاحف والتماسيح بصفة عامة, او موجودة وقوية كما هو الحال في بعض السحالي.
وفي الزواحف عديمة الأطراف يرتكز الحيوان ببطنه علي الارض ارتكازا كاملا, ويتحرك بالزحف علي بطنه فوق مستوي سطح الارض مستخدما في ذلك عضلات جسمه القوية التي تدفعه الي الامام في حركات متعرجة.
ومن الزواحف ما تدفن جسدها في انفاق تحفرها تحت سطح التربة, وتعرف باسم الزواحف الحفارة