أكل الحرام و تناوله على أي وجه كان
الكبيرة الثامنة و العشرون : أكل الحرام و تناوله على أي وجه كان
قال الله عز و جل : " و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " .
أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني باليمين الباطلة الكاذبة يقتطع بها الرجل مال أخيه بالباطل و الأكل بالباطل على وجهين ، أحدهما أن يكون على جهة الظلم نحو الغصب و الخيانة و السرقة . والثاني على جهة الهزل و اللعب كالذي يؤخذ في القمار و الملاهي و نحو ذلك ، و في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة " . و في صحيح مسلم حين ذكر النبي صلى الله عليه و سلم : " الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب و مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه حرام ، و غذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك " و " عن أنس رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال صلى الله عليه و سلم : يا أنس أطب كسبك تجب دعوتك ، فإن الرجل ليرفع اللقمة من الحرام إلى فيه فلا يستجاب له دعوة أربعين يوماً " ، و روى البيهقي باسناده إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ، و إن الله يعطي الدنيا من يحب و من لا يحب و لا يعطي الدين إلا من يحب ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه و لا يكسب عبد مالاً حراماً فينفق منه فيبارك له فيه و لا يتصدق منه فيقبل منه و لا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار . إن الله لا يمحو السيء بالسيء و لكن يمحو السيء بالحسن " . و " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الدنيا حلوة خضرة من اكتسب فيها مالاً من حله و أنفقه في حقه أثابه الله و أورثه جنته ، و من اكتسب فيها مالاً من غير حله و أنفقه في غير حقه أدخله الله تعالى دار الهوان . و رب متخوض فيما اشتهت نفسه من الحرام له النار يوم القيامة " . و جاء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : " من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أي باب أدخله النار " . و " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لأن يجعل أحدكم في فيه تراباً خير من أن يجعل في فيه حراماً " . و قد روي عن يوسف بن أسباط رحمه الله قال : إن الشاب إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه : انظروا من أين مطعمه ، فإن كان مطعم سوء قال : دعوه يتعب و يجتهد فقد كفاكم نفسه . إن إجهاده مع أكل الحرام لا ينفعه و يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه و سلم " عن الرجل الذي مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه حرام و غذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك ؟ " . و قد روي في حديث أن ملكاً على بيت المقدس ينادي كل يوم و كل ليلة : من أكل حراماً لم يقبل الله منه صرفاً و لا عدلا . الصرف : النافلة ، و العدل : الفريضة . و قال عبد الله بن المبارك : ( لأن أرد درهماً من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف و مائة ) . و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : " من حج بمال حرام فقال لبيك ، قال ملك : لا لبيك و لا سعديك حجك مردود عليك " . و روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : " من اشترى ثوباً بعشرة دراهم و في ثمنه درهم من حرام لم يقبل الله له صلاة ما دام عليه " . و قال وهب بن الورد : لو قمت قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك أحلال أم حرام . و قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( لا يقبل الله صلاة امرىء و في جوفه حرام حتى يتوب إلى الله تعالى منه ) . و قال سفيان الثوري : من أنفق الحرام في الطاعة كمن طهر الثوب بالبول ، و الثوب لا يطهره إلا الماء ، و الذنب لا يكفره إلا الحلال ، و قال عمر رضي الله عنه : ( كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام ) . و " عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ، لا يدخل الجنة جسد غذي بالحرام " . و عن زيد بن أرقم قال : كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج ـ أي قد كاتبه على مال ـ و كان يجيئه كل يوم بخراجه فيسأله : من أين أتيت بها ؟ فإن رضيه أكله و إلا تركه . قال فجاءه ذات ليلة بطعام و كان أبو بكر صائماً فأكل منه لقمة و نسي أن يسأله ، ثم قال له : من أين جئت بهذا ؟ فقال: كنت تكهنت لأناس بالجاهلية و ما كنت أحسن الكهانة ، إلا أني خدعتهم . فقال أبو بكر : أف لك كدت تهلكني ! ثم أدخل يده في فيه فجعل يتقيأ و لا يخرج ، فقيل له : إنها لا تخرج إلا بالماء ، فدعا بماء فجعل يشرب و يتقيأ حتى قاء كل شيء في بطنه . فقيل له : يرحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة ؟ فقال رضي الله عنه : لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها . إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به " . فخشيت أن ينبت بذلك في جسدي من هذه اللقمة . و قد تقدم قوله صلى الله عليه و سلم : " لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام " . و إسناده صحيح . قال العلماء رحمهم الله : و يدخل في هذا الباب : المكاس ، و الخاتن ، و الزغلي ، و السارق ، و البطال ، و آكل الربا و موكله ، و آكل مال اليتيم ، و شاهد الزور ، و من استعار شيئاً فجحده ، و آكل الرشوة ، و منقص الكيل و الوزن ، و من باع شيئاً فيه عيب فغطاه ، و المقامر ، و الساحر ، و المنجم ، و المصور ، و الزانية ، و النائحة و العشرية ، و الدلال ، إذا أخذ أجرته بغير إذن من البائع ، و مخبر المشتري بالزائد و من باع حراً فأكل ثمنه .
( فصل ) روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : " يؤتى يوم القيامة بأناس معهم من الحسنات كأمثال جبل تهامة ، حتى إذا جيء بهم جعلها الله هباءً منثورا ثم يقذف بهم في النار . فقيل يا رسول الله : كيف ذلك ؟ قال : كانوا يصلون و يصومون ، و يزكون ، و يحجون ، غير أنهم كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه فأحبط الله أعمالهم " . و عن بعض الصالحين أنه رؤي بعد موته في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : خيراً ، غير أني محبوس عن الجنة بإبرة استعرتها فلم أردها . فنسأل الله تعالى العفو و العافية و التوفيق لما يحب و يرضى إنه جواد كريم رءوف رحيم .
( موعظة ) عباد الله أما الليالي و الأيام تهدم الآجال ؟ أما مآل المقيم في الدنيا إلى زوال ، أما آخر الصحة يؤول إلى الإعتلال ، أما غاية السلامة نقصان الكمال أما بعد استقرار المنى هجوم الآجال ، أما أنبئتم عن الرحيل و قد قرب الإنتقال أما بانت لكم العبر و ضربت لكم الأمثال ؟
و عزيز ناعم ذل له كل صعب المرتقى وعر المرام
فكساه بعد لين ملبس خشناً بالرغم منه في الرغام
و وجوه ناضرات بدلت بعد لون الحسن لوناً كالقتام
و شموس طالعات أفلت بعد ذاك النور منها بالظلام
و منيف شامخ بنيانه لين الأعطاف مهتز القوام
أف للدنيا فما شيمتها غير نقض العقد أو خفر الذمام
فاستعدوا الزاد تنجوا و اعملوا صالحاً من قبل تقويض الخيام
يا متعلقاً بزخرف يروق بقاؤه كلمح البروق ، يا مضيعاً في الهوى واجبات الحقوق ، تبارز الخالق و تستحي من المخلوق ؟ يا مؤثراً أعلى العلالي ساتراً ذلك الفسوق ، ألا سترى ذلك الفسوق ! يا متولهاً مهاد الهوى و هو في سجن الردى مرموق ، إبك على نفسك العليلة فإنك بالبكاء محقوق ، عجباً لمن رأى فعل الموت لصحبه ، و أيقن بتلفه و ما قضى نحبه ، و سكن الإيمان بالآخرة في قلبه ، و نام غافلاً على جنبه ، و نسي جزاءه على جرمه و ذنبه و أعرض إلى ربه من الهوى عن ربه ، كأني به و قد سقي كأس حمام يستغيث من شربه ، و أفرده الموت عن أهله و سربه ، و نقله إلى قبره ذل فيه بعد عجبه . فياذا اللب جز على قبره و عج به . لقد خرقت المواعظ المسامع و ما أراه انتفع به السامع ، لقد بدا نور المطالع لكنه أعمى المطالع ، و لقد بانت العبر بآثار الغير لمن اغتر بالمصارع . فما بالها لا تسكب المدامع ؟ يا عجبا لقلب عند ذكر الحق غير خاشع ، لقد نشبت فيه مخالب المطامع . يا من شيبه قد أتى هل ترى ما مضى من العمر براجع ؟ انتبه لما بقي و انته و راجع ، فالهول عظيم و الحساب شديد و الطريق شاسع ، إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع .