الكبيرة التاسعة عشر : شرب الخمر
قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون " . فقد نهى عز و جل في هذه الآية عن الخمر و حذر منها ، و قال النبي صلى الله عليه و سلم : " اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث " فمن لم يجتنبها فقد عصى الله و رسوله و استحق العذاب بمعصية الله و رسوله . قال الله تعالى : " و من يعص الله و رسوله و يتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها و له عذاب مهين " .
و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزل تحريم الخمر مشى الصحابة بعضهم إلى بعض و قالوا حرمت الخمر و جعلت عدلاً للشرك .
و ذهب عبد الله بن عمرو إلى أن الخمر أكبر الكبائر ، و هي بلا ريب أم الخبائث و قد لعن شاربها في غير حديث . و عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " كل مسكر خمر و كل خمر حرام و من شرب الخمر في الدنيا و مات و لم يتب منها و هو مدمنها لم يشربها في الآخرة " رواه مسلم ، و روى مسلم : "عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن على الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال . قيل : يا رسول الله و ما طينة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار " .
و في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " من شرب الخمر في الدنيا يحرمها في الآخرة " .
ذكر أن مدمن الخمر كعابد وثن : رواه الإمام أحمد في مسنده " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : مدمن الخمر كعابد وثن " .
ذكر أن مدمن الخمر إذا مات و لم يتب لا يدخل الجنة : روى النسائي " من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يدخل الجنة عاق و لا مدمن خمر " و في رواية " ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة مدمن الخمر و العاق لوالديه ، و الديوث و هو الذي يقر السوء في أهله " .
ذكر أن السكران لا يقبل منه حسنة : روى " جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ثلاثة لا تقبل لهم صلاة و لا ترفع لهم حسنة إلى السماء : العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه فيضع يده في أيديهم ، و المرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى عنها ، و السكران حتى يصحو " .
و الخمر ما خامر العقل أي غطاه سواء كان رطباً أو يابساً أو مأكولاً أو مشروباً ، و " عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يقبل الله لشارب الخمر صلاة ما دام في جسده شيء منها " . و في رواية " من شرب الخمر لم يقبل الله منه شيئاً ، و من سكر منها لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن تاب ثم عاد كان حقاً على الله أن يسقيه من مهل جهنم " . و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من شرب الخمر و لم يسكر أعرض الله عنه أربعين ليلة ، و من شرب الخمر و سكر لم يقبل الله منه صرفاً و لا عدلاً أربعين ليلة ، فإن مات فيها مات كعابد وثن ، و كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال . قيل : يا رسول الله و ما طينة الخبال ؟ قال : عصارة أهل النار القيح و الدم " .
و قال عبد الله بن أبي أوفى : من مات مدمناً للخمر مات كعابد اللات و العزى . قيل : أرأيت مدمن الخمر هو الذي لا يستفيق من شربها ؟ قال : لا و لكن هو الذي يشربها إذا وجدها و لو بعد سنين .
ذكر أن من شرب الخمر لا يكون مؤمناً حين يشربها : " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : لا يسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن ،و لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن ، و لا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن ، و التوبة معروضة بعد " . أخرجه البخاري و في الحديث : " من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه " و فيه : من شرب الحمر ممسياً أصبح مشركاً ، و من شربها مصبحاً أمسى مشركاً . و فيه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : " إن رائحة الجنة لتوجد من مسيرة خمسمائة عام و لا يجد ريحها عاق و لا منان و لا مدمن خمر و لا عابد وثن " . و روى الإمام أحمد من " حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يدخل الجنة مدمن خمر و لا مؤمن بسحر و لا قاطع رحم ، و من مات و هو يشرب الخمر سقاه الله من نهر الغوطة و هو ماء يجري من فروج المومسات ـ أي الزانيات يؤذي أهل النار ريح فروجهن " .
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إن الله بعثني رحمة و هدى للعالمين ، بعثني لأمحق المعازف و المزامير و أمر الجاهلية ، و أقسم ربي تعالى بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من الخمر إلا سقيته مثلها من حميم جهنم ، و لا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيته إياها في حظائر القدس مع خير الندماء " .
ذكر من لعن في الخمر : روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " لعنت الخمر بعينها و شاربها و ساقيها و بائعها و مبتاعها و عاصرها و معتصرها و حاملها و المحمولة إليه و آكل ثمنها " . و رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " أتاني جبريل عليه السلام فقال : يا محمد إن الله لعن الخمر و عاصرها و معتصرها و بائعها و مبتاعها و شاربها و آكل ثمنها و حاملها و المحمولة إليه و ساقيها و مستقيها " .
ذكر النهي عن عيادة شربة الخمر إذا مرضوا و كذلك لا يسلم عليهم :
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : لا تعودوا شراب الخمر إذا مرضوا . قال البخاري ، و قال ابن عمر لا تسلموا على شربة الخمر ، و قال صلى الله عليه و سلم : " لا تجالسوا شراب الخمر و لا تعودوا مرضاهم و لا تشهدوا جنائزهم ، و إن شارب الخمر يجيء يوم القيامة مسوداً وجهه ، مدلعاً لسانه على صدره ، يسيل لعابه يقذره كل من رآه و عرفه أنه شارب خمر " .
قال بعض العلماء : إنما نهى عن عيادتهم و السلام عليهم لأن شارب الخمر فاسق ملعون ، قد لعنه الله و رسوله كما تقدم في قوله : لعن الله الخمور و شاربها الحديث فإن اشتراها و عصرها كان ملعوناً مرتين ، و إن سقاها لغيره كان ملعوناً ثلاث مرات ، فلذلك نهى عن عيادته و السلام عليه إلا أن يتوب فمن تاب تاب الله عليه .
ذكر أن الخمر لا يحل التداوي بها : " عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : اشتكت ابنة لي فنبذت لها في كوز ، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يغلي ، فقال : ما هذا يا أم سلمة ؟ فذكرت له أني أداوي به ابنتي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها " .
ذكر أحاديث متفرقة رويت في الخمر : من ذلك ما ذكره أبو نعيم في الحلية عن أبي موسى رضي الله عنه ، قال : أتي النبي صلى الله عليه و سلم بنبيذ في جرة له نشيش فقال : " اضربوا بهذا الحائط فإن هذا شرب من لا يؤمن بالله و اليوم الآخر " .
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من كان في صدره آية من كتاب الله و صب عليها الخمر يجيء يوم القيامة كل حرف من تلك الآية فيأخذ بناصيته حتى يوقفه بين يدي الله تبارك و تعالى فيخاصمه ، و من خاصمه القرآن خصم . فالويل لمن كان القرآن خصمه يوم القيامة " . و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم : " ما من قوم اجتمعوا على مسكر في الدنيا إلا جمعهم الله في النار فيقبل بعضهم على بعض يتلاومون ، يقول أحدهم للآخر : يا فلان لا جزاك الله عني خيراً فأنت الذي أوردتني هذا المورد ، و يقول له الآخر مثل ذلك " . و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : " من شرب الخمر في الدنيا سقاه الله من سم الأساودة شربة يتساقط لحم وجهه في الإناء قبل أن يشربها ، فإذا شربها تساقط لحمه و جلده يتأذى به أهل النار ، ألا وشاربها و عاصرها و معتصرها و حاملها و المحمولة إليه و آكل ثمنها شركاء في إثمها ، لا يقبل الله منهم صلاة و لا صوم و لا حجاً حتى يتوبوا ، فإن ماتوا قبل التوبة كان حقاً على الله أن يسقيهم بكل جرعة شربوها في الدنيا من صديد جهنم ألا و كل مسكر خمر و كل خمر حرام " .
و يدخل في قوله صلى الله عليه و سلم كل مسكر خمر : الحشيشة كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى . روي : " أن شربة الخمر إذا أتوا على الصراط يتخطفهم الزبانية إلى نهر الخبال فيسقون بكل كأس شربوها من الخمر شربة من نهر الخبال ، فلو أن تلك الشربة تصب من السماء لأحرقت السماوات من حرها " . نعوذ بالله منها .
ذكر الآثار عن السلف في الخمر : ذكر ابن مسعود رضي الله عنه قال : إذا مات شارب الخمر فادفنوه ، ثم اصلبوه على خشبة ، ثم انبشوا عنه قبره فإن لم تروا وجهه مصروفاً عن القبلة و إلا فاتركوه مصلوباً . و عن الفضيل بن عياض أنه حضر عند تلميذ له حضرته الوفاة فجعل يلقنه الشهادة و لسانه لا ينطق بها ، فكررها عليه فقال : لا أقولها و أنا بريء منها ، فخرج الفضيل من عنده و هو يبكي ، ثم رآه بعد مدة في منامه و هو يسحب به إلى النار ، فقال له : يا مسكين بم نزعت منك المعرفة ؟ فقال : يا أستاذ كان بي علة فأتيت بعض الأطباء فقال لي تشرب في كل سنة قدحاً من الخمر و إن لم تفعل تبقى بك علتك ، فكنت أشربها في كل سنة لأجل التداوي ! فهذا حال من شربها للتداوي فكيف حال من يشربها لغير ذلك ؟ نسأل الله العفو و العافية من كل بلاء .
و سئل بعض التائبين عن سبب توبته فقال : كنت أنبش القبور فرأيت فيها أمواتاً مصروفين عن القبلة ، فسألت أهليهم عنهم فقالوا : كانوا يشربون الخمر في الدنيا و ماتوا من غير توبة و قال بعض الصالحين : مات لي ولد صغير ، فلما دفنته رأيته بعد موته في المنام و قد شاب رأسه . فقلت : يا ولدي دفنتك و أنت صغير فما الذي شيبك ؟ فقال : يا أبتي دفن إلى جانبي رجل ممن كان يشرب الخمر في الدنيا ، فزفرت جهنم لقدومه زفرة لم يبق منها طفل إلا شاب رأسه من شدة زفرتها ، نعوذ بالله منها ، و نسأل الله العفو و العافية مما يوجب العذاب في الآخرة .
فالواجب على العبد أن يتوب إلى الله تعالى قبل أن يدركه الموت و هو على أشر حالة ، فيلقى في النار ، نعوذ بالله منه .
فصل : و الحشيشة المصنوعة من ورق القنب حرام كالخمر يحد شاربها ، كما يحد شارب الخمر و هي أخبث من الخمر ، من جهة أنها تفسد العقل و المزاج حتى يصير في الرجل تخنث و دياثة و غير ذلك من الفساد . و الخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى المخاصمة و المقاتلة و كلاهما يصد عن ذكر الله و عن الصلاة .
و قد توقف بعض العلماء المتأخرين في حدها ، و رأى أن أكلتها تعزر بما دون الحد حيث ظنها تغير العقل من غير طرب بمنزلة البنج و لم يجد العلماء المتقدمين فيها كلاماً ، و ليس كذلك بل أكلتها ينشون و يشتهونها كشراب الخمر و أكثر ، حتى لا يصبروا عنها و تصدهم عن ذكر الله و الصلاة إذا أكثرا منها ، مع ما فيها من الدياثة و التخنث و فساد المزاج و العقل و غير ذلك . لكن لما كانت جامدة مطعومة ـ ليست شراباً ـ تنازع العلماء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب الإمام أحمد و غيره ، فقيل : هي نجسة كالخمر المشروبة ، و هذا هو الإعتبار الصحيح و قيل : لا ، لجمودها ، و قيل يفرق بين جامدها و مائعها ، و بكل حال : فهي داخلة فيما حرم الله و رسوله من الخمر المسكر لفظاً و معنى ، قال أبو موسى : يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع و هو من العسل ينبذ حتى يشتد ، و المزر و هو الذرة و الشعير ينبذ حتى يشتد قال : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أعطى جوامع الكلم بخواتمه ، فقال صلى الله عليه و سلم : " كل مسكر حرام " رواه مسلم ، و قال صلى الله عليه و سلم : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ، و لم يفرق صلى الله عليه و سلم بين نوع و نوع لكونه مأكولاً أو مشروباً ، على أن الخمر قد يصطنع بها يعني الخبز ، و هذه الحشيشة قد تذاب بالماء و تشرب ، و الخمر يشرب و يؤكل و الحشيشة تشرب و تؤكل ، و إنما لم يذكرها العلماء لأنها لم تكن على عهد السلف الماضي و إنما حدثت في مجيء التتار إلى بلاد الإسلام و قد قيل في وصفها شعراً :
فآكلها و زارعها حلالاً فتلك على الشقي مصيبتان
فوالله ما فرح إبليس بمثل فرحه بالحشيشة لأنه زينها للأنفس الخسيسة فاستحلوها و استرخصوها :
قل لمن يأكل الحشيشة جهلاً عشت بأكلها بأقبح عيشة
قيمة المرء جوهر فلماذا يا أخا الجهل بعته بحشيشة
حكاية : عن عبد الملك بن مروان : أن شاباً جاء إليه باكيا حزيناً فقال : يا أمير المؤمنين إني ارتكبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة ؟ قال و ما ذنبك ؟ قال : ذنبي عظيم . قال : و ما هو فتب إلى الله تعالى فإنه يقبل التوبة عن عباده و يعفو عن السيئات . قال : يا أمير المؤمنين كنت أنبش القبور و كنت أرى فيها أموراً عجيبة قال : و ما رأيت ؟ قال يا أمير المؤمنين نبشت ليلة قبراً فرأيت صاحبه قد حول وجهه عن القبلة فخفت منه ، و أردت الخروج فإذا أنا بقائل يقول في القبر : ألا تسأل عن الميت لماذا حول وجهه عن القبلة ؟ فقلت : لماذا حول ؟ قال : لأنه كان مستخفاً بالصلاة . هذا جزاء مثله . ثم نبشت قبراً آخر فرأيت صاحبه قد حول خنزيراً و قد شد بالسلاسل و الأغلال في عنقه ، فخفت منه و أردت الخروج و إذا بقائل يقول لي : ألا تسأل عن عمله ، و لماذا يعذب ؟ فقلت : لماذا ؟ فقال : كان يشرب الخمر في الدنيا و مات من غير توبة . و الثالث يا أمير المؤمنين نبشت قبراً فوجدت صاحبه قد شد بالأرض بأوتار من نار و أخرج لسانه من قفاه ، فخفت و رجعت ، و أردت الخروج فنوديت : ألا تسأل عن حاله لماذا ابتلي ؟ فقالت : لماذا ؟ فقال : كان لا يتحرز من البول ، و كان ينقل الحديث بين الناس فهذا جزاء مثله . و الرابع يا أمير المؤمنين نبشت قبراً فوجدت صاحبه قد اشتعل ناراً فخفت منه و أردت الخروج ، فقيل : ألا تسأل عنه و عن حاله ؟ فقلت و ما حاله ؟ فقال : كان تاركاً للصلاة . و الخامس يا أمير المؤمنين نبشت قبراً فرأيته قد وسع على الميت مد البصر و فيه نور ساطع ،و الميت نائم على سرير ، و قد أشرق نوره و عليه ثياب حسنة فأخذتني منه هيبة ،و أردت الخروج فقيل لي : هلا تسأل عن حاله لماذا أكرم بهذه الكرامة . فقلت : لماذا أكرم ؟ فقيل لي : لأنه كان شاباً طائعاً نشأ في طاعة الله عز و جل و عبادته فقال عبد الملك عند ذلك : إن في هذا لعبرة للعاصين و بشارة للطائعين . فالواجب على المبتلي بهذه المعائب المبادرة إلى التوبة و الطاعة ، جعلنا الله و إياكم من الطائعين ، و جنبنا أفعال الفاسقين ، إنه جواد كريم .