للأسف بسبب وجود خطأ في قاعدة بيانات المصدر هنضطر حاليا آسفين ان نبدأ من الجزء العاشر ثم نعاود تحميل الأحزاء الفائتة
<div align="center">الجزء العاشر :- الدولة الأموية</div></span>
دراسة في مصادر التاريخ الأموي
تعرَّضَ التاريخ الأموي إلى كثير من التشويه والتحريف، واتسعت هذه الظاهرة لتشمل جُلَّ مصادر التاريخ الأموي، وامتدت لتترك بصماتها على بعض كتب التفسير والحديث التي تشكل مصدرًا خصبًا من مصادر التاريخ الإسلامي في تلك الحقبة. وإذا كان الله تعالى قد قيض للحديث الشريف من يكشف صحيحه من ضعيفه وموضوعه، لما له من أهمية تشريعية خاصة فإن طبيعة علم التاريخ واتساع مجاله وتعدد عصوره وفيض رواياته قد وقفت حائلاً دون تتبع كل محاولات التحريف والكذب فيه على اتساع مصادره وتنوعها..
أدلة تحريف التاريخ الأموي:
وتتعدد الأدلة على حدوث الكذب والتحريف في كتابة التاريخ الأموي؛ فقد أثبت بعض المؤرخين القدماء ذلك وحذروا منه، رغم أنهم لم يجدوا بُدًّا من ذكر هذه الأخبار الموضوعة لشيوعها أحيانًا، ولكيلا يتهمهم أحد بجهل شيء ذكره آخرون.. أو لأنهم كانوا يعتبرون من الأمانة العلمية أن يذكر أحدهم كل ما يُروَى له، واتجه فريق آخر منهم إلى الانتقاء من هذا الركام الكبير فاختار ما صَحَّ عنده، ونبه إلى زيف كثير مما عداه..
فيقول شيخ مؤرخينا القدماء ابن جرير الطبري في مقدمة كتابه "تاريخ الرسل والملوك": "فما في كتابي هذا من خبر يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة، فليعلم أنه لم يأت ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أُدِّيَ إلينا".. ويروي أبو الفرج الأصفهاني ما يعتبره من أكاذيب بعض الرواة وينبه إليه أحيانًا فيقول:"... وهذا من أكاذيب ابن الكلبي وإنما ذكرته على ما فيه لئلا يسقط من الكتاب شيء قد رواه الناس وتداولوه"..
هذا بينما ينتقي ابن الأثير بعض الروايات ويهمل بعضها ويقول في سبب ذلك: ".. فإن الناس قد حشدوا تواريخهم بمقتضى الأهواء".. ويشن ابن العربي حملة عنيفة على أهل الأهواء من المؤرخين.. ولا يثق إلا برواية أهل الحديث الذين يتفحصون رواياتهم ويميزون بين غثها وسمينها، ويقول: "وغير ذلك هو الموت الأحمر والخطر الأكبر؛ فإنهم ينشئون أحاديث استحقار الصحابة والسلف والاستخفاف بهم، واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال عنهم.. فإذا قاطعتم أهل الباطل، واقتصرتم على رواية العدول سلمتم من هذه الحبائل"..
وقد حاول خصوم الأمويين تشويه صورتهم أثناء وجود دولتهم وبعد زوالها.. من ذلك ما رواه أبو الفرج الأصفهاني من أنه لما تزوج خالد بن يزيد بن معاوية رملة بنت الزبير بن العوام أنشد فيها أبياتًا من الشعر، فتلقف بعض خصوم الأمويين هذه الأبيات وزاد فيها:
فإن تسلمي نسلم وإن تتنصري يخط رجال بين أعينهم صلبانًا
فلما سمع عبد الملك بن مروان هذا الشعر قال لخالد: تنصرت يا خالد؟ فقال: وما ذاك؟ فأنشده هذا البيت، فقال خالد: على من قاله ومن نحلنيه لعنةُ الله..
وقد يكون الخوف من بني أمية حال أحيانًا دون التمادي في صنع الروايات ضدهم، فلما ذهبت دولتهم اتسع نطاق الكذب ضدهم، حتى أصبح الكذابون يقدِّمون قصصًا مخترعة بكاملها فقد ذكر الأصفهاني - أيضًا - أنه قد وقع فَخَارٌ بين رجل من زنادقة الشعوبية ورجل من ولد الوليد بن عبد الملك ـ وذلك في دولة بني العباس ـ خرجا فيه إلى أن أغلظ المسابة، فوضع الشعوبي عليهم كتابًا زعم فيه أن أم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك عشقت الشاعر وضاح اليمن، فكانت تدخله صندوقًا عندها، إذا خافت عليه أن ينكشف أمره، فوقف على ذلك خادم للوليد فأنهاه إليه، وأراه الصندوق فأخذه الوليد فدفنه، ودفن الشاعر فيه حيًا!!..
عوامل تحريف التاريخ الأموي:
إن تدوين العلوم لم يصبح ظاهرة واسعة مشتهرة إلا في العصر العباسي، لكن ذلك لم يحدث فجأة، وإنما سبقته مراحل طويلة كانت العلوم تُدَوَّن فيها على استحياء كعامل يساعد الذاكرة والحفظ، الذي ظل يمثل عماد الحركة العلمية الأكثر احترامًا وتقديرًا.. وقد وُجِدَتْ عدة عوامل أحاطت بذلك التدوين التاريخي في طوره التمهيدي الباكر قبل العصر العباسي، وفي طوره النشط الذي أصبح فيه ظاهرة عامة.. وبعض هذه العوامل أثَّر تأثيرًا كبيرًا على تحريف التاريخ الأموي مثل ضياع معظم النتاج التاريخي الباكر، ومن المؤكد أن كثيرًا من ذلك النتاج التاريخي كان سينصف بني أمية، وسيلقي مزيدًا من الضوء على تاريخهم، وسيعطي وجهات نظر محايدة عنهم أو مؤيدة لهم، إذا كُتِبَ معظمُه في عهدهم، وبأيدي بعض رجالهم، أو علمائهم المقربين منهم والخبيرين بهم، لقد حكمت دولة بني أمية المسلمين أكثر من تسعين سنة، وكان لهم في هذه المدة دعاة وأولياء وحواريون من مؤرخين وفقهاء ومتأدبين وشعراء، وعلى ذلك فمن البديهي أن نفترض أنه كان هناك نتاج ضخم من الكتابات لصالح بني أمية ودولتهم، ولم يأخذ حظه من العناية والتدوين، أو من النشر والإذاعة، أو تعرض عمدًا للإضاعة والإخفاء، ويذكر المسعودي ما يعزز هذا الافتراض بقوله: "ورأيت في سنة 324 هـ بمدينة طبرية من بلاد الأردن من أرض الشام عند بعض موالي بني أمية ممن ينتحل العلم والأدب، ويتحيز إلى العثمانية.. كتابًا فيه نحو من ثلاثمائة ورقة بخط مجموع مترجم بكتاب "البراهين في إمامة الأمويين.. ونشر ما طوي من فضائلهم.. أبواب مترجمة، ودلائل مفصلة"..
كما ضاعت جُلُّ الوثائق السياسية لذلك العصر بما تحمل من دلالات قوية على سير الحياة فيه من وجهة نظر حكومية أو إدارية. وقد ساعدت عدة أسباب على ضياع ذلك التاريخ:
منها نظرة العلماء آنذاك إلى الآثار المكتوبة كعامل مساعد فقط على التذكرة والحفظ، دون أن يُعَوَّل عليها بشكل أساسي في التعليم وحلقات الدرس؛ وذلك لتخوُّفهم مما يَعْرِض للكتابة من تغيير وتبديل أو نسخ وإزالة أو تحريف وتصحيف...
ومن هذه الأسباب قيام كثير من الثورات التي أكلت كثيرًا من التراث المعارض لها وسط مظاهر الغضب الجامح، بل إن كثيرًا من هذه الوثائق السياسية الخاصة بالعصر الأموي كان قد لحقها الدمار حين تعرضت بعض الدواوين التي كانت تحفظ فيها للحريق في أيام بني أمية، مثلما حدث في ديوان الكوفة الذي احترق بما كان يضمه من وثائق سنة 82 هـ إبان فتنة ابن الأشعث، ومثلما حدث لديوان الفسطاط الذي تعرَّض للحريق أيضًا في العصر الأموي.. وهكذا لم يبق من مستندات الدولة الأموية إلا ما ندر من أوراق البردي أو بعض المسكوكات التي عُثِرَ عليها أخيرًا، وبعض النصوص الوثائقية التي حفظتها لنا كتب التاريخ المتأخرة مثل ابن سعد والبلاذري والقلقشندي وغيرهم، والتي يجب تناولها بحذر شديد؛ إذ إن معظمها قد نَقَلَ من كتب متقدمة وليس من الأصول، كما أسفرت جهود العلماء حديثًا عن اكتشاف بعض قصور الخلفاء والأمراء الأمويين بالشام، مما يعطي صورة قريبة من واقع التطور المعماري والفني في العصر الأموي، واهتمام الأمويين بهذه النواحي الحضارية، ومدى ما بلغوه في هذا الشأن.. ومن المؤكد أن ضياع هذه الآثار التاريخية عن دولة الأمويين قد أساء كثيرًا إلى تاريخهم حيث انفردت الكتابات المتأخرة والتي تم معظمها في العصر العباسي بالتأثير الأكبر والدور الأعظم في رسم صورة بني أمية، ومعروف عداء العباسيين للأمويين.
ومن أسباب ذلك التشويه الذي أصاب التاريخ الأموي تأثير الحزبية السياسي على عملية تدوينه، فقد شهد العصر الأموي تكوين عدد من التجمعات الإسلامية التي ناصبت الأمويين العداء كالشيعة والخوارج والزبيريين، وبعضها نشأ متأخرًا نتيجة اجتهادات دينية وكلامية مثل المعتزلة، كما كان هناك بعض الموالي الفرس الذين اعتصموا بقوميتهم الفارسية وشكلوا جبهة مناوئة للأمويين في معظم فترات تاريخهم، وقد كان لهذه التجمعات جهود بارزة في تشويه صورة بني أمية كحلقة من حلقات العداء لهم أثناء قيام دولتهم وسيطرتها، كما أسهم بعض تلك التجمعات في تحريف تاريخ الأمويين عندما كُتِبَ ذلك التاريخ بعد ذهاب دولتهم، حيث برز كثير من المؤرخين الذين يدينون بأفكار تلك الاتجاهات المعادية للأمويين، وكان من الطبيعي أن تأتي كتاباتهم عنها متأثرة بذلك العداء.. وكان للشيعة الدور الأبرز في ذلك المجال.. حيث وضعوا الأحاديث في فضائل علي - رضي الله عنه - وبنيه، ووضعوا الأخبار الكاذبة على خصومهم الأمويين، حتى قال مؤرخهم ابن أبي الحديد:"واعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من وجهة الشيعة؛ فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلقة في صاحبهم، حملهم على وضعها عداوة الخصوم".. وكان الإمام الشعبي يقول عنهم: لو أردت أن يعطوني رقابهم عبيدًا وأن يملئوا بيتي ذهبًا على أن أكذب لهم على عليٍّ لفعلوا، ولكن ولله لا كذبت أبدًا.. وكذلك كان بعض الصادقين من آل البيت يبرءون من هؤلاء الكذابين على الملأ، ويحذرون منهم مثل: علي زين العابدين وجعفر الصادق وعمر بن علي بن الحسين..
وإذا كان ذلك الكذب كله قد تم في العصر الأموي، وفي أثناء سيطرة الأمويين، وفي الحديث الشريف والتاريخ معًا، فإنه قد ظهر منهم جماعة في العصر العباسي من كبار المؤرخين الذين ترجموا تلك العداوة المتأصلة إلى تَزَيُّدٍ في روايات التاريخ الأموي، واختلاق لبعض الأخبار التي تسيء إلى بني أمية وتشوه سيرتهم، وتلوين لأخبار ثورات الشيعة ضد بني أمية بألوان البطولة والتعاطف مع الثائرين، والاتهام والتشنيع على الأمويين، ومن هؤلاء المؤرخين البارزين: أبو مخنف لوط بن يحيى وهشام بن الكلبي، وأبوه محمد بن السائب الكلبي ثم الأصفهاني واليعقوبي والمسعودي وغيرهم..
وبرع عديد من المؤرخين الموالي ـ من المسلمين غير العرب ـ في التاريخ وروايته مثل: الواقدي والمدائني وابن إسحاق وأبي معشر السندي وأبي عبيدة والبلاذري والطبري والدينوري وغيرهم.. واحتفظ بعض هؤلاء الموالي بقوميتهم الفارسية وأحقادهم على العرب واستعلائهم عليهم، وشمل ذلك العداء الدولة الأموية التي مثلت عندهم الرفعة العربية والانتصار الإسلامي مما كان له أثره في تلوين كتاباتهم عن الأمويين بألوان التعصب والعنصرية والبغضاء.. وبرع بعض هؤلاء الموالي في تأليف كتب المثالب يجمعون فيها كل ما يشتهون من مساويء العرب وقبائلهم ورجالهم وقد ينسبون بعض هذه الكتب إلى رجال من قادة العرب أنفسهم، ليخفى غرضهم، ويشيع وضعهم ومن أبرز هؤلاء المؤرخين الموالي: أبو عبيدة معمر بن المثنى، وغيلان الشعوبي، والهيثم بن عدي... وقد ضاعت كتب المثالب فلم تصلنا، ولكن وصلتنا روايات أصحابها في كتب التاريخ.. وما أحرانا أن نقف عندها وقفة متريثة وقد عرفنا اتجاهات أصحابها ونواياهم..
وظهرت فرقة المعتزلة في الفترة الأخيرة من عمر الدولة الأموية، وكان موقف المعتزلة من الأمويين سافر العداء؛ إذ يعدونهم فاسقين وفاقدين للعدالة التي يجب توافرها في الخلفاء، وهم يعتبرون أن الفاسق في منزلة بين الإيمان والكفر - وهو ما يعبرون عنه في أحد أصولهم الخمسة بالمنزلة بين المنزلتين - وهو على ذلك في النار، إذ لا توجد في الآخرة إلا الجنة والنار..
ومعروف أن الصلة وثيقة بين التشيع والاعتزال؛ فقد تأثر المعتزلة كثيرًا ببعض آراء الشيعة، مما أدى إلى كراهية مشتركة للأمويين وتحامل عليهم.. وكان جماعة من أبرز المؤرخين والأدباء يدينون بالاعتزال، وقد ظهر ذلك واضحًا في كتاباتهم المعادية للأمويين، والتي يُخرج بعضها الأمويين عن دائرة الإسلام إلى دئرة الكفر - لا الفسوق فحسب!! - ومن أشهر هؤلاء وأشدهم عداًء للأمويين: الجاحظ، وابن أبي الحديد..
وقد مر بنا القول بأن حركة تدوين التاريخ - والعلوم عامةً - إنما نشطت وأصبحت ظاهرة عامة في العصر العباسي.. وقد كان ذلك من سوء حظ بني أمية الذين كُتِبَ تاريخهم في ظل السيطرة العباسية المعادية.. كتاريخ دولة مهزومة، يحيط بتدوين تاريخها مناخ فكري معادٍ لها، ومناخ سياسي متسلط ضدها، وقديمًا قيل: ويل للدولة المهزومة حين يكتب تاريخها المنتصرون..
على أن قوة الأمويين لم تنتهِ بانهيار دولتهم.. بل انبعث أحدهم - عبد الرحمن بن معاوية "الداخل" - عبر البحار والمفاوز ليصل إلى بلاد الأندلس، فيقيم بها دولة ظلت تنافس العباسيين وتهددهم في بعض الأحيان، وظلت ذكراهم عالقة في في نفوس بعض المسلمين الذين صدمهم الواقع بعد ذهاب دولة الأمويين، وتبخُّر الأحلام في تغيير حقيقي ورديء، حتى قال قائلهم:
يا ليت جور بني أمية عاد لنا يا ليت عدل بني العباس في النار
ونتيجة لهذا الخوف من الخطر الجاثم في الشمال الغربي الأقصى واحتمالات امتداده عبر ما تبقى من عصبية للأمويين في المشرق، مع ما يغذي هذه المخاوف من ماضٍ مؤلم من الحروب والصراع بين الأمويين وخصومهم إبان حكمهم... نتيجة هذه العوامل جاء الانتقام المريع من الأمويين على يد العباسيين وأعوانهم، وقصص هذا الانتقام تملأ صفحات من التاريخ، ورغم ما قد يكون فيها من تحيز ومبالغة وافتعال فإنها تظل حية الدلالة على مشاعر الكراهية التي حكمت سنوات من خلافة العباسيين ضد الأمويين، فقد أعمل العباسيون القتل الذريع فيمن اشتهر من رجالهم، حتى اضطر كثير منهم إلى الاختفاء عن العيون والتسمي بغير أسمائهم، والانتساب إلى غير جدودهم..
ولم يكن ذلك العداء مقصورًا على الفترة التي تلت نجاح العباسيين في إقامة دولتهم بل ظل يثور ويخبو حينًا بعد حين، حتى إننا نجد الخليفة المعتضد العباسي يصدر منشورًا سنة 284 هـ يُقرَأ على العامة يقول فيه: "اللهم العن أبا سفيان بن حرب ومعاوية ابنه ويزيد بن معاوية ومراون بن الحكم وولده، اللهم العن أئمة الكفر، وقادة الضلال، وأعداء الدين ومجاهدي الرسول ومغيري الأحكام وسفاكي الدم الحرام، اللهم إنا نبرأ إليك من موالاة أعدائك..... " إلخ..
ولما ضعف سلطان الخلفاء وذهبت قوة الخلافة في العصر العباسي الثاني، أصبحت السلطة الكاملة في يد المتغلبين من الجند، وقامت الدويلات المستقلة التي اتخذ بعضها التشيع الغالي مذهبًا، كالفاطميين والبويهيين، ولقد ظهر في ذلك العصر جماعة من أشهر المؤرخين في تاريخ الإسلام كالطبري (ت310هـ) والمسعودي (ت346هـ) وابن الأثير (ت630هـ) ولم يعد توجه الدولة السياسي صوب معاداة بني أمية؛ فقد ذهبت دولتهم وزال خطرهم، وظهرت مستجدات سياسية جديدة.. غير أن عوامل أخرى أسهمت في استمرار النظرة التاريخية المتحاملة على الأمويين:
منها استقرار الرواية التاريخية إلى حد كبير بشأن الدولة الأموية؛ فبعد مضي عقود من الزمان على ذهاب تلك الدولة كانت أجيال من الرواة لأخبارها الذين نشئوا في عصر العداء الشديد لها قد تركوا رواياتهم وكتبهم لتمثل المادة التي سيبني عليها المتأخرون من المؤرخين في العصر العباسي الثاني وما تلاه.
ومنها أنه في غياب السلطة الشرعية المؤثرة للخلافة المقهورة، وشيوع روح الخوف والبطش من الجند المتغلبين على الخلافة، علا شأن طبقة من العوام والغوغاء، تغذوها مشاعر الكراهية التي تأصلت منذ عصور سالفة ضد الأمويين، كما تغذوها اتجاهات بعض الدويلات المستقلة من التشيع والمغالاة والرفض..
كانت هذه أبرز العوامل التي أدت إلى تحريف التاريخ الأموي، وإن وُجدت عوامل أخرى مساعدة قادت إلى نفس النتيجة وإن لم تقصد إليها:
من ذلك ظهور التأثيرات الإقليمية على الكتابات التاريخية، وقد بدا ذلك عندما ظهرت مدارس تاريخية متميزة في عدد من الأمصار الإسلامية.. مثل مدرسة العراق والحجاز ومصر والشام، وقد نشطت حركة التدوين التاريخي في مدرستي العراق والحجاز، وكلا المصرين كان من المعارضين في أحيان كثيرة للأمويين؛ فتأثرت كتابات مؤرخيه بهذا العداء القديم.. ونظرة عجلى في تاريخ الطبري تثبت تغلب الروايات الحجازية والعراقية على ما سواها، والطبري شيخ لكثير ممن تلاه، وعلى ذلك جاءت معظم أخبار أحداث ثورة الحسين وغيرها من ثورات الشيعة وثورات الخوارج، ومعظم أخبار ولاة الأمويين البارزين كزياد والحجاج وخالد القسري من رواة مدرسة العراق، مما لونها بألوان العداء، كذلك جاء معظم أخبار أحداث ثورة الحَرَّة، وثورة ابن الزبير، وأخبار مجتمع الحجاز.. متأثرة برواة مدرسة الحجاز التاريخية، ومن المؤسِف ذلك الضمور الملحوظ في نشاط التدوين في مدرسة الشام آنذاك، والتي كنا نتوقع أن تجيء أكثر إنصافًا للأمويين ودولتهم..
أهم مصادر التاريخ الأموي:
فضلاً عن كتب التاريخ العام التي تمثل المصدر الأهم للتاريخ الإسلامي، فإن كتب الأدب العربي تمثل مصدرًا مهمًا من مصادر ذلك التاريخ، ويحتل تاريخ بني أمية مكانة مهمة في هذه الكتب التي لم تقصر اهتمامها على فنون الأدب المعروفة من شعر ونثر.. بل:
تطرقت إلى ذكر لمحات من التاريخ السياسي للدولة.
واهتمت بجوانب شتى من حياة الخلفاء والأمراء والقادة الذين أسهموا في تشكيل أحداث ذلك التاريخ.
كما اهتمت بالعلاقات الاجتماعية لهؤلاء الخلفاء والقادة، وصلاتهم ببعض الشعراء والأدباء الذين لعبوا دورًا بارزًا في أحداث ذلك العصر.
وصوَّرت الحياة الخُلُقية في المجتمع الإسلامي في العصر الأموي تصويرًا خاصً، يحقق غايات كتب الأدب التي تهدف أول ما تهدف إلى تقديم المتعة الفنية واللذة الأدبية للقاريء.. وعلى ذلك فإن مكانة الأدب في العصر الأموي، وحركة المجتمع وتكويناته، ورقي الأخلاق وتدنيها، وتوزيع الفقر والثروة، وتحضُّر الدولة وبداوتها، كل ذلك تسعفنا فيه كتب الأدب أكثر من غيرها..
وكتب التاريخ عادة يتداولها فريق من الناس له شغف خاص به، أو قدرة على التعامل معها، أما كتب الأدب فتشيع عند الجماهير، ويتداولها عوام الخلق ممن لا قدرة لهم على تمييز الصحيح من الزائف في أخبار هذه الكتب.. بينما تغريهم سلاسة أسلوبها وطرافة مادتها والتصاقها بالنفس، فيصدِّقون ما فيها دون نقد أو درس أو تمحيص.. وبهذا تكون في بعض جوانبها أشد خطورة وأعمق أثرًا من كتب التاريخ العام ومصادر التاريخ الأخرى..
يحتاج القارئ لكتب الأدب إلى حذر شديد وحيطة أشمل، قبل اعتماد ما ورد فيها من أخبار وروايات تخص حقائق التاريخ وأحداثه؛ فإن القصد الأول من هذه الكتب تقديم جرعات متنوعة من الثقافة العامة، بطريقة مشوِّقة، تدفع الملل عن القاريء، وتُدخل على نفسه المتعة واللذة والمؤانسة، وتستعين على ذلك بسوق الأمثال والحكم والطرائف والنوادر متخففة في ذلك من نقد مصادرها فيختلط فيها الجد بالهزل.. والحزم بالسخف، وأحاديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخبار الراشدين والصالحين بأخبار المجّان والمغنيين والساقطين وقصص الأدب المكشوف!!.. وذلك ما صرح به أصحابها، وأعلنه كتَّابها، ولكنه غاب عن ذهن بعض القارئين والدارسين في عصرنا وغيره، مثلما فعل ابن قتيبة في مقدمة كتابه "عيون الأخبار" وأبو الفرج الأصفهاني في بعض مواضع من كتابه "الأغاني" وكذلك ابن عبد ربه في مقدمة كتابه "العقد الفريد"..
وإذا كان بعض الأكابر من أدبائنا القدامى يمكن تصنيفهم ضمن المتحاملين على بني أمية.. مثل: الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وابن أبي الحديد... فإن تلك النبرة من العداء لبني أمية تخفُّ كثيرًا عند عدد آخر من الأدباء.. حتى نراهم يفسحون في كتاباتهم بعض الشيء للروايات المعتدلة عن الأمويين.. أو يقل نشاطهم في جمع المادة عن الأمويين وتاريخهم، ضمن المواد الثقافية المتعددة التي تزخر بها كتبهم مثل: ابن قتيبة وابن عبد ربه..
ومن المعروف مدى الفائدة الكبيرة التي تقدمها الدراسات الإسلامية من تفسير وحديث وفقه وغيره للتاريخ الإسلامي، وبخاصة في هذه الفترة المبكرة منه في عصر الراشدين والأمويين، وقد وجدنا ذلك عند بحث أحوال رواة التاريخ الأموي، والاستئناس بأقوال علماء الحديث والجرح والتعديل عنهم، كما سوف نجد هذه المعونة الدائمة في عديد من مواطن البحث التاريخي عن الأمويين، غير أن علماءنا وفقهاءنا لم يقصروا جهودهم على هذا الجانب من الدراسات، بل كان لبعضهم جهود تاريخية أصيلة، وكتب اهتمت كلها أو بعضها ببحث فترات التاريخ... فجاء إسهام بعضهم في شكل تاريخ متصل للدولة الإسلامية حتى عصره كما فعل ابن كثير في البداية والنهاية، وابن خلدون في كتابه "العبر" كما تناول بعض مباحث التاريخ الأموي في "مقدمته".. وجاء معظم إسهام الآخرين على شكل مسائل متفرقة في التاريخ ضمن مباحث كتبهم، فقد كتب ابن حزم الأندلسي (ت454هـ) عن المفاضلة بين الصحابة ضمن كتابه "الفِصَل بين الملل والأهواء والنحل"، وكتب ابن العربي (ت543هـ) "العواصم من القواصم" على صورة شبهات حول تاريخ صدر الإسلام والدولة الأموية والرد عليها، وكتب ابن تيمية (ت728هـ) عن بعض أحداث التاريخ الأموي ضمن ردوده على أحد المعتزلة الروافض في كتابه "منهاج السنة النبوية"..
ولا شك أن الذي دفع بهؤلاء الفقهاء إلى كتابة هذه المباحث التاريخية التي اتجه معظمها إلى نواحٍ معينة في تاريخ صدر الإسلام والدولة الأموية هو ما لها من أهمية دينية، إذ تخص حياة الجيل الأول من رجالات الإسلام من الصحابة والتابعين، وهم موضع القدوة ومناط الأسوة للمسلمين، وعلى ذلك فقد اتجه اهتمام هؤلاء الفقهاء إلى بحث هذه الشبهات التي أثارتها بعض الفرق الإسلامية وعلى رأسها الرافضة والمعتزلة، فبحثوا أسباب اختلاف الصحابة أثناء الفتنة الكبرى بعد مقتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ وما أدت إليه من أحداث كان أهمها قيام الدولة الأموية.. كما بحثوا مكانة عدد من رجال ذلك العهد مثل: معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، ومروان بن الحكم وابنه عبد الملك وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، غير أن روح الإنصاف عندهم تجلت على نحو خاص عند بحث بعض المسائل التي كانت موضع طعن على الأمويين مثل: ولاية العهد، ومقتل الحسين، ومهاجمة المدينة المنورة أيام يزيد بن معاوية، واقتحام مكة أثناء فتنة ابن الزبير وغيرها...
وأهم ما يلاحظ على بحوث الفقهاء التاريخية السابقة هو شيوع روح الإنصاف للأمويين على نحو ملحوظ، وقد كان ذلك لعدة أسباب ترجع في مجملها إلى سببين رئيسين هما:
التحرر من الحزبية السياسية والأهواء المنهجية؛ لما امتازوا به من شدة في الحق، والتزام بالوسطية الإسلامية..
إلى جانب تأثير منهج علم الحديث على الجهد التاريخي لهؤلاء الفقهاء.. ذلك التأثير المتمثل في رفضهم روايات أهل البدع والأهواء من الرافضة والموالي والخوارج وغيرهم.. واعتمادهم كتب الحديث والفقه كمصدر تاريخي موثوق، وفيما مارسوه من النقد الداخلي للروايات التاريخية..
أما كتابات المؤرخين المعاصرين فقد تأثرت بالروايات الشائعة المستقرة التي أمدتهم بها مصادرنا التاريخية القديمة عن الأمويين، والتي تتصف بالتحامل عليهم، فرددها كثير من مؤرخينا دون تمحيص ودراسة كافيين.. وفضلاً عن ذلك فقد أسهمت دراسات كثير من المستشرقين في زيادة التحامل على الأمويين متأثرة في ذلك بما حمله الاستشراق من رؤى غربية قد لا تتفهم على نحو جيد طبيعة الإسلام وتاريخه وأهله، ومتأثرة أيضًا بارتباط أغلب أو كل المستشرقين بالاستعمار الغربي والتبشير النصراني.. مما قادهم إلى تشويه التاريخ الإسلامي جملةً لأغراض لا شأن لها بالنزاهة العلمية والمنهج الموضوعي.. وقد تأثرت طائفة من كبار مؤرخينا العرب والمسلمين بهذه المناهج والرؤى الاستشراقية، مما أدى بهم إلى ذات السبيل التي سار فيها أيضًا ثلة من مفكرينا وأدبائنا من غير المتخصصين في الدراسات التاريخية..
بينما وُجدت جماعة أخرى من المؤرخين والمفكرين - قليل عددهم - أنصفوا الأمويين متخذين من الحذر من روايات القدماء ومناقشة شبهاتهم وإبراز مآثر الأمويين ركائز لذلك الإنصاف..
<div align="center">
<span style="color:#3333FF">~~~~~~
يتبع
~~~~~~</div>
__________________
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت *** أن السعــادة فـيها تـرك ما فيهـا لا دار للمرء بعد المــوت يسكنهـا *** الا التــي كان قبل المـوت بانيها فـإن بنـــاها بخيـر طـاب مسكنـــه *** وإن بناهــــا بشـر خـاب بانيهـــا أمـــوالنا لذوي الميراث نجمـعــها *** وبيـوتـنـا لخــراب الدهر نبنيــهـا
|