رابعاً : الصيام
قال تعالى في سورة البقرة : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة183
قبل البحث عن الصيام من الوجهة الطبية ، يجب أن نشير إلى ناحية هامة ، وهي أن الصيام في القرآن عبادة يجب الامتثال بها لأمر الخالق العظيم ، ولا يجوز تعليقها بما يكشفه لنا العلم ، فمجال العلم ، مهما ارتقى محدود ، ولا يمكن له أن يستوعب كامل حكمة الله ، في كل ما يروض عليه الكائن البشري ، أو كل ما يروض به هذا الكون بشكل عام . ولكن هذا لا يمنع من التحدث عما تكشف عنه الملاحظة أو يكشف عنه العلم من فوائد للتوجيهات الإلهية .
- الصوم نظام حياتي غذائي دوري ، يلتزم به الإنسان المؤمن شهراً في كل عام ، وله تأثيره العميق على نفسيته وجسمه ، وهو تدبير وقائي ، كما هو إجراء علاجي لكثير من الحالات المرضية ، ولعل الجهاز الهضمي أكثر الأجهزة تأثراً بهذا النظام .
يغدو الجهاز الهضمي أكثر الأجهزة عملاً وتحملاً لأعباء الهضم الكبيرة ، فإذا أمكن أن نريح أعضاء الجسم كافة والجهاز الهضمي خاصة ، بنظام ثابت ، طيلة شهر كامل ، لحصلنا بذلك على فوائد عديدة لا يمكن إنكارها ومنها :
1 – تخليص البدن من شحومه المتراكمة التي تشكل عبئاً ثقيلاً عليه ، والتي تغدو مرضاً صعباً عندما تزداد ، ذلك المرض هو داء السمنة . فالجوع هو أحسن الوسائل الغريزية المجدية في معالجة السمنة وإذابة الشحوم المتراكمة وتصحيح استقلاب الدسم بالبدن ككل ، كما تقي الإنسان من مضار الأدوية المخففة للشهية أو الهرمونات المختلفة ، التي قد يلجأ لها لمعالجة بدانته .
2 – طرح الفضلات والسموم المتراكمة .
3 – إتاحة الفرصة لخلايا الجسم وغدده لأن تقوم بوظائفها على الوجه الأكمل وخاصة ، المعدة والكبد والأمعاء .
4 – إراحة الكليتين والجهاز البولي بعض الوقت من طرح الفضلات المستمر
5 – تخفيف وارد الدسم على الشرايين ، والوقاية من إصابتها بالتصلب .
6 – الجوع يولد في الجسم رد فعل بعد الصيام ، يتجلى برغبة في الطعام ، وبشعور بالنشاط والحيوية ، بعد أن اعتاد على تناول الطعام بشكل ممل .
الصوم ، إذا أُحسن الالتزام بآدابه التي سَنَّها لنا الرسول e ، يمثل أرقى أشكال المعالجة بالجوع ، هذا الشكل من المعالجة التي بدأت أوروبا مع بداية نهضتها بالاهتمام به في معالجة بعض الأمراض ، فكتب الطبيب السويسري بارسيلوس يقول : (( إن فائدة الجوع في العلاج قد تفوق بمرات استخدام الأدوية )) . أما الدكتور هيلبا فكان يمنع مرضاه من الطعام لبضعة أيام ، ثم يقدم لهم بعدها وجبات غذائية خفيفة . وآلية تأثير الصيام ، تعتمد على ما يمتلكه الجسم من قدرة على التأقلم مع مختلف الظروف ، التي لا تتوفر فيها الأسباب الضرورية للحياة بشكل كافٍ ، كنقص الغذاء والماء ، حيث يضطر البدن لأن يعيش على حساب ما ادخره من مواد للحصول على طاقته ولبناء أنسجته ، وفي هذه الظروف يختلف نمط الاستقلاب عنه في الحالة العادية ، حيث يجري صرف الأغذية وفقاً لقواعد اقتصادية صارمة ، ثم يأخذ بحل أنسجته الداخلية وفقاً لأهميتها ، فيبدأ بما يدخره من السكاكر ، ثم بالنسيج الشحمي ، ثم بالنسيج البروتيني الكهل .... إذاً فتعتمد المعالجة بالصوم على هدم الأنسجة المتداعية وقت الجوع ، ثم إعادة ترميمها من جديد عند العودة لتناول الطعام ، ولعل هذا هو السبب الذي دعا بعض العلماء ومنهم باشوتين ، لأن يعتبروا أن للصوم تأثيراً معيداً للشباب . ومن ناحية أخرى فللصوم انعكاسات نفسية حميدة على الصائم ، يتجلى ذلك ، برقة المشاعر ، ونبل العواطف ، وحب الخير ، والابتعاد عن الجدل والمشاكسة ، والميول العدوانية ، ويحس الصائم بسمو روحه وأفكاره ، وصدق الرسول e ، إذ يقول عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : (( الصِّيامُ جُنَّةٌ )) صحيح([1]) ، عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : (( إذا أصبح أحدكم صائماً فلا يرفث ، ولا يجهل ، فإن امرؤٌ شاتمهُ أو قاتلهُ فليقل : إني صائم ، إني صائم )) صحيح([2])
وبشكل عام فقد ثبت تأثير الصيام الجيد على الكثير من الأمراض وأهمها :
1 – أمراض جهاز الهضم : كما في التهاب المعدة الحاد حيث إن أساس المعالجة فيه هو الصيام لمدة 24 ساعة ، كما يفيد الصيام في تهيج الكولون ، وأمراض الكبد ، وسوء الهضم .
2 – البدانة .
3 – تصلب الشرايين ، وارتفاع ضغط الدم ، وخناق الصدر .
4 – التهاب الكلية المزمن الحابس للصوديوم ، أو المسبب للوذمة .
5 – الربو القصبي .
6 – الاضطرابات النفسية والعاطفية .
وقبل أن نختم البحث يجب التنبيه إلى نقطتين هامتين :
أولاً : قد يسبب الصيام ضرراً بالنسبة لبعض الفئات من الناس ، أو الذين لا يستطيعون تحمله ، أو يؤثر سلباً على بعض الأمراض ، وهنا يفضل عدم الصوم إذا ثبت الضرر ، والإفطار في تلك الحالات رخصة منحها الله لأولئك الناس ، حيث قال في سورة البقرة : فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
ثانياً : لكي نحصل على فائدة الصيام المثلى ، يجب الالتزام الصحيح بآدابه التي منها : تأخير السحور ، وتعجيل الفطور ، وعدم الإسراف في الطعام كماً وكيفاً ، فلا يجوز التهام كميات كبيرة من الطعام ، كما لا يجوز الإسراف في تنويع الأطعمة ، وللأسف ، فإن واقع الناس اليوم بالنسبة للصيام كواقعهم بالنسبة لمعظم العبادات هو اهتمام بالأسماء والمظاهر ، وإهمال لروح تلك العبادات . فأصبح الإسراف في الطعام كماً وكيفاً في رمضان ، هو من لوازم رمضان ، بل هو من بركة رمضان ، وهكذا فإهمال هذه الآداب جعل من رمضان ، شهر التخمة والبطنة والتنعم ، بعد أن كان بالنسبة لأجدادنا ، شهر الصبر والتقشف والإيمان والجهاد ، تم فيه – ما يمكن أن نسميه من بركة رمضان حقاً – التفريق بين الحق والباطل في معركة بدر الكبرى ، وعلا فيه مجد الإسلام بفتح مكة المكرمة ، وتمت فيه وقعتا اليرموك والقادسية ، وتغير فيه وجه التاريخ بانتصار المسلمين على التتار في موقعة عين جالوت ، كما اندحر فيه الصليبيون على يد البطل صلاح الدين في معركة حطين .
__________________
اطلبوا العلم، فإن عجزتم فأحبوا أهله، فإن لم تحبوهم فلاتبغضوهم هيا بنا نتعلم الديمقراطية <!-- Facebook Badge START --><!-- Facebook Badge END -->
|