عرض مشاركة واحدة
  #142  
قديم 01-10-2010, 09:30 PM
الصورة الرمزية سماح الشعراوى
سماح الشعراوى سماح الشعراوى غير متواجد حالياً
عضو قدوة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 1,290
معدل تقييم المستوى: 17
سماح الشعراوى is on a distinguished road
افتراضي

>> علي باكثير >>

من رواية: سيرة شُجاع.




" وأشرق فجر اليوم الرابع فهب الناس في القاهرة وفي الفسطاط على سماع اصوات الصائحين ، وبأيديهم الطبول يدورون في كل حي وكل زقاق ، وقد اختلطت اصواتهم ودقات طبولهم بأصوات المؤذنين لصلاة الفجر وهم يرددون :
بيان للناس في كل مكان .
بأمر أمير المؤمنين العاضد لدين الله .
" شاور " المخدوع قد عزل .
وتقلّد الوزارة أبو الأشبال ضرغام .
الأمان مستتب في كل مكان .
ادعوا لمولانا العاضد بالنصر والتأييد .
العمر المديد السعيد !!!

وطفق أهل القاهرة يعلنون الفرح والاستبشار ، وانطلقت حناجر النساء ترسل الزغاريد ، واستعد كثير من وجهائهم وأعيانهم للسعي إلى دار الوزراء ليرفعوا تهنئتهم إلى الوزير الجديد ثم إلى القصر الشرقي ليعربوا عن ولائهم وإخلاصهم للعرش والجالس عليه .
وكأي من شاعر أخذ يقدح زناد فكره ، وطفق يتصفح أبواب المديح والتهنئة من دواوين الشعراء القدامى ، يحرك بها قريحته ، ويلتمس الوزن الذي يروقه أو القافية التي يستحسنها لينظم قصيدته الجديدة على المنوال الذي يرتضيه ، وهو يمني نفسه بصلة من الخليفة أو منحة من الوزير ، وإن كان لا يُخفي جزعه من أن يكون جزاءه على مديحه الخيبة والحرمان . فقد تغيّر الزمان ، وذهب الملوك والأمراء الذين يهتزون لكريم القول ويجزون عليه ، على أن حسبه - إذا لم يُجز عن شعره - أن يغيظ حساده ومنافسيه من الشعراء ، فما ينبغي أن يتفوق أحدهم عليه ، فيذهب بفخر هذا اليوم المجيد دونه .
هَبّ الجميع هكذا يعلنون الفرح والاستبشار لا عن حب للوزير الجديد أو إيثار له على سلفه الذي غرب نجمه ، ولا عن ولاء للخليفة أو إخلاص له ، ولكن بعضهم يفعلون ذلك جريا على العادة المتبعة في مثل هذه الأحوال من حيث لا يشعرون ، وأكثرهم يقومون بذلك خشية أن يعرف عنهم أنهم من المعادين لصاحب العرش أو الضائقين بأسرته الحاكمة أو المناصبين لمذهبها الاسماعيلي الذي لم يستطع بعد مضي قرنين من الزمان أن يزحزح المذهب السني الذي يتمسك به أهل البلاد عن بصيرة وإيمان .
وليس بوسع هؤلاء الذين يقيمون بقاهرة المعزّ أن يجاهروا بكراهيتهم للعاضد وأسرته ومذهبه ، ماضين في ذلك على سنة آبائهم وأجدادهم الذين كانوا يؤثرون السلامة بمجاملة هذه الأسرة ومداراتها أن يبطش بهم او تتعرض مصالحهم للسوء ، ولا سيما في عهود الأقوياء من خلفائها السالفين الذين كانوا لا يتوانون عن القضاء على من يرتابون في إخلاصه لبيتهم أو يؤنسون لديه أي مناهضة لمذهبهم في السلا بله العلانية .
فكان أحدهم إذا ضاق ذرعا بهذه الحال . ولم يستطع بعد صبرا عليها . انتحل عذرا من الأعذار ، يترك به القاهرة وينتقل بأهله إلى الفسطاط مأزر السنة وملاذها العتيد وحصنها المنيع حيث يستطيع أن يستروح شيئا من نسيم الحرية . وإن كان لا يأمن فيها أيضا أن تمتد إليه يد البطش والاضطهاد ، إذا لم يقصد في إعلان عداوته للبيت الحاكم وسخطه عليه "
__________________
(الحمد لله رب العالمين)