غزوة بدر الكبرى
وهي أول معركة فاصلة بين قريش والمسلمين ، وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالمرصاد للعير التي فاتته إلى الشام حينما خرج إلى ذي العشيرة ، وأرسل لها رجلين إلى الحوراء من أرض الشام ليأتيا بخبرها ، فلما مرت بهما العير أسرعا إلى المدينة ، فندب لها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين ، ولم يعزم عليهم الخروج ، فانتدب 313 رجلاً – وقيل 314 وقيل 317 – أو 83 أو 86 من المهاجرين و 61 من الأوس ، و170 من الخزرج ، ولم يتخذ هؤلاء أهبتهم الكاملة ، فلم يكن معهم إلا فرسان وسبعون بعيراً فقط .
وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء أبيض دفعه لمصعب بن عمير ، وكان للمهاجرين علم يحمله علي بن أبي طالب ، وللأنصار علم يحمله سعد بن معاذ ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، ثم أرسل مكانه من الروحاء أبا لبابة بن عبد المنذر .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يريد بدراً وهو موضع على بعد 155 كيلو متراً جنوب غربي المدينة تحيط به جبال شواهق من كل جانب ، وليس فيه إلا ثلاثة منافذ ، منفذ في الجنوب ، وهو العدوة القصوى ، ومنفذ في الشمال وهو العدوة الدنيا ، ومنفذ في الشرق قريباً من منفذ الشمال يدخل منه أهل المدينة ، وكان طريق القوافل الرئيسي بين مكة والشام يمر من داخل هذا المحيط ، وكان فيه المساكن والآبار والنخيل فكانت تنـزل القوافل ، وتقيم فيه ساعات وأياماً ، فكان من السهل جداً أن يسد المسلمون هذه المنافذ بعد ما تنـزل العير في هذا المحيط ، فتضطر إلى الإستسلام ، ولكن من لوازم هذا التدبير أن لا يشعر أهل العير بخروج المسلمين إطلاقاً ، حتى ينـزلوا ببدر على غرة ، ولذلك سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما سلك طريقاً آخر غير طريق بدر ثم تأنى في التقدم إلى جهة بدر .
أما العير فكان قوامها ألف بعير موقرة بأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ، وكان رئيسها أبا سفيان ومعه نحو أربعين رجلاً فقط ، وكان أبو سفيان في غاية التيقظ والحذر ، يسأل كل غاد ورائح عن تحركات المسلمين ، حتى علم بخروج المسلمين من المدينة ، وهو على بعد غير قليل من بدر ، فحول اتجاه العير إلى الغرب ليسلك طريق الساحل ، ويترك طريق بدر إطلاقاً ، واستأجر رجلاً يخبر أهل مكة بخروج المسلمين بأسرع ما يمكن ، فلما بلغهم النذير استعدوا سراعاً وأوعبوا في الخروج ، فلم يتخلف من كبرائهم إلا أبو لهب وحشدوا من حولهم من القبائل ولم يتخلف من بطون قريش إلا بني عدي .
ولما وصل هذا الجيش إلى الجحفة بلغتهم رسالة أبي سفيان يخبرهم بنجاته ويطلب منهم العودة إلى مكة وهم الناس بالرجوع ولكن أبى ذلك أبو جهل استكباراً ونخوة ، فلم يرجع إلا بنو زهرة ، أشار عليهم بذلك حليفهم ورئيسهم الأخنس بن شريق الثقفي ، وكانوا ثلاثمائة ، أما البقية ، وهم ألف ، فواصلوا سيرهم حتى نزلوا قريباً من العدوى القصوى ، خارج بدر ، في ميدان فسيح ، وراء الجبال المحيطة ببدر .
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد علم بخروج أهل مكة ، وهو في الطريق ، فاستشار المسلمين ، فقام أبو بكر فتكلم وأحسن ، ثم قام عمر فتكلم وأحسن ، ثم قام المقداد فقال : والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) ولكن نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك ، فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسر بذلك .
ثم قال : أشيروا علي أيها المسلمون فقام سعد بن معاذ رئيس الأنصار وقال : كأنك تعرض بنا يا رسول الله فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً . إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء ، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله ، وقال فيما قال : والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لتبعناك فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم .
ثم تقدم إلى بدر فوصلها في نفس الليلة التي وصل فيها المشركون فنـزل في داخل ميدان بدر قريباً من العدوة الدنيا ، فأشار عليه الحباب بن المنذر أن يتقدم فينـزل على أقرب ماء من العدو حتى يصنع المسلمون حياضاً يجمعون فيها الماء لأنفسهم ، ويغورون الآبار فيبقى العدو ولا ماء له ، ففعل .
وبنى المسلمون عريشاً يكون مقر قيادته صلى الله عليه وسلم وعينوا له حراساً من شباب الأنصار تحت قيادة سعد بن معاذ .
ثم عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش وتجول في ميدان القتال وهو يشير بيده ويقول : ( هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان، غداً إن شاء الله ) . ثم بات يصلي إلى جذع شجرة ، وبات المسلمون مستريحين تغمرهم الثقة ، وكان الله قد أنزل المطر كما قال : ( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينـزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) .
وفي الصباح وهو صباح يوم الجمعة 17 من شهر رمضان سنة 2 ه تراآى الجمعان ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم هذه قريش ، قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم احنهم الغداة ) . ثم عدل الصفوف ، وأمرهم أن لا يبدؤوا بالقتال حتى يأتيهم أمره . وقال : إذا أكثبوكم – أي اقتربوا منكم – فارموهم ، واستبقوا نبلكم ، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم ، . ثم رجع إلى العريش ومعه أبو بكر رضي الله عنه فابتهل إلى الله سبحانه وتعالى ودعاه ،وناشده حتى قال : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد أبداً . اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً ) وبالغ في التضرع والإبتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فرده عليه الصديق وقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك .
أما المشركون فاستفتح منهم أبو جهل فقال :" اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرفه فاحنه الغداة ، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم .
المبارزة والقتال :
ثم تقدم ثلاثة من خيرة فرسان المشركين : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ، وبارزوا المسلمين فخرج ثلاثة من شباب الأنصار ، فقال المشركون : نريد بني عمنا ، فخرج عبيدة بن الحارث ، وحمزة ، وعلي فقتل حمزة شيبة وقتل علي الوليد واختلفت ضربتان بين عبيدة وعتبة وأثخن كل واحد منهما الآخر ، ثم كر علي وحمزة على عتبة فقتلاه ، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله ، فمات بعد أربعة أو خمسة أيام بالصفراء راجعاً إلى المدينة .
واستاء المشركون بنتيجة المبارزة ، واستشاطوا غضباً ، فهجموا على صفوف المسلمين بعنف ، وشدوا عليهم شدة رجل واحد ، والمسلمون ثابتون في أماكنهم يدافعون عن أنفسهم ، ويقولون أحد . أحد .
وأغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة ، ثم رفع رأسه وقال : أبشر أبا بكر . أتاك نصر الله ، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده ، على ثناياه النقع – أي على أطرافه الغبار – وكان الله قد أمد المسلمين يومئذ بألف من الملائكة مردفين .
ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدروع ويتلو قوله تعالى : ( سيهزم الجمع ويولون الدبر ) وأخذ حفنة من الحصباء ورمى بها وجوه المشركين ، وهو يقول : شاهت الوجوه . فما من مشرك إلا وأصاب عينيه ومنخريه من تلك الحفنة ، وعن ذلك يقول الله تعالى : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) .
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالهجوم على المشركين ، وقال : شدوا . وحرضهم على القتال ، فشد المسلمون وهم على نشاطهم ، وقد زادهم تحمساً وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين أظهرهم يقاتل قدامهم ، فأخذوا يقلبون الصفوف ، ويقطعون الأعناق ، ونصرهم الملائكة فكانوا يضربون فوق أعناق المشركين ، ويضربون منهم كل بنان ، فكان يندر رأس الرجل لا يدري من ضربه ، وتندر يد الرجل لا يدرى من قطعها ، حتى نزلت الهزيمة بالمشركين فلاذوا بالفرار ، وأخذ المسلمون يطاردونهم فيقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً .
وكان إبليس قد حضر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم تأييداً للمشركين ، وتحريضاً لهم على قتال المسلمين ، فلما رأى الملائكة وما يفعلون نكص على عقبيه وفر إلى البحر الأحمر وألقى نفسه فيه .
مقتل أبي جهل :
وكان أبو جهل في عصابة جعلت سيوفها ورماحها حوله مثل السياج ، وكان في صفوف المسلمين حول عبد الرحمن بن عوف شابان من الأنصار لم يأمن عبد الرحمن مكانهما ، إذ قال له أحدهما سراً من صاحبه : يا عم أرني أبا جهل قال : وما تصنع به ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ، وقال الآخر : مثل ذلك ، فلما تصدعت الصفوف رآه عبد الرحمن يتجول فأراهما فابتدراه بالسيف حتى قتلاه . ضرب أحدهما ساقه فطاحت رجله كما تطير النوى حين تدق ، وأثخنه الآخر حتى تركه وبه رمق ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال كل منهما : أنا قتلته فنظر إلى السيفين وقال : كلاكما قتله ، وهما معاذ ومعوذ ابنا عفراء ، وقد استشهد معوذ في نفس الغزوة ، وبقي معاذ إلى زمن عثمان ،وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلب أبي جهل .
وبعد انتهاء المعركة خرج الناس في طلبه ، فوجده عبد الله بن مسعود وبه رمق ، فوضع رجله على عنقه وأخذ بلحيته ليحتز رأسه وقال : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : وبماذا أخزاني ؟ هل فوق رجل قتلتموه ؟ فلو غير أكار قتلني ، ثم قال : أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ قال لله ولرسوله ، قال أبو جهل : لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم ! وقطع عبد الله بن مسعود رأسه ثم جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ، الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، وقال : هذا فرعون هذه الأمة .
يوم الفرقان :
كانت هذه المعركة معركة بين الكفر والإيمان ، قاتل فيها الرجل عمه وأباه ، وابنه وأخاه ، وخاله وأدناه ، قتل فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاله العاص بن هشام ، وواجه فيها أبو بكر ابنه عبد الرحمن ، وأسر فيها المسلمون العباس ، وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا انقطعت فيها صلة القرابة وأعلى الله فيها كلمة الإيمان على كلمة الكفر ، وفرق بين الحق والباطل ، فسمى ذلك اليوم بيوم الفرقان ، وهو يوم بدر ، اليوم السابع عشر من شهر رمضان .
قتلى الفريقين :
قتل في هذه المعركة أربعة عشر رجلاً من المسلمين ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ، ودفنوا في ساحة بدر ومقابرهم لا تزال معروفة .
أما المشركون فقتل منهم سبعون ، وأسر سبعون ، ومعظمهم كانوا من الصناديد ، وقد سحبت جثث أربع وعشرين من صناديدهم وقذفت في قليب – بئر – خبيث مخبث في بدر .
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر ثلاثة أيام ، فلما استعد للرجوع جاء القليب وقام على شفته ، وناداهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : يا فلان بن فلان ! ويا فلان بن فلان ! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ؟ فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟
فقال له عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها . قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم . ولكن لا يجيبون .
خبر المعركة في مكة والمدينة :
وصل نبأ الهزيمة إلى مكة بفلول المشركين ، فكبتهم الله وأخزاهم ، حتى نهوا عن النياحة على القتلى ، كيلا يشمت بهم المسلمون ، وكان الأسود بن المطلب قتل له ثلاثة بنين ، فكان يحب أن ينوح ، فسمع ليلاً صوت نائحة ، فظن الإذن ، وبعث غلامه ، فجاء وأ خبر أنها تبكي على بعير أضلته ، فلم يتمالك أن قال :
أتبكـي أن يضـل لهـا بعيـر ويمنعهـا من النـوم السهـود
فلا تبكـي على بكـر ولكـن على بـدر تقاصـرت الجـدود
وذلك في أبيات ندب فيها أبناءه :
أما أهل المدينة فقد أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرين : عبد الله بن رواحة إلى العالية ، وزيد بن حارثة إلى السافلة ، وكان اليهود قد أرجفوا في المدينة بدعايات كاذبة ، فلما وصل نبأ الفتح عمت الفرحة والسرور ، واهتزت المدينة تهليلاً وتكبيراً ، وتقدم رؤوس المسلمين إلى طريق بدر يهنئون رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة :
وتقدم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة متوجاً بنصر الله ، ومعه الغنائم والأسارى ، فلما وصل قريباً من الصفراء نزل حكم الغنيمة ، فأخذ منها الخمس ، وقسمها سوياً بين الغزاة ، فلما حل بالصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث ، فضرب عنقه علي بن أبي طالب ، ولما حل بعرق الظبية أمر بقتل عقبة بن أبي معيط ، فقتله عاصم بن ثابت الأنصاري ، وقيل علي بن أبي طالب ،
أما رؤوس المسلمين الذين خرجوا لتهنئته فلقوه صلى الله عليه وسلم بالروحاء ثم رافقوه يشيعونه إلى المدينة ، فدخل فيها مظفراً منصوراً قد خافه كل عدو ، وأسلم بشر كثير وتظاهر عبد الله بن أبي وزملاؤه بالإسلام .
قضية الأسارى :
ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار في الأسارى ، فأشار أبو بكر بأخذ الفدية منهم
وأشار عمر بقتلهم ، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الفدية ، وكانت من أربعة إلى ثلاثة آلاف إلى ألف درهم ، ومن كان منهم يقرأ ويكتب فجعل فديته أن يعلم عشرة غلمان من المسلمين ، وأحسن إلى بعض الأسارى فأطلقهم بغير فدية .
وبعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء زوجها أبي العاص بمال فيه قلادة لها ، كانت عند خديخة فأدخلتها بها على أبي العاص ، فلما رأها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة ، فاستأذن الصحابة في إطلاقه بغير فدية ، ففعلوا ، فأطلقه بعد أن اشترط عليه أن يخلي سبيل زينب ، فخلاها فهاجرت إلى المدينة .
وفاة ابنته صلى الله عليه وسلم رقية وزواج ابنته أم كلثوم بعثمان :
وكانت رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم مريضة حين خرج لغزوة بدر ، وكانت تحت عثمان بن عفان رضي الله عنه فأمره أن يتخلف عليها ليمرضها ، وله أجر من حضر بدراً ونصيبه ، وخلف عليها أيضاً أسامة بن زيد ، فتوفيت قبل رجوعه صلى الله عليه وسلم قال أسامة : أتانا الخبر – أي بشارة الفتح – حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة واطمأن بها زوج عثمان بن عفان رضي الله عنه ابنته الأخرى : أم كلثوم ، فلذلك سمى عثمان رضي الله عنه بذي النورين ، وقد بقيت معه حتى توفيت في شعبان سنة تسع من الهجرة ، ودفنت بالبقيع .
ساء المشركون ومن معهم ما أكرم الله به على المسلمين من النصر والفتح ، فأخذوا يدبرون مكائد يضرون بها المسلمين ، وينتقمون منهم ، ولكن الله رد كيدهم في نحورهم وأيد المؤمنين بفضله .
تحشد بنو سليم لغزو المدينة بعد أسبوع من رجوع المسلمين من غزوة بدر ، أو في المحرم سنة 3 ه فدهمهم المسلمون في منازلهم ، وأصابوا غنائم ، ورجعوا إلى المدينة سالمين ، ثم تآمر عمير بن وهب الجمحي وصفوان بن أمية على اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وجاء عمير لذلك إلى المدينة ، فألقى عليه القبض وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما تآمر عليه فأسلم .
غزوة بني قينقاع :
ثم كاشف يهود بني قينقاع بالشر والعداوة ، فنصحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال ، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الجواب ، فازدادت جرأتهم ، حتى أثاروا في سوقهم فتنة قتل فيها رجل من المسلمين ورجل من اليهود ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت للنصف من شوال سنة 2 ه ، واستسلموا بعد خمسة عشر يوماً لهلال ذي القعدة ، فأجلاهم إلى أذرعات الشام ، حيث مات أكثرهم بعد قليل .
غزوة السويق :
ونذر أبو سفيان بعد غزوة بدر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً صلى الله عليه وسلم فخرج في مائتي راكب ، وأغار بالعريض في ناحية المدينة ، فقطعوا أسواراً من النخيل ، وأحرقوها ، وقتلوا رجلين وفروا .
وأتى الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فطارهم ، ولكنهم أفلتوا ، وطرحوا أثناء فرارهم كثيراً من السويق والأزواد ليتخففوا ، وبلغ المسلمون في مطاردتهم إلى قرقرة الكدر ، ولكنهم فاتوا ، وحمل المسلمون السويق ، فسميت بغزوة السويق وبغزوة قرقرة الكدر .
قتل كعب بن الأشرف :
كان كعب من أثرياء اليهود وشعرائهم ومن أشد أعداء المسلمين فكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ويشبب بنسائهم ، ويمدح أعداءهم ويحرضهم عليهم ، ونزل بعد بدر على قريش ، فأغراهم على حرب المسلمين ، وأنشد لهم في ذلك أبياتاً ، وقال : أنتم أهدى منهم سبيلاً ، ولم يعتبر بما حل ببني قينقاع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف ؟ فانتدب له محمد بن مسلمة وعبادبن بشروأبو نائلةوالحارث بن أوس وأبو عبس بن جبر ، وأميرهم محمد بن مسلمة ، وقد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول شيئاً .
ثم أتى كعباً وقال : إن هذا الرجل – إشارة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم قد سألنا صدقة ، وإنه قد عنانا ، أي أوقعنا في المشقة والعناء .
فاستبشر كعب وقال : والله لتملنه ، فاستقرضه محمد بن مسلمة طعاماً أو تمراً ، واتفق معه على أنه يرهنه السلاح .
وجاءه أبو نائلة فتحاور معه بمثل حوار محمد بن مسلمة ، وقال : إن معي أصحاباً على مثل رأيي أريد أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن إليهم فقبل ذلك منه .
وفي الليلة الرابعة عشرة من شهر ربيع الأول سنة 3 ه جاءه المذكورون ومعهم السلاح ، فنادوه فقام لينـزل ، وكان في حصنه ، وكان حديث عهد بعرس ، فقالت له زوجته : أين تخرج هذه الساعة ؟ أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم ، فلم يبال بقولها، ولما نزل ورأى السلاح لم يستنكر، لما سبق بينهم وبينه من العهد .
وأخذوا يمشون ليتنـزهوا ، ومدح أبو نائلة رائحة عطره ، واستأذنه ليشم رأسه . فأذن له في زهو وخيلاء ، فشمه وأدخل فيه يده وأشم أصحابه ، ثم استأذنه ثانياً وفعل مثل ما فعل ، ثم ثالثاً أيضاً ، فلما استمكن من رأسه في المرة الثالثة قال : دونكم عدو الله فاختلفت عليه الأسياف دون جدوى ، فوضع ابنمسلمة معولاً في ثنيته ، وتحامل عليه حتى بلغ العانة ، فصاح صيحة أفزعت من حوله ، وسقط قتيلاً ، وأوقدت النيران على الحصون ، ولكن رجع المسلمون بسلام ، وقد خمدت نار الفتنة التي طالما أقلقت المسلمين ، وكمنت أفاعي اليهود في أجحارهم لفترة من الزمان .
سرية القردة :
وفي جمادي الآخرة سنة 3 ه أرسلت قريش عيراً لهم إلى الشام عن طريق العراق ، لتخترق نجداً إلى الشام ، ولا تمر بقرب المدينة ، وكان يقودها صفوان بن أمية ، وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب ، فدهمها زيد وهي تنـزل على ماء في نجد يسمى بقردة ، فاستولى على العير بكل ما فيها ، وفر رجال العير بأجمعهم ، وأسر الدليل فرات بن حيان فأسلم ، وقدرت الغنيمة بمائة ألف وكانت أوجع ضربة تلقتها قريش بعد غزوة بدر .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
|