هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
خروجه صلى الله عليه وسلم من البيت :
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته وهم مطوقون به ، فذر تراب البطحاء على رؤوسهم وهو يتلو قوله سبحانه تعالى : ( وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) فأخذ الله بأبصارهم فلم يشعروا به صلى الله عليه وسلم ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر ، ومن خوخة داره خرجا حتى لحقا بغار ثور قبل بزوغ الفجر ، على بعد نحو خمسة أميال في اتجاه اليمن .
ثلاث ليال في الغار :
ولما انتهيا إلى الغار دخله أبو بكر أولاً حتى إذا كان فيه شيء يصيبه هو دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسحه ووجد فيه ثقوباً فسدها بشق إزاره ، وبقي جحر واحد أو جحران ألقمهما رجليه ، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنام في حجره ولدغ أبو بكر في رجله ، ولكنه لم يتحرك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت دموعه على وجهه صلى الله عليه وسلم فاستيقظ وسأل فقال : لدغت ، فداك أبي وأمي ، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب الألم .
وكمنا في الغار ثلاث ليال ، وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما ، وكان شاباً فطناً ذكياً ، فيخرج من عندهما حتى يصبح في قريش كأنه بات في مكة ، وكان يسمع مكائد قريش وأخبارهم فكان يأتيهما بها حين يختلط الظلام .
وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى الغنم ، فكان يأتيهما بها حين تذهب ساعة من الليل ، فيبيتان في لبنها ، ثم ينعق بها في غلس ويتبه بها أثر عبد الله بن أبي بكر ليعفي عليه
أما قريش فبقيت فتيانها منتظرين قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجه حتى أصبحوا ، فلما أصبحوا قام علي من فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقط في أيديهم وسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا علم لي به ، فضربوه وسحبوه إلى الكعبة ، وحبسوه ساعة ، ولكن بدون جدوى ، ثم جاءوا إلى بيت أبي بكر وسألوا ابنته أسماء عنه فقالت : لا أدري ، فلطمها الخبيث أبو جهل لطمة طرح منها قرطها ، ثم أرسلوا الطلب في كل جهة ، وجعلوا مائة ناقة عن كل واحد منها لمن يأتي بهما حيين أو ميتين .
وقد وصلوا في الطلب إلى باب الغار بحيث لو طأطأ أحدهم رأسه ونظر إلى قدميه لرأهما ، حتى اشتد حزن أبي بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن إن الله معنا .
في الطريق إلى المدينة :
وفي ليلة الإثنين غرة ربيع الأول سنة واحد ه جاء الدليلعبد الله بن أريقط الليثي بالراحلتين إلى جبل ثور حسب الموعد ، فارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وصحبهما عامر بن فهيرة ، وسلك بهما الدليل في اتجاه الجنوب نحو اليمن حتى أبعد ، ثم اتجه إلى الغرب نحو ساحل البحر الأحمر ، ثم اتجه إلى الشمال على مقربة من الساحل ، وسلك طريقاً لا يسلكه الناس إلا نادراً . وواصلوا السير تلك الليلة ، ثم النهار إلى نصفه ، حتى خلا الطريق ، فاستراح النبي صلى الله عليه وسلم تحت ظل صخرة ، واستكشف أبو بكر ما حوله وجاء راع فاستحلب منه أبو بكر ، فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم سقاه حتى رضي ، ثم ارتحلوا .
وفي اليوم الثاني مرا بخيمتي أم معبد وكانت بالمشلل في ناحية قديد على بعد نحو 130 كيلوا متراً من مكة ، فسألاها هل عندها شيء ؟ فاعتذرت عن القرى وأخبرت أن الشاء عازب – أي بعيدة المرعى والكلأ – وكانت في جانب الخيمة شاة خلفها الجهد عن قطيع الغنم ، ولم تكن فيها قطرة من لبن ، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحلبها ، فلما حلبها درت باللبن حتى امتلأ منه إناء كبير يحمله الرهط بمشقة ، فسقاه أم معبد حتى رويت ، ثم سقى أصحابه حتى رووا ، ثم شرب ، ثم حلب فيه ثانيا ، حتى ملاً الإناء ، وتركه عندها وارتحلوا .
وجاء زوجها فتعجب حين رأى اللبن وسألها عنه ، فأخبرته الخبر ، ووصفت النبي صلى الله عليه وسلم من مفرقه إلى قدمه ومن كلامه إلى أطواره وصفاً دقيقاً جداً فقال أبو معبد : هذا والله صاحب قريش ، لقد هممت أن أصحبه ، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً .
وفي اليوم الثالث سمع أهل مكة صوتاً بدأ من أسفلها ومر حتى خرج من أعلاها وتبعوه فلم يروا شخصه يقول :
جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حـلا خيمتي أم معبـد
همـا نـزلابالبـر وارتحـلا به وأفلح من من أمسى رفيق محمد
فيـا لقصي ما زوى الله عنكـم به من الأفعال لا تجاري وسودد
ليهـن بني كعب مكان فتاتهـم ومقعـدها للمؤمنين بمرصـد
ثم لما جاوزا قديداً تبعهما سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، على فرس له ، طمعاً في جائزة قريش ، فلما دنا منهم عثرت به فرسه حتى خر عنها ، ثم قام واستقسم بالأزلام : يضرهم أم لا ؟ فخرج الذي يكره ، ولكنه عصى الأزلام وركب حتى إذا دنا منهم بحيث يسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت ، وأبو بكر يكثر الإلتفات ساخت يدا فرسه في الأرض حتى بلغتا الركبتين وخر عنها ، ثم زجرها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة صار لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان ، فاستقسم بالأزلام فخرج الذي يكره ، وداخله رعب عظيم ، وعلم أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سيظهر ، فناداهم بالأمان ، فوقفوا حتى جاءهم فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قررته قريش ، وما يريد بهما الناس ، وعرض عليه الزاد والمتاع فلم يأخذ منه شيئاً ، وطلب منه أن يخفي أمره عن الناس ، واستكتبه سراقة كتاب أمن ، فأمر عامر بن فهيرة فكتبه في أديم ، ورجع سراقة فقال لمن وجده في الطلب قد استبرأت لكم الخبر ، قد كفيتم ما ههنا حتى أرجعهم .
وفي الطريق لقيه بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه في سبعين راكباً فأسلم هو ومن معه ، وصلوا خلفه صلاة العشاء الآخرة .
ولقيهما في بطن ريم – اسم واد – الزبير بن العوام في ركب من المسلمين كانوا قافلين من الشام ، فكساهما الزبير ثياباً بياضاً .
النزول بقباء :
وفي يوم الإثنين – الثامن من شهر ربيع الأول سنة 14 من النبوة – وهي السنة الأولى من الهجرة – نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء .
وكان أهل المدينة حينما سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجون كل غداة إلى الحرة ، حتى يردهم حر الظهيرة فانقلبوا يوماً بعد طول الإنتظار ، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب ! هذا جدكم – أي حظكم – الذي تنتظرون ، فثار المسلمون إلى السلاح ، وسمعت فيهم الوجبة والتكبير فرحاً بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا للقائه بظهر الحرة ، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف بقباء .
ولما نزل بقباء جلس صامتاً ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر رضي الله عنه ظناً منه أنه هو الرسول صلى الله عليه وسلم لظهور الشيب في شعره – حتى أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم – الشمس ، فظلل عليه أبو بكر بردائه ، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم ، وقيل على سعد بن خيثمة ، ومكث بها أربعة أيام ، أسس أثناءها مسجد قباء ، وصلى فيه ، فلما كان اليوم الخامس – يوم الجمعة – ركب بأمر الله ، وأبو بكر ردفه ،وأرسل إلى أخواله بني النجار ، فجاءوا متقلدين السيوف ،فسار نحو المدينة ، وهم حوله وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فجمع بهم في بطن الوادي ، وهم مائة رجل
الدخول في المدينة :
ثم اتجه نحو المدينة ، وقد زحف الناس للإستقبال ، وارتجت البيوت والسكك بالتحميد والتقديس ، وخروج النساء والصبيان والولائد يقلن :
طلــع البــدر علينــا مــن ثنيــات الــوداع
وجــب الشكــر علينـا مــا دعــــا للـه داع
أيهــاالمبعــوث فينــا جئــت بالأمــر المطــاع
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام ناقته يقولون : هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة ، فكان يقول لهم : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، فلما وصلت الناقة إلى موضع المسجد النبوي بركت ، فلم ينـزل عنها حتى نهضت وسارت قليلاً ، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول فنـزل عنها ، فجعل الناس يكلمونه في النـزول عليهم ، وبادر أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فأدخل رحله في بيته ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المرء مع رحله ، وأخذ أسعد بنزرارة بزمام راحلته فكانت عنده .
وسابق سراة الأنصار في استضافة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت الجفان تأتيه منهم كل ليلة ، فما من ليلة إلا وعلى بابه الثلاث أو الأربع منها .