حادثة الإفك
وحديث الإفك أيها الإخوة من أخطر ما واجه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من الأهوال والصعاب .
فالمنافقون كانوا يقصدون من ورائه إلى محاربة النبي صلى الله عليه وسلَّم بإساءة سمعته .
أنت أحياناً تحارب إنساناً عن طريق مقاومته ، وأحياناً تحارب إنساناً عن طريق تشويــه سمعته ، فحديث الإفك بشكلٍ أو بآخر محاولةٌ من المنافقين لتشويه سمعة النبي عليه الصلاة والسلام ، ومع تشويه سمعة النبي القصد البعيد تشويه هذا الدين الحنيف .
المعركة بين الحق والباطل معركةٌ أزليةٌ أبديَّة ، فكل واحد له ولاء ؛ أهل الإيمان يوالون الإيمان ، والمؤمنين ، والحق . وأهل الفسق والفجور يوالون بعضهم بعضاً ، فينبغي أن يعرف الإنسان هو مع من ؟ هذا الذي يوالي المؤمنين ويتبرَّأ من الكفار والمنافقين ، مؤمنٌ ورب الكعبة؛ أما الذي له ولاءٌ لغير المؤمنين هذا في إيمانه ضعف .
لذلك فالمنافقون أرادوا أن يشوِّهوا هذا الدين عن طريق تشويه سمعة النبي عليه الصلاة والسلام من خلال اتهام زوجته بالفاحشة .
متى جاء حديث الإفك ؟ بعد أن قال عبد الله بن أُبَيّ بن سلول للنبي وأصحابه : " سمِّن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذل " . يقصد الأعز هو ومن معه، والأذل يقصد به النبي عليه الصلاة والسلام والمهاجرين .
أيها الإخوة ... قال هذا المنافق رئيس المنافقين : " ماذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالك ، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوَّلوا إلى غير بلادكم ".
عملية تهجير ، فالهدف البعيد جداً من حديث الإفك تهجير المهاجرين إلى بلادٍ أخرى ، عن طريق تشويه سمعة الدين ، من خلال تشويه سمعة النبي ، من خلال اتهام زوجته الطاهرة بالفاحشة ..
فماذا يعنينا من هذا الموضوع ؟ أنت كمؤمن وطِّن نفسك أن هناك من يناوئك ، هناك من يطعن في نزاهتك ، هناك من يريد أن يشوِّه سمعتك ، الدنيا دار ابتلاء وليست دار جزاء ، والإنسان يرقى على قدر ما يُبتلى به .
أيها الإخوة الكرام ... خبر حديث الإفك ورد في الصحاح ، تقول السيدة عائشة رضوان الله عليها :
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ، فأيَّتهن خرج سهمها خرج بها معه ، فلمَّا كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع ، فخرج سهمي عليهن فخرج بي رسول الله .. " .
هناك حكمةٌ بالغة من اصطحاب الزوجة في السفر يعرفها المتزوجون ، النبي عليه الصلاة والسلام في أقواله ، وفي أفعاله ، وفي إقراره ، وفي صفاته مشرِّع ، فكان إذا أراد سفراً ـ حتى ولو كان السفر غزوةً ـ أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها ، صحبها معه . قالت السيدة عائشة :
" ... وكان النساء إذ ذاك إنما يأكُلن العُلَق ـ والعلق ما فيه بلغةٌ من الطعام، أي طعامهن قليل ، إذاً أوزانهن خفيفة ـ لم يهبجن اللحم فيثقلن ـ أي أن نساء الصحابة كنَّ نحيلات ـ وكنت إذا رُحِّل بعيري جلست في هودجي ، ثم يأتي القوم الذين يرحِّلون هودجي في بعيري ، يحملونني، فيأخذون بأسفل الهودج ، فيرفعونه على ظهر البعير ، فيشدونه بحباله ، ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون بي " .
كلام واضح ؛ كان هناك هودج تجلس فيه ، يرفعه رجلان ، يضعانه فوق ظهر الجمل ، يربطانه ، ثم يأخذان بخطام البعير ، ويقودان هذا البعير في مسيرة الجيش . قالت السيدة عائشة:
" ... فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلَّم من سفره ، وجَّه قافلاً حتى إذا كان قريباً من المدينة، نزل منزلاً فبات فيه بعض الليل ، ثم أذَّن في الناس بالرحيل ، فلما ارتحل الناس خرجت لبعض حاجتي ... " .
ذكرت هذا من قبل : أن هناك عشرات الاحتمالات التي كان من الممكن ألّا يقع حديث الإفك.
أريد أيها الإخوة أن أعلمكم أن الأحداث التي وقعت في عهد النبي أحداثٌ مقصودةٌ لذاتها ، لم يقع حدثٌ صدفةً ، بل كل حدث مركَّز مقصود لذاته، ليقف النبي الموقف الكامل ، فيكون موقفه تشريعاً ، فقالت هذه السيدة الجليلة :
" ... ثم أذَّن في الناس بالرحيل ، فلما ارتحل الناس خرجتُ لبعض حاجتي ، وفي عنقي عقدٌ لي ... " . لو أنها لم تشعر بحاجةٍ إلى قضاء الحاجة لما خرجت ، ولم يكن حديث الإفك .. ( سورة النور : من آية " 11 " )
قالت :
" ... خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقدٌ لي ، فلما فرغت ، انسل من عنقي ولا أدري ـ انقطع خيط العقد فوقع في الأرض ، لو كان الخيط ثخيناً أو متيناً لما انقطع ، لو لم ينقطع هذا الخيط لما كان حديث الإفك ، لو لم تشعر بحاجةٍ إلى قضاء الحاجة لما كان حديث الإفك ـ فلما رجعتُ إلى الرحل ذهبتُ ألتمسه في عنقي فلم أجده ، وقد أخذ الناس في الرحيل ـ قالت : ـ فرجعت ألتمسه حتى وجدته ، وجاؤوا خلاف القوم الذين كانوا يرحِّلون لي البعير ، فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه كما كنت أصنع... " .
وزنها خفيف جداً لم ينتبهوا ، فلو انتبهوا لما كان حديث الإفك ـ لو انتبهوا أن الهودج خفيف لما كان حديث الإفك ـ لو أنها تبحث عن العقد في مكانٍ قريب لما كان حديث الإفك ، لو أنهم رأوا شخصاً من بعيد ، لتفقَّدوها ، وذهبوا إليها ولما كان حديث الإفك ، معنى ذلك الحدث مقصود لذاته .
أحياناً تقع معك مشكلة ؛ لو لم أسافر لما كانت ، لو لم أسلك هذا الطريق لما كانت ، لو لم أركب هذه المركبة لما كانت ، لو لم تظهر لي حاجة للسفر لما كانت .
فلذلك أيها الإخوة ...
" لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ "* ( من مسند أحمد : عن " ابي الدرداء " )
شيءٌ مريحٌ جداً أن تقول : إذا شاء الله أمراً فعله ..
"... فَلا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ "* ( من صحيح مسلم : عن " أبي هريرة " )
أي أنك أيها الأخ حينما تكون مؤمناً تلغي من قاموسك كلمة لو ، فكأنها غير موجودة ، الشدة النفسيَّة تأتي من الندم ؛ فلا ندمَ ، ولا تمنيَ ، ولا حسرةَ ، ولا حزنَ ، كل هذه المعاني غير موجودة ، فهذا حديث مهم جداً ، أحياناً التعليم عن طريق الأفعال أقوى من الأقوال ، لغة العمل أبلغ من لغة القول .
كان من الممكن ألا يقع هذا الحديث ، لأكثر من عشرين سبب ، لكن الأحداث التي وقعت في عهد النبي ؛ أحداثٌ مقصودةٌ لذاتها لتكون تشريعاً ، ولتكون السيدة عائشة قدوةً لكل امرأةٍ في الأرض أصيبت بسمعتها .
" ... فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه كما أصنع ، فاحتملوه ، فشدوه على البعير ، ولم يشكوا أني فيه ، ورجعتُ إلى العسكر وما فيه داعٍ ولا مجيب ، قد انطلق الناس ... " .
معنى ذلك أنها ابتعدت ، فلما رجعت مكان الهودج رأت الناس قد ارتحلوا ، لا سميع ولا مجيب ولا قريب . قالت :
" ... فتلففت بجلبابي ثم اضطجعتُ في مكاني الذي ذهبت إليه ، وعرفت أن قد لو افتقدوني رجعوا إلي ... ـ فقد كانت حكيمة ، لعلهم يفتقدونها بعد حين فيرجعوا إلى المكان الذي انطلقوا منه ـ قالت :
" ... فوالله إني لمضطجعة إذ مرَّ بي صفوان بن المعطَّل السُلَمِيّ ... " لو لم يتأخر صفوان لما كان حديث الإفك .
أنا أريد أن أزيد من قناعة الأخ الكريم أن كل شيءٍ وقع أراده الله لحكمةٍ بالغةٍ بالغة ، يجب أن تعلموا علم اليقين أن كل شيءٍ وقع أراده الله، وأن كل شيءٍ أراده الله وقع ، وأن إرادة الله متعلقةٌ بالحكمة المطلقة، وأن حكمته المطلقة متعلِّقةٌ بالخير المطلق .
هذا الصحابي الجليل مرَّ بها " ... وكانت مضطجعةً قد تلففتْ بجلبابها في مكانها الـذي تركوها فيه ، وقد كان تخلَّف عن العسكر لبعض حاجته... " . نشأت له حاجة فتخلَّف عن العسكر ، فلو لم تنشأ له حاجة لما تخلَّف عن العسكر ولما كان حديث الإفك ، لو لم يتأخر لافتقدوها بعد حين ، رجعوا إلى المكان فوجدوها فحملوها وانطلقوا ، فلم يكن هناك حديث إفك..
" ... فلم يبت مع الناس في العسكر ، فلما رأى سوادي ـ لم يُرى منها شيء ، ملفَّفةً بجلبابها ـ أقبل حتى وقف عليَّ فعرفني ـ دققوا الآن ـ وقد كان يراني قبل أن يُضرب علينا الحجاب ، فلما رآني قال : إنا لله وإنا إليه راجعون أظعينة رسول الله ؟! وأنا متلفِّفةٌ بثيابي ، قال : فما خلفكِ رحمك الله ؟ قالت : فما كلَّمته ثم قرَّب البعير حتى أركبني ، حتى قال لي: اركبي رحمك الله واستأخر عني ، قالت : فركبت وجاء فأخذ برأس البعير فانطلق بي سريعاً يطلب الناس...".
هل يستطيع هذا الصحابي الجليل أن يفعل غير هذا الذي فعل ؟ صحابي جليل يرى أم المؤمنين ، يرى زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، يرى ظعينة رسول الله متخلِّفةً عن الركب وحدها ، متلفِّعةً بثيابها ، هل يستطيع أن يتركها ويمضي ؟ مستحيل.
" ... فما كلَّمته . ثم قرَّب البعير وقال : اركبي رحمك الله واستأخر عني، قالت : فركبت وأخذ برأس البعير ، فانطلق بي سريعاً يطلب الناس ، فوالله ما أدركنا الناس ، وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس ، فلما اطمأنوا ، طلع الرجل يقودني ، فقال أهل الإفك ما قالوا ـ رأوا زوجة رسول الله على بعير صفوان بن المعطَّل السلَمي ـ فارتجَّ العسكر ، فوالله ما أعلم بشيءٍ من ذلك ، ثم قدمنا المدينة فلم أمكث أن اشتكيت شكوى شديدة ، ولا يبلغني شيءٌ من ذلك ، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وإلى أبويَّ ، ولا يذكران لي من ذلك قليلاً ولا كثيراً... " .
فلماذا لم يذكر النبي لها قليلاً ولا كثيراً ولا أبوها وأمها ؟ لثقتهم الكبيرة بأنها طاهرة ، فأصعب شيء أن تتهم إنساناً بريئاً ، شيءٌ لا يحتمل، ظلمٌ شديد أن تفتري على إنسانٍ إفتراءً لا أصل له .
" ... إلّا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بعض لطفه بي ، إن كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي ، فلم يفعل ذلك في شكواي تلك ـ فهي كانت مريضة ـ فأنكرت منه ، كان إذا دخل عليّ وأمي تمرِّضني قال : كيف تيكم ؟ ولا يزيد على ذلك ، أما من قبل كان إذا دخـل عليَّ وأنا مريضة يقول : كيف عويش ؟ ... " .
عويش من ألفاظ التحبُّب لاسم عائشة ، فهناك أسماء يُتحبب بها بتعديلها ، تصغيرها ، أو اختصارها ، أو ترخيمها ، كان عليه الصلاة والسلام يقول : " كيف عويش ؟ " أما الآن يقول : "كيف تيكم ؟ " .
" ... أنكرت منه ذلك ، حتى وجدت في نفسي مما رأيت من جفائه عني فقلت له : يا رسول الله لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرَّضتني ، قال : لا عليك اذهبي إن شئتِ ... " .
استأذنت النبي عليه الصلاة والسلام في أن تذهب إلى بيت أهلها ـ قال: لا عليك . قالت :
" فانتقلت إلى أمي ولا أعلم بشيءٍ مما كان ، حتى نقهت من وجعي بعد بضعٍ وعشرين ليلة " .
قالت :
" وكنا قوماً عرباً لا نتخذ في بيوتنا هذه الكُنُف التي تتخذها الأعاجم ، نعافها ونكرهها ، وإنما كنا نخرج في فُسَح المدينة ، وإنما كان النساء يخرجن كل ليلةٍ في حوائجهن ، فخرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطحٍ بنت رهمٍ بن المطلب ، وكانت أمها بنت صخرٍ بن عامرٍ خالة أبي بكر".
قالت :
" فوالله إنها لتمشي معي إذ عثرت في مرطها ـ أي في كسائها ـ فقالت : تعس مسطح ... " .
الآن أول خبر يصل إلى عائشة ، هيَ ماذا رأت ؟ رأت النبي يجافيها ، ولكن ليس جفاء مطلقاً بل جفاء نسبياً ، كيف عويش ؟ سابقاً ، كيف تيكم ؟ فالإنسان الحسَّاس الذي عنده مشاعر رقيقة يشعر بأدق التغيُّرات ، فاستأذنت النبي أن تنتقل إلى بيت أهلها فأذن لها ، وهي في طريق قضاء حاجتها قالت لها هذه المرأة : " تعس مسطح . " .
قلت :
" بئس لعمر الله ما قلت لرجلٍ من المهاجرين قد شهد بدراً ... " . هي لا تعلم ماذا حدث ـ تقول : بئس مسطح . وهي لا تعلم عنه إلا خيراً .
صحابي جليل رأى أم المؤمنين في الطريق ، أركبها على جمله ، وقادها إلى الركب ، قالت: أوما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر ؟
قلت : " وما الخبر ؟ فأخبرتي بالذي كان من قول أهل الإفك ... " .
اتهمت بالفاحشة مع صفوان بن المعطَّل السلَمي . مرة ثالثة ورابعة وخامسة ؛ مئة احتمال يمكن أن يُلغى حديث الإفك ، ولكن الله أراده ، دليلٌ هذا قولُ الله عزَّ وجل : ( سورة النور : من آية " 11 " )
قس على هذا أيها الأخ الكريم ، قس على هذا الحديث أنه إذا أصابك شيءٌ تكرهه ، اقرأ قوله تعالى :
الله عزَّ وجل لطيفٌ لما يشاء ؛ فالله عزَّ وجل ينقل الإنسان من حال إلى حال ، من مستوى إلى مستوى ، من منزلة إلى منزلة ، من مقام إلى مقام ، يؤدِّب ، يهذِّب ، يشجِّع ، يقوي، يعين ، يعطي خبرات عميقة ، ما الإنسان الناضج ؟ مجموعة خبرات ، كل خبرة تعني أن فيها مآساة ، هناك مشكلة ، وهناك خبرة مؤلمة ألمَّت به .
" ... قلت : وما الخبر ؟ فأخبرتي بالذي كان من قول أهل الإفك " .
مرَّة قال سيدنا موسى بالمناجاة : " يا رب لا تُبقِ لي عدواً ، قال : يا موسى هذه ليست لي". ليست لله عزَّ وجل ، أليس هناك أعداءٌ لله عزَّ وجل ، فوطِّن نفسك أنك لا تجد إنساناً إلا وله أعداء ، لأن معركة الحق والباطل معركةٌ أزليةٌ أبديَّة ، إن كنتَ مع أهل الحق فأهل الكفر والفسوق يعادونك ، وإن كنت مع أهل الإيمان فأهل الكفر يعادونك .
قالت : " وقد كان هذا ؟! " . استفهام إنكاري . قالت : " نعم والله لقد كان " . هذا الذي حصل .
هذه الكلمة التي ألقيت على مسامع السيدة عائشة كأنها قنبلة ـ قالت :
" ... فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدِّع كبدي " .
فأصعب شيءٍ على المرأة الشريفة الطاهرة أن تتهم بشرفها ، أصعب شيءٍ على الإطلاق أن تتهم المرأة العفيفة الطاهرة بشرفها . قالت :
" وقلتِ لأمي ـ أيْ : هل علمت أمي بهذا الخبر ـ يغفر الله لكِ تحدث الناس بما تحدثوا به ، وبلغك ما بلغك ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً !! " . سألت أمها أنه يا أمي الناس تتحدَّث بهذا الخبر ، وأنتِ تبقين ساكتة ؟ قالت:
" أي بنيتي خفِّضي الشأن فوالله قلَّما كانت امرأةٌ حسناء عند رجلٍ يحبها ، لها ضرائر إلا أكثرن عليها " . أي هذا شيءٌ طبيعي ، معنى ذلك أن هناك حسداً ، أحياناً الإنسان يُحسد ، فالحسود يلقي بالتهم جزافاً ليشفي صدره من محسوده . قالت :
" وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في الناس يخطبهم ولا أعلم بذلك . ثم قال :
" أيها الناس ما بال رجالٍ يؤذونني في أهلي ويقولون عليهن غير الحق، والله ما علمت منهن إلا خيراً ، ويقولون ذلك لرجلٍ والله ما علمت منه إلا خيراً ، وما دخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي " .
تألَّم النبي عليه الصلاة والسلام ، لقد آذوه أشد الأذى ، آذوه في عرضه . " قال :
" أيها الناس ما بال رجالٍ يؤذونني في أهلي ويقولون عليهن غير الحق، والله ما علمت منهن إلا خيراً ، ويقولون ذلك لرجلٍ ـ أي صفوان بن المعطَّل السلَمي ـ والله ما علمت منه إلا خيراً، وما دخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي " .
قالت :
" ... وكان قد كَبُرَ ذلك عند عبد الله بن أبي سلول في رجالٍ من الخزرج مع الذي قال مسطح". أي صار في أناس من الصحابة تألموا أشد الألم لهذا الحديث ، وأناسٌ آخرون تساهلوا قليلاً ، ومنافقون كُثُر شمتوا ، وفرحوا ، وأحبوا أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا . قالت :
" ... ثم دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وعندي أبوايَ ، وعندي امرأةٌ من الأنصار، وأنا أبكي وهي تبكي معي ، فجلس وحمِدَ الله وأثنى علي ثم قال :
" يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله ، إن كنتِ اقترفتِ سوءاً مما يقول الناس فتوبي إلى الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده " .
قالت :
" فوالله ما هو إلا أن قال ذلك تقلَّص دمعي حتى ما أحس منه شيئاً ، وانتظرت أبويَّ أن يجيبا رسول الله ، فلم يتكلَّما " .
قالت :
" وايم الله لأنا كنت أحقَر في نفسي ، وأصغر شأناً من أن ينزِّل الله عزَّ وجل فيَّ قرآناً يُقرأ به في المساجد ويصلَّى به ، ولكنني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في نومه شيئاً يكذب الله به عني لما يعلم من براءتي ، أو يُخبر خبراً ، فأما قرآنٌ ينزل فيَّ فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك " .
تصوَّرتْ أن الله يبرِّئها بمنام يراه النبي عليه الصلاة والسلام ، بطريقة أو بأخرى ، أما أن ينزل وحي ، قرآن يُتلى إلى يوم القيامة في براءة هذه السيدة المصون !! قالت : " والله كنت أحقر في نفسي من أن ينزل قرآنٌ فيَّ " .
قالت :
" فلما لم أرَ أبويَّ يتكلَّمان قلت : ألا تجيبان رسول الله ؟ فقالا لي : والله ما ندري بماذا نجيبه".
شيء مسكت ، تهمة كبيرة جداً لامرأةٍ طاهرةٍ عفيفة ، زوجها رسول الله ، أبوها أبو بكر ، أمها أم رومان ، قِمم ، والتهمة كبيرة ، وبعدُ فأية امرأةٍ إلى يوم القيامة اتُهمت كما اتهمت السيدة عائشة ؛ ففي هذه السيدة المصون أسوةٌ حسنة . قالت :
" وايم الله ما أعلم أهل بيتٍ دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكرٍ في تلك الأيام " .
الحياة فيها متاعب كثيرة ، فأحياناً هناك متاعب لا يعلمها إلا الله تصيب الإنسان ..
" إن أشد الناس بلاءً الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل " .
الإنسان يُبتلى على قدر إيمانه ، فإن كان قوي الإيمان اشتد بلاؤه ، وهذا البلاء يرفع درجاته عند الله عزَّ وجل .
فلما قال لها النبي الكريم :
" يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله ، وإن كنتِ اقترفتِ سوءاً مما يقول الناس فتوبي إلى الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده " .
قالت :
" فوالله ما هو إلا أن قال ذلك حتى تقلَّص دمعي ، هنا استعبرت فبكيت ، ثم قلت : والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً ، والله لئن أقررت بما يقول الناس والله يعلم أني بريئةٌ منه تصدقونني عندئذٍ ، لأقولن ما لم يكن ، ولئن أنا أنكرت ما تقولون لا تصدقونني !! " .
قالت :
" ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره ، ولكنني أقول كما قال أبو يوسف : فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون ".
إخواننا الكرام ... كنت أقول لكم دائماً : الحُزن خلاَّق ، المصائب أحياناً تصنع الرجال وتصنع النساء ، المصائب مِحَك ، الإنسان حينما يمرُّ بظروف صعبة يصبح رجلاً بالمعنى الكبير ، والمرأة حين تمرُّ بظروف صعبة تصبح أماً كبيرةً .
قالت :
" والله ما برح رسول الله مجلسه ـ وهو لا زال في المجلس ـ حتى تغشَّاه من الله ما كان يتغشَّاه ، فسُجي بثوبه ، ووضعت وسادةٍ من أدمٍ تحت رأسه ، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فوالله ما فزِعت كثيراً، ولا باليت ، وقد عرفت أني بريئة ، وأن الله غير ظالمي ، وأما أبوايَ فوالذي نفس عائشة بيده ما سُرِّي عن رسول اله صلى الله عليه وسلَّم حتى ظننت أن نفسيهما ستخرجان فَرَقاً من أن يأتي من الله تحقيق ما قاله الناس " .
هي مطمئنة لأنها بريئة ، أما أبوها وأمها في قلقٍ شديدٍ جداً ، فلربما يُثَبِّتُ الوحي ما قاله الناس .
قالت :
" ثم سُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجُمان في يومٍ شاتٍ ، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول :
" أبشري يا عائشة لقد أنزل الله براءتك " .
الإنسان أحياناً كثيرة ما له إلا الله ، سمعت كلمة من أحد الإخوة يقول : الحمد لله على وجود الله ، الله يعلم الحقيقة ، إذا كان قلبك سليماً ، وإذا كنت مستقيماً ، وإذا كنت بريئاً فلا تخشَ أحداً، الله عزَّ وجل سوف يبرِّئك.
قالت :
" فقلت : بحمد الله وذنبكم . ثم خرج إلى الناس فخطبهم ، وتلا عليهم ما أنزل الله عزَّ وجل من القرآن فيَّ " .
* * * لدينا تعليق على هذه الرواية ، أن السيدة أم رومان لما نزلت براءة السيدة عائشة قالت لابنتها السيدة عائشة : " يا بنيتي قومي إلى رسول الله فاشكريه " . قالت : والله لا أقوم إلا لله". فتبسَّم النبي عليه الصلاة والسلام وقال :
"عرفت الحق لأهله ".
وآيات براءة الصديقة بنت الصديق ، الطاهرة المؤمنة عائشة هي قوله تعالى :
بيَّنتُ لكم من قبل أن التوحيد لا يُلغي المسؤوليَّة ، إذا عزوتَ هذا إلى الله فليس معنـى ذلك أن الذي روَّج هذا الحديث لن يُحاسب ..
يقول الله عزَّ وجل : ( سورة النور : من آية " 12 " )
علامة الإيمان أن تُحسن الظن بإخوانك ..
إخواننا الكرام ... إذا كنت بريئاً ، وقد أُلصقت بك تهمةٌ شائنة ، وكنت صادقاً ، وكنت متأكِّداً ، وواثقاً من نفسك ، لا تخشَ في الله أحداً ، الله عزَّ وجل اسمه الحق ، ومعنى اسمه الحق أي لابدَّ من أن يحقَّ الحق .
* * * أيها الإخوة ... رضي الله عن هذه السيدة الحصان العفيفة ، التي امتحنها الله عزَّ وجل في أعز ما تملك ، وصبرت ، واحتسبت ، فأنزل الله براءتها .
وكل واحد من الإخوة الأكارم يمكن أن يستنبط من هذه القصَّة أن الله هو الحق ، وأنه لابدَّ من أن يحقَّ الحق ، فإن كنت واثقاً من براءتك واستقامتك فالله سبحانه وتعالى يتولَّى الدفاع عنك؛ ولكن إيَّاك أن تجلس مجلساً فيه مظنة اتهامٍ لك ، وتلوم الناس إذا اتهموك ، لا تضع نفسك موضع التهمة وتلوم الناس إذا اتهموك ، كان عليه الصلاة والسلام يمشي مع زوجته صفيَّة فرأى صحابيين جليلين قال :
" هذه زوجتي صفيَّة " . ( من تخريج أحاديث الإحياء : عن " أنس " )
تعلَّم من هذه الواقعة أن تكون واضحاً إلى أبعد الحدود ، تعلَّم من هذه الواقعة أن تكون مبيِّناً إلى أبعد الحدود ، وقد قيل : "البيان يطرد الشيطان" .
عوِّد نفسك أن تفعل شيئاً لا يمكن أن يفسَّر إلا تفسيراً واحداً ، الشيء الذي يمكن أن يفسَّر تفسيرين ابتعد عنه ، وإذا تلبَّست به ؛ وضِّح قصدك ومرادك ، فلو أن الناس اتبعوا النبي عليه الصلاة والسلام فيما قال :
" هذه زوجتي صفيَّة " . ( من تخريج أحاديث الإحياء : عن " أنس " )
لقطعوا كل لسانٍ يريد اتهاماً للآخرين . فمثلاً إنسان مسافر ، يوكِّل أخا زوجته أن يتفقَّد أخته ، هناك جيران يرون أن جارهم قد سافر ، وأن شاباً يدخل على بيته في غيبته ، ماذا يقولون ؟ قد يتهمونك ، يجب أن تُعلم جيرانك أنك مسافر ، وأنك وكَّلت أخا زوجتك أن يتفقَّد شؤونها ، وانتهى الأمر ، وضِّح ، كلمة : هذه زوجتي يجب أن تنسحب على آلاف الحالات ، طبعاً إذا كنت متهماً وأنت برئ فالله جلَّ جلاله يبرئك ، لكنك ليس مسموحاً لك أن تضع نفسك موضع التُهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك .
فلو أنك دخلت لمحل صديقك ، والمحل فارغ ، والصديق غائب ، إذ ذهبَ لبعض شأنه وقال لك : انتظرني . معك خمسمئة ليرة أردت أن تفكَّها ، فتحت الدرج ووضعتها وأخذت خمس مئات، وقد دخل صديقك ، لا تبق ساكتاً بل قل له: سأصرف الخمسمائة . والأولى ألّا تفعلها في غيبته ، لو نقص صندوقه خمسمئة ، يأتي الشيطان بوسوسته : رأيت صديقي يمد يده إلى الدرج. عوِّد نفسك ألّا تفعل شيئاً له تفسيران ، عوِّد نفسك أن توضِّح ، أن تبيِّن ، البيان يطرد الشيطان .
مرَّة أذكر حادثة وقعت في محل تجاري ، صاحب المحل معروف بالصلاح ، وبالمحل غرفة داخليَّة وعنده تاجر من حلب ـ تاجر له قيمته ـ وله زيه الديني ، جاءت امرأةٌ ، رحَّب بها صاحب المحل ترحيباً أكثر من كونها زبونة تشتري ، أنا من حسن ظني بأخي وصديقي قلت: لعلَّها أخته . الشيخ الحلبي تغيَّر لونه ، فقلت له : لعلها أخته . فلما ذهبت سألته فقال : هي أختي. فيجب أن يبلِّغ ، هذا الترحيب زائد عن أن تكون هذه المرأة زبونة ، فقل : جاءت أختي.
أما أن تضع نفسك موضع التُهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك ، هذا ليس من الدين في شيء؛ هناك علاقات الجوار ، والعلاقات الأسريَّة ، والعلاقات مع الشركاء ، دائماً وضِّح ، وبيِّن ، ودقِّق ، وإلا هناك أشخاص يلوكون سمعتك دون أن تشعر ، وهناك فتن قد تجري في المدينة يروِّج لها المنافقون ، وهذا الحديث درسٌ بليغٌ للمؤمنين ..
أول استنباط : إذا أراد الله شيئاً وقع .
" إن الله تعالى إذا أراد إنفاذ أمر سلب كل ذي لب لبه " . ( من الجامع الصغير : عن " ابن عباس " )
الاستنباط الثاني : إذا كنت على حق ، فالله عزَّ وجل سوف يتولَّى تبرئتك .
الاستنباط الثالث : لا ينبغي أن تضع نفسك موضع التهمة ، ثم تلوم الناس إذا اتهموك .
والحمد لله رب العالمين
__________________
قالوا كذبا : دعوة رجعية -- معزولة عن قرنها العشرين
الناس تنظر للأمام ، فما لهم -- يدعوننا لنعود قبل قرون؟
رجعية أنّا نغارُ لديننا -- و نقوم بالمفروض و المسنون!
رجعية أن الرسول زعيمنا -- لسنا الذيول لـ "مارْكسٍ" و " لِنين" !
رجعية أن يَحْكُمَ الإسلامُ في -- شعبٍ يرى الإسلامَ أعظم دين !
أوَليس شرعُ الله ، شرعُ محمدٍ ------ أولى بنا من شرْعِ نابليون؟!
يا رب إن تكُ هذه رجعيةً ------ فاحشُرْنِ رجعياً بيومِ الدين !
|