طوبي لأواخر الثانوية العامة
بعد أن انتهت زفة أوائل الثانوية العامة بالمكافآت الهزيلة وفلاشات كاميرات الصحف وبرامج التوك شو ومصافحة المحافظ والوزير وشعور الأهل بالفخر واستقرار الأوائل في كليات القمة أو في الكليات التي يرغبون في الالتحاق بها (لن يتركهم أحد يضحون بكليات القمة في سبيل ما يحبونه، الأمر الذي يفسر وجود أطباء تجار ومهندسين وصحفيين وصيادلة ومصممي رقصات)، بعد أن انتهت الزفة وانفض المولد أستطيع الآن - وأنا ضميري مستريح- أن أفسد فرحة الأوائل بما يرونه إنجازًا عظيمًا.
أن تكون عنصرًا في منظومة رديئة، ثم تتصدر المشهد فهذه شهادة بأنك خلاصة الخلاصة وزهرة الزهرة في الرداءة، وأن تكون(وش القفص) بشهادة الحكومة السيئة بالنسبة لمحصول نظامها التعليمي السيئ، فهذا يعني أنك تشبه حبات الخوخ الحكومي المهرمنة ذات الحجم الضخم المبهر ولكن بلا طعم، من حقك أن تفرح بأنك واحد من العشرة الأوائل في الثانوية العامة في أي مكان في العالم ماعدا مصر، لأن النظام التعليمي فيها باطل وما بني علي باطل فهو باطل، صحيح أننا نقول برافو للأوائل من قلوبنا لكنها تشبه البرافو التي نقولها لشخص حكي لنا كيف أنه وجد طريقة لتخفيض مخالفات البناء أو مخالفات رخصة السيارة إلي الربع، وصحيح أن الحكومة تحتفي بالأوائل وتمدحهم لكن وبما أن مذمة الناقص في حقك شهادة بأنك كامل، فمدح الناقص في حقك شهادة بأنك الحاج كامل.
كيف تفرح وأنت الأول في سباق يسيطر علي أجواء المنافسة فيه تسريب للامتحانات وأخطاء في التصحيح، وضياع لورق الإجابة في الطريق إلي غرفة الكنترول، وغش جماعي وعدم تكافؤ للفرص ما بين تعليم حكومي وتعليم خاص وعجز مادي لأسر فشلت في أن تجعل أبناءها يحصلون علي دروس خصوصية (التي اعترف الأوائل بحصولهم عليها في كل المواد)، كيف تفرح بأنك الأفضل في نظام به مدرسون بحاجة لأن يتعلموا من جديد ولأن يخضعوا لاختبارات لتحديد مستواهم وتحديد الأجر الذي يستحقونه (دون أن يتم الاستغناء عمن رسبوا في هذه الاختبارات)، كيف تشعر بالفخر وأنت الأول علي نظام قائم علي الحفظ والتسميع وليس قائمًا علي الفهم والرغبة في التعلم، كيف تفخر بالتفوق في نظام لا يعلمك كيف تكتشف نفسك ومواهبك وتعرف ما يليق بمستقبلك ولا يساعدك أن تعرف (إنت عايز إيه بالضبط)، ويعلمك التحايل بأن تراهن علي الأسئلة المتوقعة والحتت المهمة لتحصد درجات لا لتتعلم.
إن أوائل الثانوية العامة مع احترامي لهم وتقديري التام للعذاب الذي عاش فيه أهاليهم كبقية الأسر المصرية.. هم نسخة من القيادات الحكومية الموجودة في مختلف الأماكن، والتي وصلت إلي مناصبها لاعتبارات كثيرة لا يشترط فيها الكفاءة، ولكن يشترط أن (تفهم الفولة ماشية إزاي وتعمل المطلوب منك دون تفكير)، ومثلما انبطح موظف صغير أمام مطالب رؤسائه ليصل إلي منصب أعلي، انبطح الأوائل أمام نظام تعليمي فاسد يطالبهم بالحفظ والدروس الخصوصية، ليصلوا إلي الكليات التي يرغبون في الالتحاق بها (وهو فساد علي صغير مبرر بالحرص علي المصلحة وبأن البلد ماشي كده)، ومثلما يصل الموظفون إلي مناصبهم العليا ثم يضيعون بعدها في غياهب التاريخ يضيع الأوائل ونادرًا ما نري شخصًا منهم قد وصل إلي مكانة تفيد البلد، بل إن البلد يوليهم اهتماما سطحيا (مكافأة تفوق في الكلية تصل إلي 200 جنيه) ولا تتابعهم الدولة بعد الثانوية أو تتعامل معهم باعتبارهم كوادر مهمة يجب الاعتناء بها للاستفادة منها، ذلك لأن الدولة نفسها تفهم أن أوائل الثانوية العامة حاجة، والنجاح في الحياة حاجة تانية.
ستسألني: وهل يملك أحد إلا أن يتحايل لينجح مادام النظام يسير بهذه الطريقة؟ وسأقول له من حقك أن تتحايل كما تشاء، لكنني أحتفظ بحقي في أن أري أواخر الثانوية أشخاصًا طبيعيين، أما الأوائل فلا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير في وجه شبه ما بينهم وبين الحاصلين علي مراكز متقدمة في دوري الشركات..صحيح هم أيضا متفوقون لكنهم في النهاية موظفون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عمر طاهر
|