من الآيات القرآنية التي تتناول بعض أحكام القتال نقرأ قوله تعالى: { يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل } (البقرة:217)، وهذه الآية تضمنت عدداً من اللطائف الجديرة بالتأمل والتفكر.
يذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش الأسدي رضي الله عنه على سرية في شهر جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة؛ ليترصد قافلة لقريش، فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي وآخرون معه. فانطلقت السرية لشأنها، وقتلت الحضرمي، وأسرت اثنين ممن كانوا معه. وصادف ذلك أول يوم من شهر رجب، وهو أحد الأشهر الحرم. فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام - ولم يكن من عادة العرب القتال في الأشهر الحُرم - فعظُم ذلك على المسلمين، خاصة الذين كانوا في هذه السرية، فنزلت الآية.
إذا عرفنا السبب الذي نزلت الآية لأجله، نتبع ذلك ببعض اللطائف التي تتضمنها هذه الآية الكريمة:
اللطيفة الأولى : في تقديم قوله تعالى: { الشهر الحرام }، على قوله سبحانه: { قتال فيه }، ففي هذا التقديم فائدة، وهي بيان أن المسؤول عنه إنما هو { الشهر الحرام }، وليس (القتال)، وتقدير الكلام: (يسألونك عن الشهر الحرام، يسألونك عن قتال فيه)، فالمسؤول عنه في الآية { الشهر الحرام }، وليس (القتال). ولو قال: (يسألونك عن قتال في الشهر الحرام) لكان المسؤول عنه القتال فحسب دون ما يُنتهك به الشهر الحرام.
وقد دل سبب نزول هذه الآية أن السؤال لم يقع إلا بعد وقوع القتال في الشهر الحرام، وتشنيع الكفرة انتهاك حرمة الشهر، فاهتمامهم بالسؤال إنما وقع من أجل حرمة الشهر؛ فلذلك قُدِّم في الذكر. فتقديم { الشهر الحرام }؛ لعموم حرمة القتال فيه، وشمولها لكل مخالفة من قتل أوغيره، ثم أبدل منه { قتال فيه }؛ لكونه سبب السؤال، فجمع بين الأمرين.
قال ابن عاشور : "وإنما اختير طريق الإبدال هنا، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام؛ لأجل الاهتمام بالشهر الحرام؛ تنبيهاً على أن السؤال لأجل الشهر أيقع فيه قتال؟ لا لأَجل القتال هل يقع في الشهر...لكن التقديم لقضاء حق الاهتمام".
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
|