الكيمياء ومنهج استقراء العلوم الطبيعية في القرآن
العلوم الطبيعية ومنهج تدبر القرآن الكريم
الولوج للإسلام من باب العلم يعتبر قصة بحد ذاته، كثيراً ما تجلت من خلالها أهمية الاستعانة بالعلوم الطبيعية لإقرار الإيمان وتثبيت الفؤاد، فأمام عاصفة الشك التي يمكن أن تعصف بإيمان المرء يمكن أن تكون العلوم الطبيعية ودراستها بابا صالحا للولوج منه إلى عالم يتميز بالاستقرار.. وفي مثل تلك الأجواء العاصفة قد يجد المرء من العلوم الطبيعية وسيلة صالحة لإدراك اليقين، وهي الوسيلة القادرة ،ولا شك، على إثبات حقيقة أن ديننا هو من عند الله، وبأن ما نزل من عند الله هو الحق بالفعل.
ولسبب كامن في طبيعة العصر الذي نحيا فيه؛ فقد أمست محاولة الولوج إلى الإيمان من باب العلم حاجة ماسة، إذ لم يعد ممكنا تجاهل كل هذا الكم المتراكم من المعلومات التي تخص العلوم المختلفة، ولا ذلك التقدم المادي الناتج عن تلك الثورة، والتي باتت تواجه إيمان الإنسان بالتحدي.
ومثلما كانت السمة المادية لهذا العصر ،في وقت من الأوقات، وكذلك الاكتشافات العلمية التي حققها الغرب في القرن الأخير؛ عقبة في طريق استقرار الإيمان بالله وبالغيب في النفوس؛ فقد كانت الهزيمة السياسية الماحقة التي أصابت الأمة الإسلامية -والمتمثلة بسقوط نظامها السياسي- كانت دافعاً آخر باتجاه اللجوء إلى العلوم الطبيعية وذلك للتغلب على آثار تلك الأزمة؛ والتي تعطل قبلها دماغ الأمة عن التفكير؛ فتوقفت بعدها ملكاتها عن الإبداع.
لكل ذلك فقد شكل الاتجاه إلى العلوم الطبيعية المختلفة نوعاً من التوازن الداخلي في أعماق الفرد والجماعة؛ مما مكن الفرد والمجتمع -في وقت من الأوقات- من المحافظة على ثقته بدينه وبحضارته.
إن حالة "رد الفعل" التي تمثلت في اتجاهنا في وقت من الأوقات ناحية العلوم الطبيعية، وجعْلِها دليلاً على الحقيقة الدينية كان يمثل حالةً غير عادية، وغير أصلية، إذ الأصل أن يُستدل بالحقيقة الدينية على ما عداها لا العكس، لكن مع ذلك فقد ساهم التوجه نحو تلك العلوم في إيجاد زوايا جديدة يُنظر للنص القرآني من خلاها، مما مكّن ،في نهاية المطاف، من إحداث الأثر المطلوب؛ والمتمثل في إدراك الحاجة لتجاوز الأزمة الحضارية، لكن مع كل ذلك فقد بقي التوجه للعلوم الطبيعية ،لإثبات صدق الحقيقة الدينية، بقي مُعبراً عن جانب غير أصيل، ولا يمثل "الفعل" بقدر ما يعبر عن "رد الفعل"، وظل معبراً عن الاستجابة لمواجهة حالة الأزمة التي لازمت الأمة خلال القرن الأخير.
وفي الآونة الأخيرة فإن اختلافاً ما قد طرأ على تلك الحالة، حالة "رد الفعل"، إذ بدأنا ،شيئاً فشيئاً، نستعيدُ الثقة بالذات، وبدأنا ،شيئاً فشيئاً، نفقد الثقة في الحضارة المادية برمتها، ابتداء بالفكر الذي وضع الدين موضع الاتهام؛ ورَبَطَه بعلاقة تناقض ومواجهة مع العلم، وقد بدأ الدين في استعادة ما فقده من اعتبار؛ وقد جاء ذلك كنتيجة مباشرة لاتضاح الحدود الحقيقية لأدوات تحصيل المعرفة، وحدود إمكانيات أدوات الاستكشاف، وبالتالي فإن العلم قد ساهم مساهمة مباشرة في رد الاعتبار للأدوات المقترحة من قبل الدين، بل إن العلم قد أثبت بأن "الإيمان بالغيب" إنما هو حقيقة "موضوعية" بحتة تفرضها محدودية الوسائل، ومحدودية القدرات البشرية، وذلك حين تم الكشف عن أن ما يمكن لحواس الإنسان أن تحيط به من محسوسات لا يتعدى أن يكون نسبة ضئيلة جداً مما يمكن للإنسان أن يدركه. والإضافة ذات المغزى هنا هي أن الحقيقة الدينية قد أصبحت مقبولة، ليس فقط من وجهة نظر أصحابها (ممن يؤمنون بالغيب) بل من وجهة نظر علمية بحتة كذلك!!.
جدلية العلاقة بين الإيمان والوعي
حين أنزل الله عز وجل كتابه الكريم على نبيه محمد e وُوجهت دعوة الإسلام بالمعارضة التقليدية التي كانت تواجَه بها كل دعوة جديدة، وقد حملت دعوةُ الإسلام في حينه الكثير مما يمكن أن يثير حفيظة رجالات المجتمع التقليديين؛ الذين كثيراً ما حركتهم مصالحهم الشخصية، وقد احتج المعارضون للدعوة الجديدة بما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم من دين، وقد نَعَى القرآنُ الكريم عليهم الاحتجاجَ بذلك الميراث دون تفكر أو تدبر، فقال عز وجل في محكم التنزيل:
{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}(البقرة:170)
وفي آية أخرى يشير القرآن الكريم إلى حالة الإصرار من قبلهم على مواصلة السير على ذلك النهج من الضلال {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مهتدون}(الزخرف:22)
ولم يكن ذلك النهج من المعاندة فريداً!!، إذ ووجه به وبمثله كلُّ نبي من الأنبياء؛ وكل رسول من الرسل، بل أصبح سُنةً بشريةً؛ كثيراً ما رسمت صورة العلاقة بين الإيمان ونقيضه، وقد دعا الله عز وجل القوى الفاعلة في مسيرة الإيمان وسماها بـ "النذير" وهي القوى التي قد يمثلها: (الرسول، النبي، المؤمن) بينما جُعل "المترف" ممثلاً للنقيض في هذه العلاقة، والذي قد يمثله (الكافر والمشرك...) فقال عزّ اسمه:
{وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون}(الزخرف:23)
وكأن أولئك لم يكْفِهِمْ عار اتباع الكفر بغير هُدىً؛ بل أضافوا إليه عاراً جديداً؛ يتمثل في ادعائهم الأجوف بالهدى {وإنا على آثارهم مهتدون}، وكأنه لم يكفهم أن يعلنوا اتباع آبائهم هدياً أو ضلالاً؛ بل ازدادوا ضلالاً على ضلالتهم حين ادعوا أن ذلك الاتباع إنما هو من قبيل الاقتداء!!. والاقتداء من "القدوة"؛ والتي من المفترض ألا تكون إلا في حسن!!. لذلك فقد وجدنا الآيات الكريمة تبين ماهية الاتباع؛ ووجوب ألا يكون إلا فيما عُرفت هدايته من رسالةٍ أو تنزيل: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله}، وقد نعى القرآن الكريم على نقيضه فقال عز من قائل:
{وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنا لكم تبعا}(إبراهيم:21)
ويقول في آية أخرى:
{وإذ يتحاجّون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا}(غافر:47)
وهذا التفريق بين معنيين من "الاتباع" تؤكده الآيات الكريمة حينما تتحدث عن النوع الآخر منه:
{واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون}(الأعراف:157)
وكذلك: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله، وما أنا من المشركين}(يوسف:108)
فالنموذج الذي تقدمه الآيات للاتباع المقبول هو "اتباع النور"، و "اتباع الرسول"، واتباعٌ "على بصيرة"، وقد وجدنا الآيات الكريمة تقدم نموذجاً متكاملاً لما يدعوه القرآن الكريم بـ "السبيل"، وهو يجمع الصُوَرَ المثُلى لكلٍ من "الداعي" و"الدعوة" و"الاستجابة"، فهو سبيلٌ تظلله الهداية؛ لأن هدفه وغايته هو الله، وهو سبيل تسبق فيه "البصيرةُ" "الدعوةَ" ذاتها، ويسبق فيه الفهمُ والإدراكُ الحركةَ نفسها، وهذا السبيل من الاتباع هو الذي يرتقي بالأمة؛ فيحول الكمّ المهمل فيها إلى كيفية فاعلة، ولن يتم كلُ هذا إلا بالوقوف الدائم والمستمر على ضفة الإيمان مستحضرين كل أدوات "التفكر" و "التدبر" و "التبصر".
والتفكر والتدبر هما أداتان لبلوغ الصواب، لكن الإصابة ليست هدفاً مضموناً في كل الحالات، والأمة التي تتوقع الإصابة في كل حالات اجتهادها؛ هي أمة لا تدرك حقيقة الإنسان ودوره في هذه الحياة...
كما أن معرفة الإمكانيات الحقيقية للإنسان تعزز حقيقة وجود كون خارج الحواس؛ وقد حبا الله الإنسان بمجموعة من الحواس مكّنته من إدراك جزءٍ من الحقيقة التي تحيط به، وما يميز تلك الحواس هو محدودية قدرتها، فالعين البشرية ،على سبيل المثال، تدرك المرئيات حسب طول الموجة المنبعثة منها، وما الألوان التي تراها العين إلا تعبيراً عن أطوال مختلفة للموجات المنبعثة من تلك الأجسام. وتقع تلك الموجات المرئية بين (4000-7600) أنجستروم([1])؛ والتي تمثلُ ما يمكن رؤيته من أشياء، ومعنى ذلك أن كل الأجسام التي تنبعث منها موجات تحت ذلك الطول الموجي، وتقع بين (3000-4000) أنجستروم، وتعرف بالأشعة فوق البنفسجية لا يمكن رؤيتها بواسطة العين البشرية، وينطبق الأمر كذلك على الأشعة تحت الحمراء التي يقع الطول الموجي لها فوق (7600) أنجستروم؛ فلا يمكن رؤيتها بالعين المجرد كذلك.
إن محدودية الإمكانيات والقدرات البشرية على إدراك الحقائق من حولنا تمثل عجزاً متأصلا في الإنسان، ويُبررُ هذا العجز -جزئياً- حاجةَ الإنسانِ الدائمة إلى "التوبة"؛ والتي يعرضها الدينُ كفعلٍ بشريٍ لتدارك النقص والخطأ الناشئين عن الضعف الموروث في جبلة هذا المخلوق، ويُنظر إليها كاجتهادٍ إنسانيٍ للتغلب على السلبيات الناشئة عن الحيود والانحراف عن طريق الرشاد... وإن الأديان السماوية لم تأتِ الأديان لتعذيب الإنسان بقدر ما جاءت لتضع أمامه سبيلاً سوياً يسير عليه، ولتضع نُصْبَ عينيه علامات الهداية والرشاد.
إن إدراكنا لحدود بشريتنا وإنسانيتنا يفرضُ علينا القبول بحقيقة إمكانية وقوعنا -كبشر- في الأخطاء، لذلك فقد أطلق أسلافنا على هذا النشاط البشري اسم "الاجتهاد" وهي التسمية الموضوعية المعبرة عن بذل أقصى الجهد لترجيح تحقيق الصواب دون نفي إمكانية الوقوع في الخطأ.
إن المطلوب من الأمة اليوم هو أن تعود لسيرتها الأولى؛ بما حباها عزّ وجل من قدرة على إحداث الفعل والمبادرة به، وتتمثل تلك العودة في إعادة تفعيل أدمغة أبناء الأمة لتبدأ بالتفكير الحر والمبدع من جديد، لكن تلك العودة تظل تُواجَه بعدد من العقبات...
إن تلك العودة تقتضي منا الانسحاب من الاضطراب إلى الثبات، وهذا يقتضي منا تحليل كل ما يقع تحت أيدينا إنطلاقاً من قاعدة ثابتة، .
عقبات في طريق الوعي
أما العقبة الأولى التي تواجه قارئ القرآن وتمنعه من الولوج إلى أسرار جماله فهي فقدان حس التذوق للغة، وقد أدى ذلك إلى فقدان مفردات القرآن لمعانيها، وتحوُل أُخرى إلى كلمات غريبة على قارئه؛ مع أنها تحمل مضامين النص القرآني، وقد أدّى ذلك كله إلى حالة من الضبابية وعدم الفهم لما يطرحه القرآن الكريم من أحكام وتوجيهات، فكانت النتيجة النهائية هجران القرآن من الناحية الفعلية، وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الحالة حين قال:
{وقال الرسول يا ربّ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا}(الفرقان:30)
وقد أدى تلك الحالة إلى أن أصبحت عملية القراءة غير مقترنةٍ دائماً بالفهم، وأصبح عدم فهم القرآن عاملا من عوامل التثبيط لعملية القراءة، وقد أدت تلك الحالة إلى تكريس شبه دائم لحالة الجفاء والهجران بين الإنسان المسلم والقرآن.
ولعل تلك المشكلة المتمثلة بحالة "الهجران"؛ والتي أصبحت تغلف علاقة المسلم بدينه وبكتاب ربه، لعلها تلقي بظلال كثيفة من المسئولية تدفع كل مهتم لإيجاد السبل الكفيلة بالتغلب على تلك الحالة، والتي تعتبر مظهرا من مظاهر السقوط الحضاري؛ والتي تعني في أفدح وجوهها فقدان أداة الفهم، أداة التعبير، وأداة التفاعل مع المحيط أخذاً وعطاءً...
لكن المشكلة ،وبسبب طبيعتها المعقدة، فإننا لا نرى شيئا واحدا يمكن أن نفعله منفردا يكون كفيلا بحلها، لكن قد يكون جزء من الحل هو في تغيير المناهج الدراسية بكاملها، وإعادة بنائها من جديد على أسس مستقيمة، خصوصاً تلك المناهج الخاصة بمراحل التعليم الأساسي، بحيث تتم إعادة اكتشاف وتأهيل الألفاظ الواردة في القرآن الكريم؛ بما يعنيه ذلك من دمجٍ لها في المناهج المختلفة، وإذا ما حدث ذلك فسوف يكون سهلاً على التلميذ، الطالب، الموظف، العامل، ربة البيت، سوف يكون من السهل عليهم جميعاً قراءة القرآن، وإدراك الحد الأدنى المطلوب توفره لإحداث عملية الفهم له، مما سيضعنا ،حتماً، في المكان السليم الذي نستطيع من خلاله استعادة القدرة على "تدبر" النص والانفعال به والتفاعل معه.
وطلب الوصول إلى حالة "التدبر" يجب ألا يفهم منه أننا نسعى لإيصال الجميع إلى مواقع "الاجتهاد"، بل غرضنا منه العودة للتذكير بحقيقة أن القرآن الكريم هو كتاب منزّل من عند الله تعالى؛ ليتم فهمه والتعامل معه بصورة مباشرة من قبل المؤمنين به، وألا يستقر أمر فهمه على مجرد طبقة من رجال الدين التي تحتكر فهمه، وتملي كيفية تطبيقه، كما حدث مع الأديان الأخرى.
أما العقبة الثانية التي تقف في طريق التفاعل بين العقل والنص القرآني الكريم فهي عقبة من نوعٍ آخر، إنها العقبة النفسية والتي تتمثل في خوف بعض قراء القرآن من إعمال العقل فيه وتدبر آياته، اعتقادا منهم بأن من شأن ذلك التدبر إفساد قداسة النص، وقد أدى الحرص المبالغ فيه على عدم المس بقداسة النص القرآني إلى التضحية بالمحصلة المتوخاة من وراء تلك القراءة؛ وهي إحداث حالة من التفاعل مع النص والانفعال به؛ بحيث يتسنى للنص فيما بعد أن يكون عامل تأثير في مجريات حياة الإنسان.
وعلى الرغم من صحة القول بأن للنص القرآني قداسة تفرض محاذير خاصة عند التعامل معه، إلا أنه لمما يتنافى مع طبيعته كذلك أن تؤدي تلك المحاذير إلى إخماد روح التفاعل ما بين القرآن الكريم وقارئه، وإن من شأن تلك الحساسية أن تكون أمراً مقبولاً إذا ما مورست في حدود تؤدي إلى المحافظة عليه من العبث، لكن لا يجوز -ولا بأي حال من الأحوال- السماح لتلك المحاذير أن توقفَ حالة انفعال العقل مع النص، والتي ستؤدي حتماً إلى تعطيل حركة الإنسان باتجاه ربه.
إنه لمما يؤسف له أن تلك الحساسية في التعامل مع النص القرآني -وفي ظل حالة الضعف التي عانت منها الأمة- قد أدت إلى حالة فعلية من الجفاء بين الأمة ومصدر قوتها، وقد ساهمت تلك الحالة في توقف حركة "الاجتهاد" والتي يعني توقفها توقف الحياة ذاتها بالنسبة للأمة.
إذن؛ فإن محاولات تحقيق الهدف المرجو من وراء "تدبر" آيات القرآن الكريم يمكن أن تضع "القارئ" بين محذوري "اقتحام النص" بدون امتلاك ناصية العلم، وفهم اللغة العربية على وجه الخصوص، والآخر: محذور قراءة النص -فقط- ابتغاء تحصيل الأجر، والقراءة -فقط- لغرض تحصيل الأجر من الله عز وجل إن جاءت من العامة كانت مقبولة، لكن لا يمكن قبولها من العلماء الذين أعطاهم الله عزّ وجل نعمة العلم، إذ على أولئك أن يقرأوا النص القرآني الكريم بتدبر وتفكر وفهم.
الغنى الموضوعي في النص القرآني
إنّ محمداً e نبي آخر الزمان، ومعجزته القرآن الكريم، وهي المعجزة الباقيةُ؛ المستمرةُ؛ الخالدة... فكان لابد وأن تتسع آياته لكل ما يطرأ أو يستجد في حياة البشر وفي دنيا الناس من تغيرات، والعلم والاكتشافات هي جزء من تلك التغيرات...
والقرآن الكريم كتابُ تعبدٍ وهداية، لكنه لم يخلُ من شذرات وإشارات إلى أشياء أخرى في مجالات العلوم الإنسانية والطبيعية المختلفة، فهو لم يخلُ من إشاراتٍ تمَتُّ بصلة لعلم الفلك، أو الجيولوجيا... الخ، لذلك فهي تُعدُّ وجهاً آخر متجدداً من وجوه الإعجاز، ودليلاً من دلائل الإثبات بأن هذا القرآن لم يأتِ به بشرٌ من عند نفسه، وقد جاءت الإشارات لتغطي المعارف الإنسانية كافة؛ بحيث يصعب على بشرٍ عادي أن يحيط بمجال تنوعها؛ فضلاً عن إدراك أسرارها!!، والسر في ذلك كما توضحه هذه الآية وأخواتها: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك} (آل عمران:44)
والآيات تأتي في تمام الوضوح وكمال التعبير؛ معبرةً عن أن ما جاء به محمد e لم يكن لبشر أن يحيط به لولا فضل الله في أن يرسل للبشر نوراً يهديهم:
{وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا}(الشورى:52)
وتتعدد المواضيع التي تغطيها الآيات الكريمة، لكن القصص القرآني يجمعه جامع الإحاطة بكل معاني الكمال والتمام؛ ذلك أنه مثلما وصفه عز وجل بأنه {أحسن القصص}...
وهو أحسن القصص في كل سورةٍ من سوره، وكل آيةٍ من آياته، وكل كلمةٍ من كلماته، وكل حرفٍ من حروفه ... فالحُسن هنا إنما ينسحب على القرآن الكريم بتمامه، وقد جاء في افتتاح سورة "يوسف":
{نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن}(يوسف:3)
إن واحدة من الدلالات المذهلة لهذه المعجزة الخالدة يشي بها فهرس سور القرآن الكريم؛ والذي يتناول مواضيع متعددة ومختلفة... فهو يذكر من الحيوانات: البقرة، الأنعام، الفيل!!...
ومن الأسماء والأجناس: يونس، هود، يوسف، إبراهيم، طه، مريم، النساء، الأنبياء، المؤمنون، لقمان، يس، محمد، نوح، الإنسان، قريش، الناس!!...
أما الظواهر الطبيعية والفلك فسجلّها في فهرس القرآن الكريم جدُّ حافل، فضلاً عما احتوته الآيات ذاتها من إشارات، فمن أسماء السور التي حملت تلك الإشارات: الرعد، الدخان، النجم، القمر، المعارج، التكوير، الانفطار، الانشقاق، البروج، الطارق، الفجر، الشمس، الليل، الضحى، الزلزلة، العصر، الفلق!!!..
وفي الأحداث ذات الدلالة في مسيرة الإيمان البشرية جاءت سور: الإسراء، الكهف، الروم، الأحزاب، الفتح!!...
ومن أسماء الحشرات اختيرت أعلام السور: النحل، النمل، العنكبوت!!... وهناك سور كاملة حملت أسماءً لشعائر تعبدية مثل: الحج والجمعة!!... إضافة إلى العديد من السور التي صورت أخلاقاً بعينها يمكن أن تتلبس الإنسان؛ فجاءت السور: المطففين، المنافقون، الماعون، الكافرون!!... لكن سورة عجيبة حملت اسماً أشد إثارة للعجب، هي سورة "الحديد"!!!... إذ لم تحمل سورة أخرى من سور القرآن الكريم اسماً لمسمىً يجمعه والحديد وجه شبه، مما يقطع بأن الحديد فيه ما ليس في غيره مما يعلمه الله ولا نعلمه([2])، وكل ما نعلمه من تلك الحكمة أن الله عزّ وجل قال فيه:
{وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافعُ للناس}(الحديد:25)
لقد كان مما شدّ انتباهي إلى أهمية إجراء هذا البحث وجود ذلك الاسم العجيب لتلك السورة... سورة "الحديد"... ثم ما لبثت لفظة "نحاس" أن أضيفت إلى مخزون ما هو جاذبٌ للنظر من مفرداتٍ حفل بها القرآن الكريم، فزادت من تأثير ذلك الاسم لتلك السورة، سورة "الحديد"، وما لبثت ألفاظٌ جديدةٌ أن أضيفت إلى قائمة الحيرة والاندهاش!!، إذ وردت -على سبيل المثال- لفظة ذرّة، وقد وردت بمعناها المباشر الذي هو أقرب ما يكون إلى الاستخدام العلمي والعملي في عالم اليوم، بعد أن انصرفت عن معناها اللغوي الذي فُهمت به حين تنزلها أو كادت أن تنصرف عنه، لندرك بعد هنيهة أنها وردت بصورة أشد عجباً؛ فقد وردت في كل مواضع ورودها بلفظ "مثقال ذرّة"... ولم ترد كلمة "ذرّة" مجردة ولو لمرة واحدة، وهما المصطلحان اللذان يمكن لمختص في علم الكيمياء أن يفرق بينهما بسهولةً؟!!.
إنها تلك الألفاظ -وغيرها كثير- مما له علاقة وثيقة بعلم الكيمياء؛ والتي دفعتني جميعها باتجاه البحث عنها؛ وعن مواطن الارتباط بين ما عرفناه عنها وبين ما جاء به القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرناً من الزمان؛ حيث ضم بين دفتيه العديد من الألفاظ ذات الإيحاء الموضوعي، تلك الألفاظ التي يمكن أن تمس علماً من العلوم الحياتية، والتي تنتظر أن نسلط عليها أضواء التخصص؛ لنفهم المراد منها، دون أن يؤثر ذلك على المهمة الأساسية التي نَزَلَ القرآن من أجلها... أن يكون كتاب هداية يحمل بين طياته رسالة الرحمة.
إننا ومن خلال ما ذهبنا إليه في هذا البحث أردنا أن نثبت أمراً صار في حكم البَدَهِي، ألا وهو أنه ليست لدى البشر -في زمن بعينه- قدرة مطلقة لتفسيركل ما ورد في القرآن الكريم، بل إن هناك ضرورة لأخذ عامل الزمن بعين الاعتبار، ومن هنا يمكن فهم ما ذهب إليه بعض العلماء حين قال: (من هنا ندرك أن مفسري القرآن قد أخطأوا حتماً، وطيلة قرون في تفسير بعض الآيات التي لم يكن باستطاعتهم أن يفطنوا إلى معناها الدقيق، إنّ ترجمة هذه الآيات وتفسيرها بشكل صحيح لم يكن ممكناً إلا بعد ذلك العصر بكثير، أي في عصر قريب منا، ذلك يتضمن أن المعارف اللغوية المتبحرة لا تكفي لفهم هذه الآيات القرآنية، بل يجب، بالإضافة إليها، امتلاك معارف علمية شديدة التنوع)([3]).
وعلى الرغم من اتفاقنا مع الاقتباس الأخير؛ والذي يفيد بعدم استبعاد حدوث أخطاء في إصابة مرامي القرآن الكريم؛ بسبب محدودية ما يحمله زمن معين من انكشاف لعلوم ومعارف بعينها؛ إلا أننا نجد أن من الإنصاف التأكيد هنا على أن تلك الأخطاء لا تقلل من قيمة جهودهم واجتهاداتهم في محاولاتهم لفهم مرامي النص، بل يجب علينا هنا التركيز على ضرورة استيعاب حقيقة هامة، وهي أن الجهد البشري مجبول دائماً باحتمالات الإصابة أو الخطأ، وأن احتمال الخطأ ليس سبباً كافياً لوقف الاجتهاد ومحاولة متابعة ما بدأوه من جهود.
وأخيرا: فإن نظرتنا لما يقدمه القرآن الكريم من لمحات تمتُ إلى بعض العلوم بصلة؛ يجب أن تكون محكومة بإدراك حقيقي لعدم وجود علاقة بين تلك الإيحاءات التي وردت فيه؛ وبين أية معرفة بشرية يكون قد حققها العرب في تلك الحقبة من تاريخهم، حيث لم يكن العرب قد حققوا تلك النتائج في مجال العلوم التجريبية، بل على العكس من ذلك؛ فلقد برعوا في فنون اللغة وأساليب البيان، التي كانت مناط تحدي القرآن الكريم لهم، بل إن الحقيقة الثابتة اليوم يوردها السيد موريس بوكاي وتتحدث عن أن: (فترة تنزيل القرآن، أي تلك التي تمتد على عشرين عاماً تقريباً قبل وبعد عام الهجرة (622م) كانت المعارف العلمية في مرحلة ركود منذ عدة قرون، كما أن عصر الحضارة الإسلامية النشط مع الازدهار العلمي الذي واكبها كان لاحقاً لنهاية تنزيل القرآن، إن الجهل بهذه المعطيات الدينية والدنيوية هو الذي سمح بتقديم الاقتراح الغريب الذي سمعت -الكلام لازال للسيد بوكاي- بعضهم يصوغونه أحيانا، والذي يقول: إنه إذا كان في القرآن دعاوى ذات صفة علمية مثيرة للدهشة فسبب ذلك هو تقدم العلماء العرب على عصرهم، وأن محمداً e بالتالي قد استلهم دراساتهم... إن من يعرف، ولو يسيراً، تاريخ الإسلام؛ ويعرف أيضاً أن عصر الازدهار الثقافي والعلمي في العالم العربي في القرون الوسطى لاحِق لمحمد e ولن يسمح لنفسه بإقامة مثل هذه الدعاوى الوهمية)([4]).
قد يكون فيما استعرضناه وما سنعرض له في سياق هذا الكتاب ما يعيد التذكير بحقيقة أن الإلمام بكل ما جاء به القرآن الكريم من مواضيع لم يكن ليتسنَ لبشر دون أن يكون على اتصالٍ مباشرٍ بخالقٍ مطلعٍ على الغيب؛ متصفٍ بالعلم والحكمة، لكن الأمر لا يقتصر على تلك الفائدة وحدها، بل يمكن له أن يحمل لنا المزيد من الدلالات.
إن وجود مثل تلك الإشارات يؤكد حقيقة الحالة الخاصة للنص القرآني الكريم؛ وقدرته الفائقة على الاتساع واستيعاب الزمن الحادث بكل ما يحفل به من تطورات واكتشافات، لكن ذلك الاستيعاب لا يعني أن يصبح الغرض من قراءة القرآن الكريم وتعلمه أن نعلم الناس علوم الحياة كعلم الذرّة أو الفلك!!؛ بل يجب النظر إليها على أنها إشارات إلهية مستمرة ومتواصلة على مدى الدهر لإثبات صدق الرسالة، ولتثبيت قلوب المؤمنين بالإيمان:
{وليربط على قلوبكم، ويثبت به الأقدام}(الأنفال:11)
وبذلك يقطعُ النصُ القرآنيُ سلاسلَ الرتابةِ والجمود التي يمكن أن يحفل بها أيُ نصٍ آخر نتيجةً لجمود تعبيراته، فالنص القرآني إنما هو نص متجدد، ويمكن للمتدبر لآياته أن يرى المزيد من إعجازه طالما كان هناك ما يمكن أن تطلع عليه الشمس.
جوانب من الكيمياء في القرآن الكريم
إذا أخذنا بالمنهج الذي قمنا ببسطه في الصفحات السابقة، وقمنا بتطبيقه في مجال علم الكيمياء كنموذج لاستقراء العلوم الطبيعية في القرآن الكريم ودراسته في ضوء الحقائق العلمية المعروفة في علم الكيمياء([5])؛فإن أول ما يسترعي الانتباه في هذا المجال هو أن القرآن الكريم قد غطى طيفاً واسعاً من تفرعات هذا العلم؟!... مبتدئين بالذرّة ذاتها والتي استأثرت وحدها بفرع مستقل من فروع علم الكيمياء هو (الكيمياء الذرية)، وتعتبرالذرة أصغر جزء من أجزاء العنصر ويستمد منها صفاته، بل إن القرآن الكريم قد جذب النظرَ إلى حقيقة وجود ما هو أصغر من ذلك الجزء:
{ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}(يونس:61)
وكأنه يريد أن يسترعي انتباهنا إلى بُنية الذرّة ذاتها!؛ من حيث احتواؤها على الكترونات، وبروتونات، ونيوترونات... الخ... ثم ارتقى القرآن الكريم بنا درجة فشدّ انتباهنا إلى مجموعة العناصر!!، ومن الناحية الكيميائية فإن العنصر الواحد يمتلك ذرات متشابهة، لكن القرآن الكريم وهو يعرض لنا نماذج لبعض العناصر فقد أعطى اهتماماً خاصاًلبعضها، والتي تعرف علمياً بمجموعة "المعادن"، فذكر منها : الذهب، الفضة، الحديد، النحاس...
ثم عاد القرآن الكريم ليرتقيّ بنا درجةً أخرى على سلّم المعارف العلمية الخاصة بعلم الكيمياء؛ فأورد بعد "العناصر" بعضاً من "المركبات"!!؛ فقد وردت لفظة "ملح"، ووردت كذلك لفظة "ماء"([6])، وهما لفظتان تعبران عن مركبين من المركبات الكيماوية.
إن القرآن الكريم وهو يتناول كل هذه الطُرَف؛ لم يتناولها بوصفه كتاباً شارحا للكيمياء، وهذا الأمر متوقع في ضوء ما ذكرناه من حقيقة أن القرآن الكريم ليس كتاباً مهمته تعليم الناس علوم الطبيعة وما شابه، لكن من المقاصد التي يجب أن تؤخذ بالحسبان لدى التعامل مع القرآن الكريم؛ أن تنجذب عقولُنا وأرواحُنا إلى هذا التنوع الواسع، وهذا التعدد العجيب، وهذا التدرج اللامتناهي في شتى درجات اللون؛ والعمق؛ والاتساع... لنبدأ -من ثم- رحلة البحث عن التفاصيل!.
وفي هذا البحث فقد حاولنا أن نقتطف من جِنان القرآن ورودا، ومن بساتينه قطوفاً تراءت لنا متناثرة في ثناياه.. تنوعت بين الذرة، والماء، والحديد والنحاس، والذهب، والفضة، إضافة إلى مجموعة متنوعة من الموضوعات التي تجمعها الكيمياء في عقد واحد...
وقد قصدنا أن نورد في ثنايا بحثنا عدداً من الإضاءات؛ كانت كل واحدة منها تتناول سرا من أسرار الإعجاز القرآني، حيث كشفت كل واحدة منها عن سر لابد من بذل المحاولات الإضافية الجادة لتتبعه واستجلائه في سور القرآن الكريم وآياته كلها.
وقد قصدنا حين تناولنا للموضوعات الواردة في هذا البحث، إيراد الآيات الكريمة المتعلقة بها جميعها، مع إيراد بعض الملاحظات والشرح ،إن أمكن، ومن المأمول أن يكون واضحاً بأن إيراد تلك الآيات بهذا الشكل إنما قصد منه أن تكون هادياً لمن أراد تناول تلك الموضوعات بعد ذلك بمزيد من التفصيل.
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
|