عقبة بن نافع وفتح إفريقية
هو عقبة بن نافع القرشي الفهري، نائب إفريقيا لمعاوية وليزيد،
وهو الذي أنشأ القيروان واسكنها الناس، وكان ذا شجاعة،
وحزم، وديانة، لم يصحّ له صحبة، شهد فتح مصر، واختطّ بها،
فقد اسند معاوية بن أبي سفيان قيادة حركة الفتح في إفريقية إلى
هذا القائد الكبير الذي خلد التاريخ اسمه في ميدان الفتوحات،
وكان عقبة قد شارك في غزو إفريقية منذ البداية مع عمرو بن
العاص واكتسب في هذا الميدان خبرات واسعة، وكان عمرو بن
العاص قد خلفه على برقة عند عودته إلى الفسطاط، فظل فيها
يدعو الناس إلى الإسلام، وقد جاء إسناد القيادة إلى عقبة بن نافع
خطوة موفقة في طريق فتح شمال إفريقيا كله، ذلك أنه لطول
إقامته في برقة وزويلة وما حولها، منذ فتحها أيام عمرو بن
العاص، أدرك أنه لكي يستقر الأمر للمسلمين في إفريقية ويكف
أهلها عن الارتداد، فلا بد من بناء قاعدة ثابتة للمسلمين ينطلقون
منها في غزواتهم، ويعودون إليها ويأمنون فيها على أهلهم
وأموالهم، فلما أسند إليه معاوية بن أبي سفيان قيادة الفتوحات
في إفريقية، أرسل إليه عشرة آلاف فارس وانضم إليه من اسلم
من البربر فكثر جمعه، وسار في جموعة حتى نزل بمغمداش من
سرت، فبلغه أن أهل ودان قد نقضوا عهدهم مع بسر بن أبي
أرطأة الذي كان عقده معهم حين وجهه إليهم عمرو بن العاص
ومنعوا ما كانوا اتفقوا عليه من الجزية، فوجه إليهم عقبة قسماً
من الجيش عليهم عمر بن علي القرشي وزهير بن قيس البلوي،
وسار معهم بالقسم الآخر من الجيش واتجه إلى فزان، فلما دنا
منها دعاهم إلى الإسلام فأجابوا
ثم واصل فتوحاته، فتح قصور كُوّار، وخاور، وغدامس، وغيرها،
ومما يلاحظ أن عقبة تجنّب في مسيرة المناطق الساحلية، فقصد
المناطق الداخلية يفتحها بلداً بلداً، ويبدو أنه فعل ذلك ليأخذ
البربر إلى جانبه ويقيم جبهة داخلية تحيط بالبيزنطيين على
الساحل وتمدّه بالطاقات البشرية للاستقرار والإطاحة بالوجود
البيزنطي
بناء مدينة القيروان
في سنة 50هـ بدأت إفريقية الإسلامية عهداً جديداً مع عقبة بن
نافع، المتمرس بشؤون إفريقية منذ حداثة سنّه، فقد لاحظ كثرة
ارتداد البربر، ونقضهم العهود، وعلم أن السبيل الوحيد للمحافظة
على إفريقية ونشر الإسلام بين أهلها هو إنشاء مدينة تكون محط
رحال المسلمين، ومنها تنطلق جيوشهم فأسس مدينة القيروان
وبنى جامعها، وقد مهد عقبة قبل بناء المدينة لجنوده بقوله: إن
تخطيط للمسجد
إفريقية إذا دخلها إمام أجابوه إلى الإسلام، فإذا خرج منها رجع
من كان أجاب منهم لدين الله إلى الكفر، فأرى لكم يا معشر
المسلمين أن تتخذوا بها مدينة تكون عزاً للإسلام إلى آخر الدهر،
فاتفق الناس على ذلك وأن يكون أهلها مرابطين، وقالوا: نقرب
من البحر ليتم لنا الجهاد والرباط، فقال عقبة إني أخاف أن
يطرقها صاحب القسطنطينية بغتة فيملكها، ولكن اجعلوا بينها
وبين البحر ما لا يوجب فيه التقصير للصلاة فهم مرابطون، ولم
يعجبه موضع القيروان الذي كان بناه معاوية بن حديج قبله،
فسار والناس معه حتى أتى موضع القيروان اليوم، وكان موضع
غيضة لا يرام من السباع والأفاعي، فدعا عليها، فلم يبق فيها
شئ ، وهربوا حتى أن الوحوش لتحمل أولادها، وعن يحي بن
عبد الرحمن بن حاطب قال: يا أهل الوادي! إنا حالون إن شاء
الله، فظعنوا، ثلاث مرات فما رأينا حجراً ولا شجراً إلا يخرج من
تحته دابة حتى هبطنا بطن الوادي: ثم قال للناس: انزلوا بسم
الله، وكان عقبة بن نافع مجاب الدعوة، وقد رأى قبيل من البربر
كيف أن الدواب تحمل أولادها وتنتقل، فأسلموا ثم شرع الناس في
قطع الأشجار وأمر
عقبة ببناء المدينة فبنيت وبني المسجد الجامع، وبنى الناس
مساجدهم ومساكنهم وتم أمرها سنة 55هـ وسكنها الناس، وكان
في الناس، وكان في أثناء عمارة المدينة يغزو ويرسل السرايا،
فتغير وتنهب ودخل كثيراً من البربر الإسلام، واتسعت خطة
المسلمين وقوي جنان من هناك من الجنود بمدينة القيروان
وأمنوا واطمأنوا على المقام فثبت الإسلام فيها، وتم تخطيط
مدينة القيروان على النمط الإسلامي، فالمسجد الجامع ودار
الإمارة توأمان، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فهما دائماً إلى جوار
بعضهما، ويكونان دائماً في قلب المدينة التي يخطتها المسلمون
ويرتكزان في وسطها، وبينهما يبدأ الشارع الرئيسي للقيروان،
الذي سيسمى باسم السماط الأعظم، ثم ترك عقبة فراغاً حول
المسجد ودار الإمارة في هيئة دائرة واسعة، ثم قسمت الأرض
خارج الدائرة إلى خطط القبائل، ليكون استمراراً للشارع الرئيسي
في الاتجاهين إلى نهاية المدينة، وانجفل البربر من نواحي
إفريقية إلى القيروان، وسكنوا حولها وكان الكثير منهم دخل في
الإسلام، وشرعوا في تعلم اللغة العربية والقرآن الكريم وأمور
دينهم وهكذا نشاهد فيما بين سنتي 50 و55هـ حركة قوية بدأت
في تعريب الشمال الأفريقي
1 ـ الخصائص المتوفرة في موضع القيروان :
... كانت الدوافع السياسية والعسكرية والإدارية والدعوية دوافع
قوية في قرار عقبة في اتخاذ موقع القيروان، فقد تميز موقع
القيروان بالآتي :
أ ـ بأنه لا يفصله عن مركز القيادة العسكرية في الفسطاط إي بحر
أو نهر، فهو يقع على الطريق البري الذي يربط بين الفسطاط
(بمصر) وبين المغرب، ويبدو أن عقبة رحمه الله أخذ بنظرية
عمر بن الخطاب في بناء الأمصار والمعسكرات بألا يفصلها
فاصل من نهر أو بحر أو جسر عن المدينة أو مركز القيادة، وأن
تكون على طرف البر أو أقرب إلى البر والصحراء،
ب ـ موافقة الموضع لذهنية العرب ومتطلباتهم الضرورية.
وتتجلى هذه الخصوصية من خلال قراءة توصية عقبة بن نافع
في أن يكون الموضع قريباً من السبخة: فإن أكثر دوابكم الإبل
تكون أبلكم على بابها في مراعيها، وكذلك في الكلمات التي عبر
عنها أصحاب عقبة عندما استجمع رأيهم في الموضع المنتخب،
إذ قالوا: نحن أصحاب أبل ولا حاجة لنا بمجاورة البحر
جـ ـ بأنه يتمتع ببعض الانتاجات والموارد الذاتية، فالمنطقة التي
كان فيها موضع القيروان عبارة غيضة، كما أورد الجغرافيون،
وكان مواجهاً لجبال أوراس، معقل قبائل البربر، إذن، فإنه كان
في بقعة زراعية تتضمن بعض المحاصيل التي تكفل للمجاهدين
المسلمين مورداً غذائياً مهماً
س ـ صحيح أن المشكلة الرئيسية التي جابهتها القيروان بعد
اتخاذها كانت متمثلة بالموارد المائية، كما هي الحال في مدينة
البصرة، مع وجود فارق بين المصرين، فإن مياه البصرة كانت
مع الأنهار غير أنها مالحة. أما مياه القيروان الصالحة للشرب
فكانت تعتمد على مصدرين، الأول منهما الأمطار حيث كانت
تخزن في صهاريج يطلق عليها اسم (المواجل) ، وثانيها مياه
وادي السراويل في قبلة المدينة، لكنه كان مالحاً. لذلك فإن بعض
المؤرخين حدد مصدر مياه القيروان قائلاً: وشربهم من ماء
المطر. إذا كان الشتاء ووقعت الأمطار والسيول دخل ماء المطر
من الأودية إلى برك عظام يقال لها (المؤجل).. ولهم وادٍ يسمى
وادي السراويل في قبلة المدينة يأتي فيه ماء مالح.. يستعملونه
فيما يحتاجونه، ومع ذلك، فإن هذه المشكلة المعقدة يبدو أنها
أخذت تتضاءل تدريجياً إلى حد ما.
إن الموقع الجغرافي لمدينة القيروان كان له دور كبير في إثراء
الحياة العلمية وإنعاشها، فقد كانت في موقع متوسط بين الشرق
والغرب يمرّ بها العلماء والطلبة من أهل المغرب والأندلس في
ذهابهم إلى المشرق، فيسمعون من علمائها، وكثير منهم يصبح
أهلاً للعطاء عند عودته فيسمع منه أهلها، كما كان يدخلها من
يقصد المغرب أو الأندلس من أهل المشرق
ش ـ لقد كانت التجارة في القيروان رابحة والسلع فيها نافقة
ولذلك أمّها كبار التجار من المشرق والمغرب وكثير منهم من
المحدّثين والفقهاء، فكان ذلك عاملاً مهماً في إزدهار الحياة
العلمية بالقيروان