الجزء الثاني
مَنْ سَرَقَ الثوْرَة ؟ (2)
مُقَارَبَات فِكْرِيّة
يروي عبد الله بن المقفّع الكاتب العباسي الأديب أنّ (كسرى أنوشروان ) مرّ على فلاح عجوز وهو يغرس فسيلة نخل فتعجب منه قائلاً : أيها العجوز لمَ تزرع مالا تدرك ثمره ؟ فقال الفلاح العجوز : أيها الملك نزرع ليأكل أبناؤنا . فأعجب كسرى بردّه وأعطاه ( 100 جنيه ذهباً ) ، فقال الفلاح العجوز في فصاحة : أيّها الملك : ما أسرع ما أثمرت النخلة على صغرها ! ، فزاد إعجاب كسرىبه وأعطاه مائة أخرى ، فردّ الفلاح : والأعجب أنّها أثمرت مرتين في هذاالعام .
نزرع ليأكل أبناؤنا !!!! فمن على وجهالحقيقة زرع ؟ ومن على وجه الحقيقة الآن يأكل ؟ من روى بدمه الذكيّةالزكيّة أرضنا ؟ ومن عاد ليمتص هذه الأرض رغبة في بلوغ هذه الدماء ، وادعاءما ليس له ؟ من؟ ومن؟ ومن ؟ ومن؟ وألف ألف من ... ، لكن السؤال بحق : مَنْ سرقَ الثورة ؟؟؟؟؟؟ فلنشرع في المقاربات على الفور ....
المشهدالأول : المتحولون الطامحون الطامعون الراغبون المتشوّفون المتشوّقونالمتلوّنون الحرباؤون المتفيهقون الرغّايون القافزون فوق الأكتاف ،المتسلّقون على الأجساد والدماء والنفوس الزكية ، المتأنّقون دوماً لما هوآت آت ، مجموعات مجموعات تتقدّم في دراما تمثيلية مسرحية إلى صدارة المشهد ،تتعالى الادعاءات بالبطولة والشهامة ، وأنه لولا نحن ، ولولا نحن ولولانحن لما كان وكان وكان ، وأنّنا قدنا وصمدنا وجعلنا صدورنا عرضة للرصاصوالنحاس والألومنيوم والبلاستيك والخزف والصيني والزنك وزيت المِنْكوالصانسيلك ، وأنّ الوقت حان لنعود ونسود ، لنخطط ونرتّب ونسيطر ، لننظمونمنهج ، وأننا وأننا وأننا . يا سادتي نحن في زمن الحرباءات ، تتخذ ألفألف لون لكنّها تبقى في أصلها حرباء ، تتلون مع ما يحيط بها ، لكنّها سرعانما تعود حرباء ، يا سادتي رفقاً لماذا كلكم ( عبده مشتاق ) ؟ يا سادة إنّها مصر ومصر ومصر ، يا سادة لو تكلّم النيل لقال : ( ما لي من قيمة إلابها ، ولو جريْت في غيرها لصرت نُهيْرا لا قيمة لي ) . يا سادتي يقول صلاح عبد الصبور عنها :
رأيتك بعد أن ضاءت ليالي العمر
رأيتك بعد أن ذابت حبال الصبر
رأيتك بعد أعوامٍ ...
طوال مثل آلامي . كما كنت بأحلامي
كأن الليل يا دنياي لم يعبر
كأن الشمس نائمة
بوادي الجن في عبقر .
كأن الكون نشوان ...
يدور بنا ولا يشعر
******
رأيتك بعد أعوامٍٍ ..
من الحرمان والبؤس كأنك وردة بيضاء
ترفرف فوقها نفسي
كأنك في حنايا القلب نغم
في براءتك ملاك طاهر النفس
******
وبعد سنين
من الحرمان والكدر
حملت خلالها ألمي وشاب لهولها شعري
أراك هنا ...
كما كنت كأنّ لم تقتلي قلبا
كأنّ لم تسحقي عمرا
كأنّك في وداعتك ... تضاهي الشمس والقمرا
وكأن الحب مكتوب
على قلبي الذي انفطرا
ليبقى مثل أحزانى
قضاء لي ... أو قدرا .
المشهدالثاني : هتاف مدوّي ، يعلو ويعلو نغماته ( الشعب يريد تغيير السلوك ) ،نعم نحن سرقنا ثورتنا وبعناها بثمن بخس سلوكيات مردودة ، لا تغيير ... نحنسرقنا ثورتنا بإصرارنا على العودة بظهورنا إلى الخلف ، بإعلان الحداد علىأيام مثالية هي أيام الاتحاد الثوري والائتلاف التنموي ؛ أيام التحرير ،نحن سرقنا بهجتنا ، واستكثرنا على أنفسنا أن نفرح ، لم نتغيّر ! ولم نحاول ،من يرمي الزبالة في الطريق كما هو ، من يهمل في أداء واجباته كما هو ، منلم يطهّر لسانه كما هو ، من لم يراع الله في عمله كما هو ، من لم يتغيّرإلا ظاهرياً كما هو ، من لم يتقبّل الآخر كما هو ، من لم يفهم دينه وظروفمجتمعه كما هو ، من لم يحاسب نفسه كما هو ، من لم يبال ويصبح عضوا فيجمهورية ( وأنا مالي ) كما هو ، من كان عضوا في دولة ( مفيش فايدة اليأسيّة ) كما هو ، من انتسب إلى كلية ( معلش ) المطيّباتية منباب ( اللي فات مات ، وربّك عفو كريم ) كما هو ، من ابتسم ابتسامة الذئبوهو أفعى تتلوّى كما هو . هتاف يعلو ويعلو ويعلو ( الشعب يريد !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! ) الشعب نسي ما يريد ، خلاص نروّح ونرجع بكره نكونافتكرنا إحنا عاوزين إيه ...
يا سادتي نحن في أزمة سلوك حقيقية جعلتنا نسرق ثورتنا دون أن ندري . يقول ديل كارنيجي : ( انظرإلى هيئة يدك وأنت تشير إلى أحد ما متّهما إياه ، فأنت تشير إليه بإصبعواحد بينما تشير لنفسك بثلاثة أصابع ) . ولنجعل هتافنا : ( الشعب بدأ فيتأهيل السلوك ) ، ( الشعب بدأ في تربية النفوس ) ، ( الشعب يريد صناعةالرجال ) ، ودعونا نحن نحن لا نسرق فرحتنا وثورتنا بما لا يرضينا منسلوكيات وأفعال .
المشهد الثالث : نهار خارجي ،شمس ساطعة ، وأشجار خضراء يانعة ، في الخلفية نهر النيل وواحد بيغرق دون أنيصيح أنقذوني ... يجلس مذيع باسم الوجه ، مشرف صبوح جميل وأمامه يجلس :
المنظّرون، العالمون ببواطن الأمور،الخبراء ، المحذّرون من عواقب الأمور ،الأوصياء ، الأنقياء ، الأتقياء ، الأصدقاء ، الناصحون همساً وجهراً ،المراقبون لأحوالنا ، الخائفون على مستقبلنا ، الثرثارون ، المتشدّقون ،مَن أفرغوا أجولة خبراتهم علينا تحذيرا وتحميرا وتخديرا وتصفيرا وتسفيراوتشميرا إمعانا في النصيحة والفضيحة وال.... ، صرخ المذيع : ( ارحموووووووووووووووووووونا ) زمن الوصاية انتهى ، دعونا نتعلّم ونخطئ ،دعونا نتعلم من أخطائنا ، دعونا نخوض الأمور بجسارة وتهوّر ، وجّهونا لكنلا تخنقونا ( كفاية كده ) ، أرشدونا لكن لا تعصبوا الأعين مرة أخرى ،انصحونا لكن بلطف ، لا تسفهوا أفكارنا ، ولا تسرقوا أحلامنا ، ولا تخطفوافرحتنا ، ولا تنهبوا ثورتنا ، ولا تتصدروا المشهد ، ( فالحكيم هو من أدارالأمور دون ظهور ) . يا سدنة المعرفة ، وحاملي مفاتيح الخبرة رفقاً بناوبكم وبنا وبكم وبنا وبكم . لقد أصبحتم في كلّ مكان حتى خفت أن تنزلوا لنامن الحنفية مع الميّة ، رفقاً فالتنظير كلام ، وهذا بحق ليس أوان الكلام ،هذا أوان الأفعال ، نحن نصنع أمة فلا تثبطوا الهمة ، نحن نشيّد للتاريخصرحا جديداً فلا تقتلوا فينا وليد الأمل ، ولا بكر النبتة ، بعد إذنكمارحمووووووووووووووووووووونا .
المشهد الرابع : هلنحن شعب كذّاب نخترع أكاذيبنا ثمّ نصدّقها فتصير حقيقة ؟ هل نحن من ندّخرفي بيوتنا آلاف من شماعات الأعذار والمبررات لإخفاقاتنا المتواليةالمتتالية المتوارية المتوازية المتنامية ؟ هل اخترعنا مقولة : ( أننا إزاءثورة مضادة ، ثمّ صدقنا ما اخترعناه ؟) سيقول قائل : يا سيدي اقرأ الواقع، أمن دولة ، وفلول حزب وطني ، ومجموعات أصحاب مصالح سياسية واقتصادية ،كل هذا يجعل من الثورة المضادة واقعاً يتشكّل ، يستكمل القائل : يا سيدي هلأنت نائم على ودانك وأنفك وفمك فلا ترى ما يجري ؛ فتنة طائفية ، وشغب ،ومظاهرات فئوية ، وتدمير مساجد وأضرحة ، ووووووووو...... ما رأيك ؟
أقوللمحدّثي : عندك ألف مليون حق ، لكن اسمح لي أن أفرّق بين انسحابي منالمعركة وتقدم الأعداء لا لقوّتهم لكن لانسحابي ، يا سيدي أنا تركت ثورتيلهم ، فنهبوها ، اغتصبوها ، يا سيدي : أنا من ساعدهم على جعلي أصدّق أنهمثورة مضادة ، يا سيدي أين من يحمونني ويقبضون من ضرائبي ؟ أين رجال الشرطة ؟يا سيدي لي صديق منهم يخبرني : أنا لم أعد أستطيع أن أحمي نفسي فكيف تطلبمني حمايتك ؟!! يا سيدي : نحن أصحاب ثورة 25 يناير من صنعنا الثورةالمضادة بسلبيتنا وهمجيتنا وسلوكياتنا ، نحن صنعناها مضادة وهي ليست كذلكهي أحقر من أن تكون مضادة ، يا سيدي : والله لن تكون سوى ثورتنا ثورة ، حتىلو ضحينا كلّنا بأنفسنا لئلا يخرج علينا من جديد من يخبرنا : ( أنا ربّكمالأعلى ) ، أو من يقول : ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) ، يا محدّثي المؤدب أنا من صنعته وحشاً وأخاف أن ينقلب عليّ ، لكنّنيبعد اليوم لن أخاف ، لن أخاف .
المشهد الخامس كان مما قرأته في عام 2008 قصيدة شعر عامي بعنوان ( يا بلدنا ليه ) للطالب – حينئذ – أحمد الحلبي إذ يناجي بلدنا ( التي كانت مملوكة لغيرنا) بقوله :
على نيل بلدنا اللي اتْرسم
جوّانا من مليون سنه
شفت القلم بيكلّم الناس
والجراح قاسية عليه
وكأنه واحد منّنا
وكأنّنا
متجمّعين ضد العدا
شفت القلم بيشتكي
ويقول علينا مجروحين
والنيل بيجري ويرتوي
خونة وقلوب متجمّعة ضد البلد
والظلم عايش ليه كتير على أرضنا
يا بلدنا ليه متوحّديش
كلّ القلوب متفرّقة
أنا شفتك إنتيبترسميني وتضحكي
وشفت ناس مش فاهمة إيه معنى الحياة
دا النيل روانا كلّنا
والزرع كلْناه كلّنا
وسمانا دافية
وحاضنة ناسها وأهلها
يا بلدنا ليه متوحّديش
كلّ القلوب متفرّقة
أنا ليه حياتي مش لاقيها
في أرضك إنتي
وليه حبيبتي مش لاقيني
معاكي إنتي
وبلدنا ليه متفرّقة
والفرحة في إيدين العدا
يا بلدنا ليه
سايبة الديابة في أرضنا
ترعى وتاكل لحمنا
وتقولي دول حبّة رعاع
ساعة الشروق راح تختفي
يا بلدنا ليه متوحّديش
وتصدّي عنّا ميت عدا
وسط الزحام ورعشة القلب اللي داب
خايف وخوفي من السنين
أقوى من الحب اللي كان
شفت الهوا بعترْ ضفاير أرضنا
فوق أرض تانية مش لاقيها عندنا
يا بلدنا ليه متوحّديش
كلّ القلوب متفرّقة
خايف عليكي من النهار
خايف عليكي من الانكسار
خايف على قلبك كمان
لتشوفي أرضي بتنهزم
يا بلدنا ليه متوحّديش
كلّ القلوب متفرّقة
....
مَنْ سَرَقَ الثوْرَة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
منقـــــــــــــــــــــــــــــول