والقصد أننا لا نعني بكلمة فرقة إلا التفرق المذموم في الشرع وهو الابتعاد عن أصالة الإسلام الذي يمثله جيل الصحابة ومن تبع أثرهم. ونحن نعلم أن هناك أفاضل ينتسبون إلى التصوف ولكن هذا لا يمنع من الكلام عن الصوفية بشكل عام, وهؤلاء العلماء أخذوا بجانب الصوفية لظنهم أنها الطريق الوحيد لتربية النفس, وهذا خطأ منهم, ومع ذلك فهم لا يتعمقون في التصوف المنحرف المؤدي إلى البطالة أو الكفر, والمرجئة كذلك تصنف مع الفرق ومع ذلك فقد ابتلي بها بعض العلماء فإذا اعتبرنا الصوفية فرقة ابتعدت قيلاً أو كثيراً عن منهج السلف فلا يعني هذا أن كل من انتسب إليها ضال منحرف, فقد يكون من أعظم العباد ولكن فيه نقصاً في جانب من جوانب الإسلام الشامل المتكامل والمسلم يكون فيه من النقص بمقدار ابتعاده عن السنة.
1- ونحن لا ننكر أن أوائل الصوفية أثروا الجانب الروحي ـ إذا صح التعبير ـ بكلامهم عن أعمال القلوب و خطراتها والتركيز على الإخلاص والتوكل والإنابة والخشية لله سبحانه وتعالى ولكنهم تشددوا في هذا ونقبوا عما لم ينقب عليه من هو أفضل منهم, كما أننا لا ننكر أن البعض في الطرف المقابل قد يكون عنده قسوة قلب وهذا مرفوض أيضاً, بل هذا فيه شبه باليهود الذي وصفهم الله سبحانه في القرآن بأن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة, كما أن عبادة الله دون علم فيه شبه بالنصارى والتوسط المعتدل هو المطلوب, " صراط الذين أنعمت عليهم " فلا نكون كالمغضوب عليهم وهم اليهود, ولا كالضالين وهم النصارى.
2- إن التصوف بالمعنى الاصطلاحي الذي قررناه مستمر إلى الآن وله أثر سلبي واضح في تربية الأجيال المسلمة, تربية الإذلال والعبودية للشيخ, وتصديق كل ما هو غير معقول؟! إنها مأساة حقيقة أن يظهر بين الفينة والأخرى دجال كذاب يمشي وراءه شباب من طلبة الكليات العلمية وغير العلمية, عدا العوام وأنصاف العوام. هذه التربية جعلت من هؤلاء الشباب أصفاراً بلهاء ينتظرون كلمة من الشيخ أو معجزة خارقة على يديه.
يقول ابن عقيل محذراً من الصوفية والمتكلمين:
[ ما على الشريعة أضرمن المتكلمين والمتصوفين, فهؤلاء ( المتكلمون ) يفسدون عقائد الناس بتوهمات شبهات العقول, وهؤلاء ( المتصوفة ) يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان. فالذي يقول: حدثني قلبي عن ربي فقد استغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد خبرت طريقة الفريقين فغاية هؤلاء ( المتكلمين ) الشك, وغاية هؤلاء ( المتصوفة ) الشطح ] [1].
لهذه الأسباب ولاستمرار المتصوفة في تخريب الأجيال الإسلامية في كل مكان كان لا بد من الكتابة عنهم, ونحن إن شاء الله لا نبخس الناس أقدارهم ولكن كل طائفة أو فرقة تظن أنها وحدها على الحق, وكل حزب بما لديهم فرحون, فهم يظنون أنهم أفضل الخلق, وأنهم صفوة أوليائه, فالغزالي[2] يعتقد أن هذا هو الطريق ولا طريق غيره لتصفية النفس, وكأنه لم يسمع بشيء اسمه أهل السنة والجماعة أو أهل الحديث, أهل العلم والعمل أمثال أحمد بن حنبل وعبد الله بن المبارك وأئمة أهل الفقه والحديث وهم كثيرون جداً[3].
والذي يقرأ في أول شدوه للعلم كتب الغزالي أو الحارث المحاسبي[4]يظن أن هذا هو الطريق ولا طريق غيره, وتبقى الحقيقة وراء كل ذلك قائمة كالشمس في رابعة النهار, تلوح لمن صح قصده, وأصاب علمه, وانتهج الصراط المستقيم.
وأخيراً نرجو من الله سبحانه وتعالى أن نوفق لعرض نشأة الصوفية وتطورها بدون تعصب أو تحامل والله من وراء القصد, والحمد لله رب العالمين.
[1] تلبيس إبليس /375 .
[2] أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي الغزّالي, تفقه على إمام الحرمين ومهر في الكلام والجدال وتأثر بكتب ابن سيناء وإخوان الصفا ثم ترك ذلك ومال إلى الصوفية, وكان من الأذكياء, صاحب ذهن سيال جوال ولذلك يلاحظ عليه التقلب بين الفقه والالتزام بآداب الشرع وبين الخوض في الفلسفة والكلام والصوفية , وله في ذلك ألفاظ مستبشعة جداً سقط فيها على أم رأسه, له تآليف مشهورة في الفقه والتصوف والرد على الفلاسفة. انظر: سير أعلام النبلاء 19/322 وما نقله من أقوال العلماء فيه, مبالغة منه في الأنصاف. توفي أبو حامد سنة 505 هـ ببلدة طوس.
[3] انظر كتاب الغزالي: المنقذ من الضلال, فقد قسم فيه الطرق الموصلة للحق إلى أربعة: الفلسفة, الكلام, الإمام المعصوم, الكشف ثم رضي بالأخير دليلاً له إلى الحق.
[4] هو الحارث بن أسد المحاسبي البغدادي, له كتب كثيرة في الزهد, رفض تركة أبيه لخوضه في علم الكلام. سئل أبو زرعة الرازي عن كتبه فنهى عنها وقال: ( عليك بالأثر وهل بلغكم أن مالكاً والثوري والأوزاعي صنفوا في الخطرات والوساوس ) توفي المحاسبي سنة 143 هـ. انظر: صفة الصفوة 2/367 سير أعلام النبلاء 2/110.