الأصل السابع
من المهم في هذا الأصل إدراك أنالرأي الفكري نسبيُّ الدلالة على الصواب أو الخطأ ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ همالأنبياء عليهم السلام فيما يبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى . وما عدا ذلك فيندرج تحتالمقولة المشهورة ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي الآخر خطأ يحتملالصواب ) .
وبناء عليه ؛ فليس من شروطالحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر . فإن تحقق هذا واتفقناعلى رأي واحد فنعم المقصود ، وهو منتهى الغاية .
وإن لم يكن فالحوار ناجح . إذاتوصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كلٍ من منهجيهما ؛ يسوغ لكل واحد منهما التمسك بهما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ . وما تقدم من حديث عن غاية الحوار يزيد هذاالأصل إيضاحاً .
وفي تقرير ذلك يقول ابن تيميةرحمه الله : ( وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في مسائل الاجتهادية ،ولا يكلفه أن يوافقه فهمه ) ا هـ . من المغني .ولكن يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاعوقطيعة ، وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطئةأيها الأخوة :هذه كلمات في أدب الحوارمُشتمِلَةٌ العناصر التالية
:تعريف الحوار وغايته
تمهيد في وقوع الخلاف في الرأي بين الناس
بيان لمُجمل أصول الحوار ومبادئه
بسط لآدابه وأخلاقياته .سائلاً المولى العليالقدير التسديد والقبول ..تعريف:الحوار :من المُحاورة ؛ وهيالمُراجعة في الكلام .الجدال :من جَدَلَ الحبل إذا فَتَلَه ؛ وهو مستعمل في الأصللمن خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب ، ثم استعمل في مُقابَلَة الأدلةلظهور أرجحها .والحوار والجدال ذو دلالة واحدة ، وقد اجتمع اللفظان فيقوله تعالى : {قَدْسَمِعَ اللَّه قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِو اللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (المجادلة:1)
ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس :
مناقشة بين طرفين أو أطراف ، يُقصد بها تصحيح كلامٍ ، وإظهار حجَّةٍ ، وإثباتحقٍ ، ودفع شبهةٍ ، وردُّ الفاسد من القول والرأي .وقد يكون من الوسائل فيذلك : الطرق المنطقية والقياسات الجدليَّة من المقدّمات والمُسلَّمات ، مما هومبسوط في كتب المنطق وعلم الكلام وآداب البحث والمناظرة وأصول الفقة .غايةالحوار:الغاية من الحوارإقامةُ الحجة، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي . فهو تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها ، ليكشف كل طرف ماخفي على صاحبه منها ، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق . يقول الحافظ الذهبي :
( إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ ، وإفادةِالعالِم الأذكى العلمَ لمن دونه ، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ ) .هذه هي الغاية الأصلية ، وهي جليَّة بيِّنة ، وثَمَّتغايات وأهداف فرعية أو مُمهِّدة لهذا الغايةمنها :-إيجاد حلٍّ وسط يُرضي الأطراف .-التعرُّف على وجهات نظر الطرف أو الأطراف الأخرى ، وهو هدف تمهيدي هام .-البحث والتنقيب ، من أجل الاستقصاءوالاستقراء في تنويع الرُّؤى والتصورات المتاحة ، من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمْكَنَ ، ولو في حوارات تاليةوقوع الخلاف بين الناس
الخلاف واقع بين الناس في مختلف الأعصار والأمصار ، وهو سنَّة الله في خلقه ، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم ومُدركاتهم ومعارفهم وعقولهم ، وكل ذلك آية من آيات الله ، نبَّه عليه القرآن الكريم في قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ } (الروم:22)
وهذا الاختلاف الظاهريّ دالُّ على الاختلاف في الآراء والاتجاهات والأعراض . وكتاب الله العزيز يقرر هذا في غير ما آية ؛ مثل قوله سبحانه : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود:119) .
يقول الفخر الرازي :
( والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال ) .
ومن معنى الآية : لو شاء الله جعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة .. لا رأي لهم فيه ولا اختيار .. وإِذَنْ لما كانوا هذا النوع من الخلق المُسمّى البشر ؛ بل كانوا في حيلتهم الاجتماعية كالنحل أو كالنمل ، ولكانوا في الرّوح كالملائكة ؛ مفطورين على اعتقاد الحقِّ والطاعة ؛ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، لا يقع بينهم اختلاف ولا تنازع . ولكنّ الله خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا مُلْهَمين . عاملين بالاختيار ، وترجيح بعض المُمْكنات المتعارضات على بعض ؛ لا مجبورين ولا مضطرين . وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم واختلاف الاختيار .
أما قوله تعالى : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود:119) .
فلتعلموا أن اللام ليست للغاية ؛ فليس المُراد أنه سبحانه خلقهم ليختلفوا ، إذ من المعلوم أنه خلقهم لعبادته وطاعته . وإنما اللام للعاقبة والصَّيْرورة ؛ أي لثمرة الاختلاف خلقهم ، وثمرته أن يكونوا فريقين : فريقاً في الجنة ، وفريقاً في السعير .
وقدّ تُحْملُ على التعليل من وجه آخر ، أي خلقهم ليستعدَّ كلٌ منهم لشأنٍ وعمل ، ويختار بطبعه أمراً وصنعة ، مما يَسْتَتِبُّ به نظام العالم ويستقيم به أمر المعاش ، فالناس محامل لأمر الله ، ويتخذ بعضهم بعضاً سخرياً .
خلقوا مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم ومشاعرهم ، وما يتبع ذلك من إراداتهم واختيارهم في أعمالهم ، ومن ذلك الإيمان ، والطاعة والمعصية
وضوح الحق وجلاؤه
وعلى الرغم من حقيقة وجود هذا التَّبايُن بين الناس ؛ في عقولهم ومُدركاتهم وقابليتهم للاختلاف ، إلا أن الله وضع على الحقِّ معالمَ ، وجعل على الصراط المستقيم منائرَ .. وعليه حُمِلَ الاستثناء في الآية في قوله :
{ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } (هود:119) .
وهو المنصوص عليه في الآية الأخرى في قوله :
{ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } (البقرة:213) .
وذلك أن النفوس إذا تجرَّدت من أهوائها ، وجدَّت في تَلَمُّس الحقِّ فإنها مَهْديَّةٌ إليه ؛ بل إنّ في فطرتها ما يهديها ، وتأمَّل ذلك في قوله تعالى :
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (الروم:30) .
ومنه الحديث النبوي :
(( ما من مولود إلا يُولدُ على الفِطْرة ، فأبواه يُهوّدانه ، ويُنصرانه ، ويُمجِّسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تُحِسّون فيها من جَدْعاء حتى أنتم تجدعونها ؟ )) .
ويُوضح ذلك ، أن أصول الدين ، وأمَّهات الفضائل ، وأمَّهات الرذائل ، مما يتفق العالم الرشيد العاقل على حُسْن محموده وحمده ، والاعتراف بعظيم نفعه ، وتقبيح سيِّئه وذمِّه . كل ذلك في عبارات جليَّة واضحة ، ونصوصِ بينِّة لا تقبل صرفاً ولا تأويلاً ولا جدلاً ولا مراءاً . وجعلها أمّ الكتاب التي يدور عليها وحولها كل ما جاء فيه من أحكام ، ولم يُعذَرْ أحد في الخروج عليها ، وحَذَّر من التلاعب بها ، وتطويعها للأهواء والشهوات والشبهات بتعسف التأويلات والمُسوِّغات ، مما سنذكره كأصل من أصول الحوار ، ورفع الحرج عنهم ، بل جعل للمخطيء أجراً وللمصيب أجرين تشجيعاً للنظر والتأمل ، وتَلَمُّس الحقّ واستجلاء المصالح الراجحة للأفراد والجماعات .
ولربك في ذلك الحكمة البالغة والمشيئة النافذة .
مواطن الاتفاقإنّ بِدْءَ الحديثوالحوار بمواطن الاتفاق طريق إلى كسب الثقة وفُشُوِّ روح التفاهم . ويصير به الحوارهادئاً وهادفاً .
الحديث عن نقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقاً من التلاقيوالقبول والإقبال ، مما يقلّل الجفوة ويردم الهُوَّة ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضلوأقرب ، كما يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد .
والحال ينعكس لو استفتحالمُتحاورون بنقاط الخلاف وموارد النزاع ، فلذلك يجعل ميدان الحوار ضيقاً وأمدهقصيراً ، ومن ثم يقود إلى تغير القلوب وتشويش الخواطر ، ويحمل كل طرف على التحفُّزفي الرد على صاحبه متتبِّعاً لثغراته وزَلاته ، ومن ثم ينبري لإبرازها وتضخيمها ،ومن ثم يتنافسون في الغلبة أكثر مما يتنافسون في تحقيق الهدف .
ومما قاله بعض المُتمرّسين في هذا الشأن :دَعْصاحبك في الطرف الآخر يوافق ويجيب بـ ( نعم ) ، وحِلْ ما استطعت بينه وبين ( لا ) ؛لأن كلمة ( لا ) عقبة كؤود يصعب اقتحامها وتجاوزها ، فمتى قال صاحبك : ( لا ) ؛أوجَبَتْ عليه كبرياؤه أن يظلّ مناصراً لنفسه .
إن التلفظ بـ ( لا ) ليستفوُّها مجرداً بهذين الحرفين ، ولكنه تَحفُّز لكيان الإنسان بأعصابه وعضلاته وغدده، إنه اندفاع بقوة نحو الرفض ، أما حروف ( نعم ) فكلمة سهلة رقيقة رفيقة لا تكلف أينشاط جسماني .
ويُعين على هذا المسلك ويقود إليه ؛إشعارك مُحدثَّك بمشاركتك له في بعض قناعاته ؛ والتصريح بالإعجاب بأفكاره الصحيحةوأدلته الجيدة ومعلوماته المفيدة ، وإعلان الرضا والتسليم بها . وهذا كما سبق يفتحالقلوب ويُقارب الآراء ، وتسود معه روح الموضوعية والتجرد .وقد قالعلماؤنا : إن أكثر الجهل إنما يقع في النفي ؛ الذي هو الجحود والتكذيب ؛ لا فيالإثبات ، لأن إحاطة الإنسان بما يُثْبتُه أيسر من إحاطته بما ينفيه ؛ لذا فإنأكثر الخلاف الذي يُورث الهوى نابع من أن كل واحد منالمختلفين مصيب فيما يُثْبته أو في بعضه ، مخطيء في نفي ما عليه الآخر .
أصول الحوارالأصل الأول :سلوك الطرق العلميةوالتزامها:ومن هذه الطرق :
1- تقديم الأدلة المُثبِتة أو المرجِّحة للدعوى .
2- صحة تقديم النقل في الأمورالمنقولة .
وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة :
( إنكنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل ) .
وفي التنزيل جاء قولهسبحانه : {قُلْ هَاتُوابُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}وفي أكثر من سورة :البقرة :111 ، والنمل 64 .
{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُمَنْ قَبْلِي} (الانبياء:24) .
{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِفَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آلعمران:93) .
الأصل الثاني :سلامة كلامِ المناظر ودليله من التناقض ؛ فالمتناقض ساقط بداهة .ومن أمثلة ذلك ما ذكره بعض أهل التفسير من :
1- وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله : {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذريات:39) .
وهو وصف قاله الكفار – لكثير منالأنبياء بما فيهم كفار الجاهلية – لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وهذان الوصفانالسحر والجنون لا يجتمعان ، لأن الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء ، أماالمجنون فلا عقل معه البته ، وهذا منهم تهافت وتناقض بيّن .
2- نعت كفار قريش لآيات محمد صلى الله عليه وسلم بأنها سحرمستمر ، كما في قوله تعالى : {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌمُسْتَمِرٌّ} (القمر:2) .
وهو تناقض ؛فالسحر لا يكون مستمراً ، والمستمر لا يكون سحراً
__________________
اطلبوا العلم، فإن عجزتم فأحبوا أهله، فإن لم تحبوهم فلاتبغضوهم هيا بنا نتعلم الديمقراطية <!-- Facebook Badge START --><!-- Facebook Badge END -->
|