عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 30-05-2011, 09:55 PM
osama_mma14 osama_mma14 غير متواجد حالياً
عضو متواصل
 
تاريخ التسجيل: Oct 2008
المشاركات: 867
معدل تقييم المستوى: 17
osama_mma14 is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثاني : الاقتصاد الرأسمالي كعلم أو مذهب
مقدمة:‏
كما يقسم الاقتصاد الماركسي إلى علم ومذهب، كذلك، يقسم الاقتصاد الرأسمالي إلى علم ومذهب.‏
فمنذ فجر التاريخ العلمي للاقتصاد، حين كان آدم سميث وريكاردو يضعان بذور هذا العلم وبنياته الأولية (الاقتصاد الطبيعي الكلاسيكي) سادت الفكر الاقتصادي آنذاك فكرتان:‏
- إحداهما: أن الحياة الاقتصادية تسير وفقاً لقوى طبيعية محدودة تتحكم في كل الكيان الاقتصادي للمجتمع، كما تسير شتى مناحي الكون طبقاً لقوى الطبيعة المتنوعة. والواجب العلمي تجاه تلك القوى التي تسيطر على الحياة الاقتصادية هو اكتشاف قوانينها العامة التي تصلح لتفسير مختلف الظواهر والأحداث الاقتصادية.‏
- والأخرى: أن تلك القوانين الطبيعية كفيلة بضمان السعادة البشرية، إذا عملت في جو من الحرية المطلقة، وأتيح لجميع أفراد المجتمع التمتع بتلك الحرية في مجالات: التملك، والاستغلال، والاستهلاك.‏
وقد وضعت الفكرة الأولى البذرة العلمية للاقتصاد الرأسمالي، والثانية بذرته المذهبية.‏
ولقد ارتبطت الفكرتان حتى خيل للمفكرين الاقتصاديين أن تقيد حرية الأفراد والتدخل في الشؤون الاقتصادية من الدولة، يعني الوقوف في وجه الطبيعة وقوانينها، وبالتالي يعتبر جريمة في حق القوانين الطبيعية العادلة...!‏
وهذا اللون من التفكير -في حد ذاته- يخرج علم الاقتصاد من حيِّز العلوم الاقتصادية. فالخروج على قانون طبيعي علمي لا يعني أن هناك جريمة ارتكبت في حق هذا القانون، وإنما يبرهن على خطأ هذا القانون، وينزع عنه صفة العلم الموضوعي. فالقوانين الطبيعية لا تختلف في ظل الشروط والظروف المختلفة، وإنما تختلف باختلافها آثارها ونتائجها.‏
وعلى هذا، لا بد من أن تدرس الحريات الرأسمالية، لا بوصفها ضرورات علمية تحتمها القوانين الطبيعية، وإنما تدرس على أساس مدى ما يتيح للإنسان من سعادة وكرامة، وللمجتمع من قيم ومثل...‏
وفي الواقع، فإن المذهب الرأسمالي ليس له طابع علمي، ولا يدعي لنفسه هذه الصفة، كما أنه لا يستمد كيانه من القوانين العلمية، كالمذهب الماركسي، وإنما يستمد كيانه من تقديرات مادية بحتة. وتقتصر العلاقة بين الجانب العلمي والجانب المذهبي في تحديد الإطار ومجرى الاتجاه للقوانين العلمية. أي أن القوانين المذكورة لا تعمل إلا في ظل الظروف الاجتماعية التي تسيطر عليها الرأسمالية بجوانبها الاقتصادية وأفكارها ومناهجها، وليست مطلقة كالقوانين الفيزيائية والكيميائية، تنطبق على كل مجتمع وفي كل زمان ومكان.‏
ولا بد لإيضاح ذلك من إلقاء بعض الضوء على عدد من القوانين الاقتصادية المذكورة لكي نعلم كيف، وإلى أية درجة يمكن الاعتراف لها بصفة العلم.‏
آ- قوانين الاقتصاد الرأسمالي العلمية‏
قانون العرض والطلب :‏
-هذا القانون القائل: "إن الطلب على سلعة إذا زاد، ولم يكن في المقدور زيادة الكميات المعروضة استجابة للزيادة في الطلب، فإن ثمن السلعة لا بد أن يرتفع".‏
هذا -في الواقع- ليس قانوناً موضوعياً كقوانين الفيزياء والفلك. وإنما يمثل ظواهر الحياة الواعية للإنسان. فهو يوضح أن المشتري سيقدم -في مثل الحالة المذكورة- على شراء السلعة بثمن أكبر من ثمنها، وأن البائع سيمتنع عن البيع إلا بذلك الثمن.‏
ونظراً لعلاقته بإرادة الإنسان، فهي تتأثر بكل المؤثرات التي تطرأ على الوعي الإنساني. فليس صحيحاً من الناحية الإنسانية أن الإرادة الإنسانية في مجرى الحياة الاقتصادية تسير دائماً، وفي كل مجتمع، كما تسير في المجتمع الرأسمالي، ما دامت المجتمعات تختلف في إطاراتها الفكرية والمذهبية والروحية، وليست بالضرورة غارقة في ضرورات المادة ومفاهيمها إلى قمتها.‏
فالرأسمالية، كما رأينا، مثلها مثل الاشتراكية، من أجل تدويل نظامها وفرضه على كافة شعوب العالم، أرغمتهم مسبقاً بأن يتقولبوا بقالبها الفكري والروحي والإحساسي والنفسي، بغسل أدمغتهم -تحت شعار التطور- لكي يتكون لديهم ذات الإحساس بالمشاكل التي ادعتها ومن ثم حتمت عليهم ذات الحلول لكي تفرض -من خلالها- سيطرتها على العالم أجمع..‏
فالقاعدة الرئيسية التي وضع في ضوئها كثير من القوانين الاقتصادية الكلاسيكية تجرد الإنسان من كل الروابط الاجتماعية -فيما عدا المادة- وتفترض أن كل إنسان، هو في قرارة نفسه، إنسان اقتصادي يؤمن بالمصلحة المادية الشخصية كهدف أعلى. وهذه القاعدة، لا تنطبق إلا على المجتمع الرأسمالي الأوروبي، وطابعه الفكري والروحي، وأساليبه الخلقية والعملية. إلا أنها -كما رأينا- تسربت، من خلال غسل الأدمغة الدائم، عن طريق الاستعمار الثقافي والعلمي والاقتصادي.. الخ إلى المجتمعات الأخرى في كل ركن من أركان المعمورة.‏
فأين ما كان دائراً في المجتمعات الإسلامية في عصورها الزاهرة، مما يدور فيها الآن؟ ويمكننا أن نورد -على سبيل المثال- الفقرة التالية في وصف الإجارات والتجارات للشاطبي:‏
(( نجدهم في الإجارات والتجارات، لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الاجرة، حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسباً لغيره لا له. ولذلك بالغوا بالنصيحة فوق ما يلزمهم. فكأنهم وكلاء للناس لا لأنفسهم، بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم -وإن جازت- هي كالغش لغيرهم ))‏
وإلى عهد غير بعيد، وقبل أن يستفحل الغزو الثقافي الغربي في المجتمع الإسلامي، كان سائداً في أسواق الباعة التقليديين في حلب، عندما يطلب شخص من بائع شراء حاجة أن يجيبه: "اذهب إلى جاري- إنني استفتحت (أي بعت شيئاً)، بينما جاري لم يستفتح بعد...!".‏
من هنا ندرك مدى الخطأ في إخضاع مجتمع، كان يتمتع بمثل هذه الخصائص والمقومات، لنفس القوانين التي يخضع لها مجتمع رأسمالي زاخر بالأنانية والمفاهيم المادية.‏
ولقد شهد الربع الأخير من هذا القرن كيف أن المسيطرين على الفكر الرأسمالي يتلاعبون بالعرض والطلب، ويخلقون القوانين العلمية حسب مصلحتهم.‏
وإلا..! ما الذي أدى في أوائل الثمانينات إلى أن تهبط أسعار البترول من 42 دولاراً للبرميل إلى ما دون السبع دولارات؛ وتنهار أسعار المواد الأولية الأخرى إلى أدنى مستوى شهدته في تاريخها، هذا، بينما كان الاقتصاد الغربي يواصل نموه بشكل جيد في النصف الثاني من الثمانينات؟!.. إن الزوبعة الكاذبة والضالة التي خلقوها بإيهام البلدان البترولية بوصولهم إلى خلق مواد بديلة للطاقة. في ذلك الحين، وتحول البترول إلى مادة نتنة سوف تفسد في آبارها، هي التي أدت إلى السرعة المدهشة في زيادة الإنتاج وفيضان السوق الأوروبية والغربية برمتها ومخازنها بالبترول وتخلي الحكام عن سياساتهم التي كانت معتمدة للحد من إهدار الطاقة، هذه المادة النادرة، والقابلة للنفاد عن قريب، والتي هي بمثابة الشريان الرئيسي الذي يمد الحياة إلى كافة المرافق الحيوية، ليس في الغرب وحده، بل في العالم أجمع، بعد أن أصبحت بفعل التدويل، على النمط الغربي في كافة متطلبات الحياة.‏
وأين هو القانون الذي كان لا بد أن يعمل في ظل الانتعاش الاقتصادي العالمي لينعكس -كما كان في السابق- بارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية بدل انخفاضها؟!..‏
إن هذا الانخفاض الفاحش لأسعار الطاقة والمواد الأولية الأخرى، كان -في الواقع- هو الذي أدى إلى انخفاض معدلات التضخم في البلدان الغربية إلى مستوى لم تشهده من قبل (من العشرينات إلى الرقم الواحد أو الرقمين)، هذا، بينما تصاعدت في البلدان المسروقة أضعافاً مضاعفة لدرجة أصبحت كلفة الحياة فيها تفوق كلفتها في البلدان الغربية إلى حدٍ كبير، مع الاختلاف الفاحش بمستوى الدخل (من عشرات إلى مئات المرات). وهكذا، فقانونهم في العرض والطلب يسرق المواد الأولية وثروات شعوبهم بأسعار شبه مجانية، ويسرق دخول هذه الشعوب التافهة ببضائعهم الباهظة الثمن.‏
فكيف لنا ألا نتصور أن هذا النظام سوف يؤول بالقسم الأكبر من بلدان العالم إلى الدمار الكامل، وإلى شعوبها بالإبادة جوعاً وسقماً وبلاءً...!؟‏
- قوانين توزيع الدخل.‏
إن هذه القوانين، كما شرحها ريكاردو وغيره من الأقطاب الكلاسيكيين، تقضي بتخصيص جزء من الإنتاج أجراً للعامل يحدد وفقاً لقيمة المواد الغذائية القادرة على إعاشته والاحتفاظ بقواه للعمل، ويقسم الباقي على شكل: ربح، وفائدة، وريع .‏
لقد استخلص الاقتصاد الرأسمالي من ذلك أن للأجور قانوناً حديدياً لا يمكن بموجبه أن تزيد الأجور أو تنقص، وإن زادت أو انخفضت كمية النقد التي يتسلم بها العامل أجره تبعاً لارتفاع قيمة المواد الغذائية وهبوطها.‏
ويتلخص هذا القانون الحديدي في أن العمال إذا ازدادت أجورهم لسبب ما، فسوف تتحسن حالتهم المعيشية ويقدمون بصورة أكثر على الزواج والتناسل، فتكثر الأيدي العاملة، ويتضاعف العرض، فتنخفض الأجور إلى الحد الطبيعي.‏
وإذا حدث العكس أدى ذلك إلى انتشار البؤس والمرض في صفوفهم، فيقل عددهم وتنخفض كمية العرض، فترتفع الأجور.‏
وبهذا، فقد بات الإنسان في ظل الحرية الرأسمالية نفسه سلعة خاضعة لقوانين العرض والطلب، وأصبحت الحياة الإنسانية رهناً لهذه القوانين، وبالتالي رهن القانون الحديدي للأجور. فإذا زادت القوى البشرية العاملة، وزاد المعروض منها على مسرح الإنتاج الرأسمالي، انخفض سعرها لأن الرأسمالي سوف يعتبر ذلك فرصة حسنة له على حساب أتعاب الآخرين، فيهبط بأجورهم إلى مستوى لا يحفظ لهم حياتهم، كما قد يقذف بعدد هائل منهم إلى الشارع يقاسون آلام الموت جوعاً، لا لشيء إلا لأنه يتمتع بحرية غير محدودة. والأمل الوحيد الذي تقدمه الرأسمالية للطبقة العمالية المذكورة هو في انخفاض عددهم بسبب تراكم البؤس والشقاء والموت من الجوع، لكي يقل عددهم، ويزيد الطلب عليهم على العرض لترتفع أجورهم وتتحسن أحوالهم.‏
هذا القانون الذي يتقدم به إلينا الاقتصاديون الكلاسيكيون بوصفه تفسيراً علمياً، وقانوناً طبيعياً للحياة الاقتصادية، لا ينطبق، في الحقيقة -إلا على المجتمعات الرأسمالية التي لا يوجد فيها ضمان اجتماعي عام، ويعتمد التسعير فيها على جهاز السوق. أما في مجتمع يسود فيه مبدأ الضمان الاجتماعي العام لمستوى حياة كريمة كالمجتمع الإسلامي، أو في مجتمع يلغي فيه جهاز السوق ويجرده من وظيفته في تحديد الأسعار تبعاً لنسبة العرض إلى الطلب، كالمجتمع الاشتراكي، فلا تتحكم فيه تلك القوانين أصلاً.‏
والآن، بعد أن فاضت سوق العمل الغربية بالأيدي العاملة -على مختلف المستويات- الوافدة من كل حدبٍ وصوب، بسبب الحروب الدائرة في كل مكان بين الشركات العالمية الأمريكية والأوروبية، بأيدي الشعوب نفسها، وما تمخص عن النظم الاقتصادية المفروضة على العالم من استهتار بالإنسان وتشريده وتجويعه، فإن إجرة العامل هبطت -في كل مكان- إلى دون ما يسمى بعتبة الفقر، خالية من أي ضمان صحي أو اجتماعي، كما أصبح العامل معرضاً للطرد في أية لحظة كانت، وأعتقد أن لذلك أيضاً علاقة بانهيار المعسكر الاشتراكي، فلم يعد هناك من خطر يهدد النظام الرأسمالي من دولة العمال وثورة العمال، بل أصبح العكس هو الصحيح، فالعولمة الأمريكية ومنافستها الأوروبية قد أعلنتا الحرب الطبقية على العمال، وفازت بها...!‏
وهكذا، فإن الهيكل العلمي للاقتصاد الرأسمالي ليس له صفة القوانين العلمية الموضوعية، فلم يبق منه إلا الإطار المذهبي.‏
ب- الاقتصاد الرأسمالي كمذهب‏
يرتكز المذهب الرأسمالي على أركان ثلاثة رئيسية هي:‏
حرية التملك، وحرية الاستغلال- وحرية الاستهلاك‏
1- الأخذ بمبدأ الملكية الخاصة بشكل غير محدود:‏
فالملكية الخاصة، في هذا المبدأ، هي القاعدة العامة التي تمتد إلى كل المجالات، وميادين الثروة المتنوعة، على العكس من المذهب الاشتراكي، ولا يجوز الخروج عنها إلا بحكم ظروف استثنائية، تضطر أحياناً إلى تأميم بعض المشاريع. ويتكفل القانون في المجتمع الرأسمالي بحماية الملكية الخاصة، وتمكين المالك من الاحتفاظ بها.‏
2- حق كل فرد باستغلال ملكيته وتمكينه من ذلك، والسماح له بتنمية ثروته بمختلف الوسائل والأساليب التي يتمكن منها.‏
وتستهدف هذه الحرية أن تجعل الفرد العامل الوحيد في الحركة الاقتصادية، إذ ما من أحد أقدر منه على معرفة منافعه الحقيقية وطرق اكتسابها.‏
3- ضمان حرية الاستهلاك.‏
فلكل فرد الحرية في إنفاق ماله كما يشاء واختيار نوع السلع التي يستهلكها، ولا يمنع ذلك لجوء الدولة -في بعض الأحيان- إلى منع بعض السلع، مثل المخدرات.‏
والسؤال الذي يقفز إلى مجال البحث هو: ما هو الهدف من الحرية الاقتصادية؟‏
والجواب على ذلك -حسب الاقتصاديين الرأسماليين يتلخص فيما يلي:‏
1- لأن مصالح الفرد التي يندفع إلى تحقيقها بحرية كاملة ودوافع ذاتية محضة، تتوافق مع مصالح المجتمع، فالحرية -على هذا الأساس- ليست إلا أداة لتوفير تلك المصالح العامة، وضمان ما يتطلبه المجتمع من خير ورفاه.‏
2- لأن الحرية الاقتصادية هي أفضل قوة دافعة للقوى المنتجة، وأكفأ طريقة لتفجير الطاقات والإمكانيات وتجنيدها لزيادة الإنتاج ومضاعفة الثروة الاجتماعية.‏
3- وهناك فكرة ثالثة ذات طابع خلقي محض وهي: إن الحرية، بوجه عام، هي حق إنساني أصيل، وتعبير عملي عن الكرامة البشرية، وعن شعور الإنسان بها. فليست هي أداة للرفاه الاجتماعي أو لتنمية الإنتاج فحسب، وإنما هي تحقيق لإنسانية الإنسان ووجوده الطبيعي الصحيح. والآن لنستعرض من خلال التطبيق مدى توافق النتائج التي توصلت إليها الحرية الاقتصادية في النظام الرأسمالي مع أهدافها.‏
1- مفهوم الحرية كوسيلة لتحقيق المصالح العامة.‏
ذكرنا أن هذه الفكرة ترتكز على أساس الإيمان بأن الدوافع الذاتية تلتقي دائماً مع المصالح العامة والرفاه الاجتماعي، شرط أن تعمل في جو من الحرية المطلقة المجردة من كل قيد من القيم الروحية أو الخلقية، لأنها حرية حتى في تقدير هذه القيم. فالأفراد أحرار في التقيد في تلك القيم أو رفضها.‏
فعن طريق التنافس الحر بين مختلف المشاريع الإنتاجية، يعمل صاحب المشروع بدافع من مصلحته الخاصة على تحسين مشروعه والاستزادة من كفاءته حتى يحتفظ بأسبقيته على سائر المشاريع. وأن جزاء من يتخلف عن هذا السباق هو إفلاس مشروعه. فالمنافسة الحرة في النظام الرأسمالي سيف مسلط على رقاب المنظمين يطيح بالضعيف والمهمل والمتكاسل، ويضمن البقاء للأصلح.‏
لقد أصبح اليوم حديث التوافق بين المصالح العامة والدوافع الذاتية في ظل الرأسمالية والحرية المطلقة أدعى للسخرية منه للقبول. فالمنافسة الحرة من كل قيد، لم تؤد -في الواقع- إلى إشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة ممكنة، بل إلى تخفيض نفقات الإنتاج بأقل أجر ممكن لليد العاملة ونقل الإنتاج للخارج، وتسريح العمال، وإعادة الهيكلة. فعلى سبيل المثال، إن أكثر بلدان العالم إنتاجية وثراء (أمريكا) أصبحت أكثر اقتصاديات العالم سرقة للأجور. فالمنافسة المتصاعدة تسببت في إصابة ما يزيد على نصف السكان بالفزع. ففي عام 1995 حصل أربعة أخماس مجمل المستخدمين والعمال الذكور في الولايات المتحدة الأمريكية، عن كل ساعة عمل، على مبلغ تقل قيمته الشرائية عما كانوا يحصلون عليه عام 1973 بمقدار 11%، أي أن المستوى المعيشي الفعلي للغالبية العظمى للشعب الأمريكي قد انهار في العقدين الأخيرين مع بلوغ أمريكا مرتبة "أكثر اقتصاديات العالم إنتاجية"، وفرحة كلينتون بالازدهار الذي يعم الاقتصاد الأمريكي "على نحو لا مثيل له منذ ثلاثين عاماً". هذا، علماً بأن الأجر قد انخفض بالنسبة للثلث الأدنى في سلم الدخول على نحو أشد مما سبق: فهذه الملايين من السكان صارت تحصل على أجر يقل بمقدار 25 % عما كان سائداً قبل عشرين عاماً.‏
وهذا لا يعني أن المجتمع الأمريكي، إجمالاً، هو الأفقر. إذ لم يسبق أبداً أن حاز الأمريكيون على ما يحوزون عليه اليوم من الثروة والدخول. إلا أن المشكلة تكمن فقط في أن النمو المتحقق هو برمته من حصة الخمس الثري، أي من حصة العشرين مليون عائلة لا غير، حسب الإحصاءات.‏
وحتى في إطار هذه الفئة يتوزع الدخل توزيعاً غير عادل على نحو شديد للغاية. فواحد بالمائة من أثرى العائلات تضاعف دخلها مرات عديدة منذ 1980. وهكذا، أضحى أغنى الأغنياء، أي حوالي نصف مليون مواطن يمتلكون اليوم ثلث الثروة التي يمتلكها الأهالي في الولايات المتحدة الأمريكية. وانعكست هذه الثمار على مديري المشروعات الكبيرة. الذين ارتفع دخلهم، العظيم أصلاً، بشكل صاف بمقدار 250% خلال السنوات السبع الأخيرة.‏
ويحصل غالبية هؤلاء المديرين الكبار على رواتبهم العالية إكراماً لما يبذلون من جهد يرمي إلى تخفيض تكاليف العمل من ناحية الأجور، بكافة السبل بما فيها الانتقال من الوطن إلى أي بقعة من بقاع العالم.‏
فعلى سبيل المثال، تشغل المشروعات الأمريكية في المكسيك ما يقرب من نصف مليون عامل بأجر يقل عن دولار واحد في اليوم. أضف إلى هذا، أن هؤلاء العاملين لا يحصلون على أية مدفوعات اجتماعية كالتأمين الصحي أو الضمان الاجتماعي. وفي كافة القطاعات طور المديرون القياديون استراتيجيات يستطيعون من خلالها تفادي تأسيس أية تنظيمات تدافع عن مصالح العاملين لديهم. وكما قال lester Thurou (لستر ثارو): "إن بوسع المرء أن يدعي أن من في أمريكا من رأسماليين، قد أعلنوا الحرب الطبقية على عمالهم، وأنهم قد فازوا بها".‏
والسؤال الذي يفرض نفسه في الوقت الحاضر، إذا كان هذا هو عليه الحال في أمريكا، قلب الحرية النابض؛ فإلى أي مدى يمكن أن تضمن الدوافع الذاتية للرأسماليين فيها تحقيق المصالح العامة في مختلف المجتمعات.‏
وبمعنى آخر، هل تتوافق المصالح الخاصة للمجتمع الرأسمالي مع مصالح غيره من المجتمعات البشرية، وخاصة بعد أن مد أجنحته لتطال، عن طريق العولمة، كل بقعة من بقاع العالم، مع ما ذكرنا من تجرده المذهبي من كل الإطارات الروحية والخلقية. ألسنا نعيش في الوقت الحاضر نظام السخرة واستعباد الشعوب في أراضيها لحسابه واستعبادها لقضاء دوافعه الذاتية فقط؟!‏
والواقع التاريخي للرأسمالية هو الذي يجيب على هذا السؤال.‏
فكلنا يعلم ما قاسته الإنسانية على أيدي المجتمعات الرأسمالية نتيجة لفراغها الروحي، وانهيارها الخلقي. فالحرية الاقتصادية التي لا تحدها حدود معنوية، هي من أفتك أسلحة الإنسان بالإنسان، وأفظعها إمعاناً في التدمير والخراب. لقد كان من نتاج هذه الحرية مثلاً، تسابق الدول الأوروبية بشكل جنوني على استعباد البشر الآمنين وتسخيرهم في خدمة الإنتاج الرأسمالي. وتاريخ أفريقيا وحدها صفحة من صفحات ذلك السباق المحموم، تعرضت فيه القارة الأفريقية لطوفان من الشقاء، إذ قامت دول عديدة كبريطانيا، وفرنسا، وهولندا وغيرها، باستيراد كميات هائلة من سكان أفريقيا الآمنين، وبيعهم في سوق الرقيق، وتقديمهم قرابين للعملاق الرأسمالي. وكان تجار تلك البلاد يحرقون القرى الأفريقية ليضطر سكانها إلى الفرار مذعورين، فيقوم التجار بكسبهم وسوقهم إلى السفن التجارية التي تنقلهم إلى بلاد الأسياد. وما قيام بريطانيا، فيما بعد بحملة واسعة ضدهم وضد القرصنة، إلا تمهيداً لقرصنتها وحدها، حيث أتت بأسطولها الفخم إلى سواحل أفريقيا، واحتلت مساحات كبيرة على الشواطئ الغربية وبدأت بعملية استعباد لا نظير لها في التاريخ.‏
ومن العبودية والاستعمار البريطاني، عانت القارة خلال مدة نصف قرن خلت من فظائع الحروب والانقلابات على أيدي النظامين المسيطرين على العالم، الشرقي والغربي على السواء. وبقيت تتأرجح من أيدي الماركسيين إلى أيدي ما يسمى بالديموقراطيين، مع كل ما تبع ذلك من قلب بنياتها رأساً على عقب، وتبديد ثرواتها، ونهك قيمها الروحية والفكرية، وسرقة كل ما هو ضروري لحياة شعوبها. وها هي تحت ظل نظام العولمة الجديد، تحل فيها قرصنة أمريكا بأجلى صورها. فمع اعتذار الرئيس الأمريكي كلينتون لها من التاريخ، تشعل فيها الحروب الطاحنة من كل حدبٍ وصوب بين الشركات الأمريكية، الغازين الجدد، والشركات الأوروبية الغزاة التقليديين، ل****** ثرواتها المعدنية الدفينة، هذه الحروب التي تجري بأيدي شعوبها بالذات وباسم الديموقراطية والحرية..!‏
فهل لنا أن نعتقد بأن الحرية الرأسمالية. التي تعمل دون أي اعتبار روحي أو خلقي، بإمكانها أو تستطيع تحويل جهود البشر في سبيل مكاسبهم الخاصة، إلى آلة تضمن المصالح العامة والرفاه للجميع؟!...‏
وهذا، في الواقع، لا يقتصر على أفريقيا وحدها، بل يشمل جميع أنحاء العالم التعيس. فحمى التخصيص، في ظل العولمة، وما يرافقها من تسريحات عشوائية للعمال، نتيجة الصهر والإندماج للمؤسسات الإنتاجية والمرافق العامة، والسلب لقواهم الشرائية وحقوقهم الاجتماعية والصحية.. الخ، لم تستثنِ أي بلد على الإطلاق، وهي بصفتها حرب ضارية على الطبقة العاملة، ليست كبقية حروب الطبقات التي شاعت منذ أوائل القرن حتى الآن؛ ذلك أنها تصيب ما يزيد على 95% من الجنس البشري على وجه الكرة الأرضية، بعد أن نسف من الوجود كل منتج خاص أو تقليدي، وتحول القسم الأعظم منها، في كافة فروع الإنتاج إلى عمال، واقتصرت الفعاليات الاقتصادية على الشركات العالمية في كل مكان. وهكذا، تحولت الرأسمالية إلى سلاح جاهز بيد الأقوياء يشق لهم الطريق، ويعبد أمامهم سبل المجد والثروة على جماجم الآخرين...!‏
2- الحرية سبب لتنمية الإنتاج‏
لا بد لإيضاح هذا الخطأ الجسيم من عرض بعض نتائج تنمية الإنتاج في ظل الحرية الرأسمالية:‏
لنتساءل أولاً: ما هي المشاريع التي نما إنتاجها في ظل الحرية المطلقة المقرونة بألوان لا حصر لها من الظلم والاستهتار والجشع والطمع؟!‏
إنها -بدون شك- المشاريع القوية التي حطمت غيرها من المشاريع (دون حاجة إلى تأميم)، وبدأت بالاحتكار تدريجياً إلى أن قضت على كل لون من ألوان التنافس وثمراته في مضمار الإنتاج. وتحولت بذلك المنافسة إلى صفر.‏
فالتنافس الحر الذي يواكب الحرية بالمعنى الذي يسمح بزيادة الإنتاج، لا يواكب الحرية والرأسمالية إلا شوطاً محدوداً، ثم يخلي الميدان بعد ذلك للاحتكار، الذي ينجم عنه تراجع النمو الاقتصادي نتيجة الجشع والطمع من جهة المنتجين، وتضاؤل القوة الشرائية لدى المستهلكين، وهكذا فإن النظام الاستهلاكي يقضي على المستهلكين...!‏
إن الزيادة في الإنتاج -في الواقع- لم تقترن بانخفاض الأسعار، لفقدان المزاحمة رغم انخفاض كلفة الإنتاج بسبب انهيار أسعار المواد الأولية، وسرقة حقوق العمال، ولم تترافق بتوفير قدر أكبر من السعادة للمجتمع الرأسمالي نفسه، نظراً لسوء التوزيع الذي رافق الوفرة في الإنتاج.‏
والمذهب الرأسمالي أعجز ما يكون عن امتلاك الكفاءة التوزيعية التي تضمن رفاه المجتمع وسعادة الجميع. فالرأسمالية -في الواقع- تعتمد في التوزيع على أساس جهاز الثمن. وهذا يعني أن من لا يملك ثمن السلعة ليس له الحق في الحياة. وبذلك يحكم بالموت جوعاً على من كان عاجزاً عن اكتساب هذا الثمن لعدم قدرته على المساهمة في الإنتاج، أو لعدم تهيئة فرصة له للمساهمة، أو لوقوعه فريسة في يد المساهمين الأقوياء الذين سدوا في وجهه كل الفرص. ولهذا كانت بطالة الأيدي العاملة في المجتمعات الرأسمالية من أفجع الكوارث الإنسانية في المجتمعات الأخرى.‏
فليست المبالغة في كفاءة المذهب الرأسمالي وقدرته على تنمية الإنتاج إلا تضليلاً وستراً للجانب المظلم منه، والذي يحكم بالحرمان من التوزيع على من لا يحصل على القطع السحرية من النقود.‏
فما الفائدة إذاً من زيادة الإنتاج إذا لم يقترن بالرفاه الاجتماعي العام؟ إن الرفاه العام لا يتعلق بكمية الناتج العام، بمقدار ما يتعلق بكيفية تقسيم هذا الناتج على الأفراد. ولذا فقد قرن الإسلام وشريعته الإلهية التنمية بالتوزيع كما سنرى فيما بعد.‏
3- الحرية تعبير عن الكرامة الإنسانية‏
أي بوصفها المظهر الجوهري للكرامة وتحقيق للذات اللذين ليس للحياة بدونهما أي معنى. والمراد بالحرية الجوهرية توفير القدرة والوسائل والشروط التي تعين الفرد على النجاح في عمله كإنسان في ظل الحرية.‏
والرأسمالية، في الواقع، بعيدة كل البعد عن هذه الحرية بالمعنى الجوهري، وتقتصر على الحرية الشكلية، أي حرية أصحاب الثروات الضخمة في الاستزادة من ثرواتهم بالطرق التي تتفق مع مصالحهم الشخصية، وحريتهم في استخدام العامل أو رفضه، وحرية رجال السلطة في استخدام أتباعهم في أعلى المراكز، ولو لم يملكوا من المؤهلات ما يسمح لهم بذلك وحريتهم في تحويل الخطأ إلى صواب والصواب إلى خطأ، وحريتهم في كم الأفواه التي لا توافقهم، وشطب العلوم التي ليست من مصلحتهم.. الخ.‏
وهكذا، فإن هذه الحرية الشكلية لا تتأتى إلا لعدد ضئيل جداً من الشعب، بحيث تحولهم -لشدة المبالغة في الحرية- إلى صفة الهمجية، في الوقت الذي يراد منها أن تمثل الصفة الأولى للإنسانية.‏
فتحت اسم نظام السوق الغوغائي تتحكم في العالم أجمع، في الوقت الحاضر طبقة ضئيلة جداً من الشبان المراهقين، دون علم ولا خبرة ولا إحساس بالمسؤولية، مدعومة بأجهزة تكنولوجية على درجة كبيرة من السرعة والفعالية، ولا تخضع لسيطرة أية حكومة، حتى في أمريكا نفسها، حامية هذا النظام. ويكفي أن يعلن أي مسؤول عن حصول تباطؤ في أي رقم من الفعاليات الاقتصادية في بلاده، حتى تقوم بنزح كل ما لديها من أموال، غدت خفيفة الحركة لاعتمادها على الأسهم والسندات والمضاربات بها وبالعملات، وتؤدي بالبلد، في لمح البصر إلى الإفلاس*.‏
أما بقية أفراد الشعب، فالحرية الشكلية التي تؤمنها لهم لا تعدو السماح لهم بممارسة مختلف ألوان النشاط الاقتصادي في سبيل الغايات التي يسعون إلى تحقيقها دون أن تعينهم على ذلك.‏
إن إقرار هذا النوع من الحرية الشكلية، يعني عدم إمكان وضع مبدأ لضمان العمل للعامل، أو ضمان المعيشة لغير العامل من العاجزين، لأن وضع مثل هذه الضمانات لا يمكن أن يتم بدون تحديد تلك الحريات التي يتمتع بها أصحاب العمل وأرباب الثروة.‏
وهو ما يتنافى مع مبدأ الحرية الشكلية التي تسمح لكل شخص بالتصرف في المجال الاقتصادي كما يريد. ولما كانت الرأسمالية تؤمن بهذا المبدأ، فقد وجدت نفسها مضطرة إلى رفض فكرة الضمان أي فكرة الحرية الجوهرية. ولكن!... لقد تبين -بما لا يدع أي مجالٍ للشك: "أن من يعمل ليعيش وحده، لا بد من أن يزول هو أيضاً، إن آجلاً أو عاجلاً، مع المجموع...‏
فالحرية -في الواقع- إن كانت نزعة أصيلة في الإنسان لأنه يرفض بطبعه القسر والضغط والإكراه، ولكن لا بد للإنسان من حاجات جوهرية لا معنى للحرية بدونها. فهو بحاجة -مثلاً- إلى شيء من السكينة والاطمئنان في حياته، لأن القلق يرعبه، كما ينغص حياته الضغط والإكراه. فإذا فقد كل الضمانات التي يمكن للمجتمع أن يؤديها له في حياته ومعيشته، خسر بذلك حاجة من حاجاته الجوهرية، وحرم من إشباع ميله الأصيل إلى الاستقرار والثقة، كما خسر حريته كاملة. فالتوفيق الدقيق والحكيم بين حاجة الإنسان الأصيلة إلى الحرية، وحاجته إلى الاستقرار مثلاً في العمل، والثقة في المستقبل، وسائر حاجاته الأصلية الأخرى في الحياة، هو العملية التي يجب أن يؤديها أي مذهب كان للإنسانية، إذا أراد أن يكون عالمياً قائماً على أسس راسخة من الواقع الإنساني.‏
وأخيراً، فإن موقف الرأسمالية من الحرية والضمان ينسجم كل الانسجام مع الإطار العام للتفكير الرأسمالي، لأن الضمان ينطوي على فكرة تحديد حريات الأفراد والضغط عليها، ولا تستطيع الرأسمالية أن تجد لهذا الضغط والتحديد مسوغاً على أساس مفاهيمها العامة عن الكون والإنسان.‏
إن الضغط والتحديد في الإسلام، يستمد -في الواقع- مبرره من الإيمان بسلطة عليا تمتلك حق تنظيم الإنسانية وتوجيهها في حياتها، ووضع الضمانات المحددة لحريات الأفراد، على ضوء الدين الحنيف، إذ يرى أن للإنسان خالقاً حكيماً من حقه أن يصنع له وجوده الاجتماعي، ويحد طريقته في الحياة لصالحه وصالح الإنسانية جمعاء.‏
أوجه الالتقاء بين الماركسية والرأسمالية‏
بعد كل ما تقدم، لسنا بحاجة إلى كثير من الجهد لنبين أن الرأسمالية مقرونة بالحرية المطلقة، تلتقي مع المذهب الماركسي في عدة نقاط جوهرية:‏
- إن كلا النظامين أعطى القيمة الرئيسية في المجتمع لمالكي وسائل الإنتاج والمسيطرين عليها، وإن مصالح الإنتاج هي التي تحدد القيم التي تحكم المجتمع لا مصالح الإنسان.‏
- إن وسائل الإنتاج انحصرت في يد الأقوياء في النظامين، في يد رجال الحزب السياسي الذين يملكون السلطة السياسية في النظام الاشتراكي، وفي يد المحتكرين للإنتاج والذين يفرضون رجال السلطة السياسية في النظام الرأسمالي.‏
وبهذا، فإنهم يجمعون بين السلطة والمال بآن واحد في كلا النظامين*.‏
ويتساوى النظامان بتدويل نظاميهما وفرضهما على جميع بلدان العالم وشعوبها، وكأن العالم في كل مكان، ورغم بعد المسافات واختلاف العقول والثقافات والمعطيات، يعاني من ذات المشاكل وذات الهموم، ويتقبل ذات الحلول، حتى وإن ثبت أن هذه الحلول غير ناجعة في موطنهم بالذات. هذا، مع كل مازامن هذا التدويل من نبش وقلب للبنيات الأساسية من هذا النظام أو ذاك...‏
- أليست التحولات التي حصلت لصالح الاشتراكية في بلدان العالم الثالث عن طريق تجريد الزراع والصناع المحليين من وسائل رزقهم وإنتاجهم بغية خلق الطبقة الرأسمالية التي تستطيع أن تشيد المصانع والمزارع الكبيرة التي هي الطريق إلى الاشتراكية، حسب زعمها، أليست هذه التحولات هي نفسها التي فرضها أيضاً النظام الرأسمالي على هذه البلدان باسم التخلص من التخلف، لإحلال الإنتاج المؤسساتي -في الواقع- محلها لصالح الشركات العالمية، وباسم التطور والتقدم؟!...‏
- أليس في تجريد شعوب بلدان العالم الثالث من ثرواتها الطبيعية، ووسائل إنتاجها، ومهنها، وجعلها تابعة للخارج -في الشرق أو الغرب- ذات المفهوم من العبودية الذي تفسر به الماركسية تحول طبقة أسرى الحرب إلى عبيد للقبائل التي أثرت نتيجة استعبادهم؟‏
- ألم تعاني شعوب هذه البلدان من سيئات النظامين معاً: جهاز الحكم الدكتاتوري العسكري سياسياً، هبة الماركسية، الذي يبيح لنفسه القتل والسجن والطرد والتعذيب دون حكم أو محاكمة، ويستولي على الممتلكات ويغتصب الحقوق ويتوزعها بين أفراده، والجهاز الاقتصادي الذي لا يرى حرجاً باقتباس النهج الرأسمالي باشنع صوره، والذي يتيح للشركات العالمية الغربية الحرية المطلقة في قلب البلدان أعاليها أسافلها لإبادة كل أثر للإنتاج المحلي بكافة أنواعه، وإعداد البنيات التحتية التي تسهل لها إقامة مؤسساتها الإنتاجية البديلة، على حساب الكروم والبساتين والحقول، التي كانت تغذي الشعوب بأفضل أنواع المنتجات الزراعية وأرخصها*، لإيصال منتجاتها البديلة إلى كل بقعة من بقاع هذه البلدان، وتجعلها تابعة إليها في الغذاء والكساء وكافة الاحتياجات.‏
- أليس النظامان هما المسؤولان عن إلحاق عملية التفريغ المادي لشعوب بلدان العالم الثالث بالتفريغ الذاتي من الأسس التربوية والأخلاقية والثقافية والعلمية.. الخ وفرض الأسس الغريبة عنهم محلها، من الشرق أو الغرب -حسب الحال- مما جعل السكان الأصليين غرباء في أوطانهم، وعبيداً للأجانب في عقر دارهم؟‏
هذا، وإذا ما أفاد المذهب الماركسي في شيء، فإنه -مما لا شك فيه- قد أفاد المذهب الرأسمالي، وجعل المنتجين يغدقون بعطاءاتهم للعمال ليسدوا بذلك الطريق الذي يمكن أن تنفذ منه الشيوعية. وما أن زال خطر ثورة العمال المرتقبة، بزوال الاشتراكية نفسها في موطنها بالذات، حتى كشرت السلطات الرأسمالية عن أنيابها، وأخذت بتشليح العمال الضمانات الاجتماعية التي كانت قد منحتهم إياها، وتفننت بألوان التسريح التعسفي، واستغنت أكثر فأكثر عن العمال، وقلصت أجورهم إلى أدنى المستويات، وتحول ثلاثة أرباع المعمورة إلى فقراء..‏
وها هو ميخائيل كور****وف، أخذ يصحو -بعد فوات الأوان- من ثمالة أقداح انتصاره في حركته التصحيحية الميمونة، بعد أن نحي جانباً عشية تأديته واجبه كاملاً نحو أسياده ومخدريه، وأخذ يسير في جنازة شعبه نائحاً، بعد أن سدد له الطعنة المميتة، ليعلق في فندق "الفيرمونت" في سان فرنسيسكو عام 1995، رداً على سؤال أحد الصحفيين التالي:‏
"إن كنتم تعتقدون أن العالم برمته سيتحول إلى برازيل كبيرة، أعني إلى دول تسودها اللامساواة، مع وجود أحياء مقفلة تسكنها النخب الثرية؟"‏
فأجاب:‏
"إنكم بهذا السؤال تطرحون لب المشكلة على بساط البحث.. إنها لحقيقة أن روسيا نفسها أصبحت على شاكله البرازيل".‏
في الواقع، لقد تحول العالم أجمع إلى برازيل كبيرة... إلا أن هذا لا يعني أن الأسلاك الشائكة، والأجهزة الألكترونية، وكاميرات الليل والنهار، سوف تحمي إلى ما لا نهاية هذه القلة الضئيلة من الأثرياء المتخمين من الطوفان السكاني المتصاعد من الجائعين والمغتصبة حقوقهم والمحرومين، فثورة الجائعين لا ترحم...!‏
النتيجة.‏
وهكذا، يتبين لنا مما تقدم أن الاقتصاد كعلم قد خسر برهانه العلمي في النظرية الماركسية والرأسمالية على السواء، وأن الاقتصاد كمذهب، على العكس من الأهداف المرسومة له في كلا المذهبين الدوليين قد أثبت فشله في اكتشاف المشاكل الحقيقية التي تعاني منها الشعوب، لأنه بالأصل لا يهدف فعلاً إلى اكتشافها.‏
وبالتالي، فإن الحلول التي طرحت لمعالجة المشاكل الوهمية قد أتت على النظام الاشتراكي من أساسه، وأنها، مما لا شك فيه، سوف تأتي -إن آجلاً أو عاجلاً- على النظام الرأسمالي، فبذور انحلاله أخذت تترعرع فيه، وما الانفجارات المالية التي اندلعت في كل مكان من آسيا إلى أوروبا الشرقية، إلى أمريكا اللاتينية، وفي القريب العاجل إلى أوروبا الغربية، ومنها إلى كل مكان من المعمورة، سوف لا تستثني أمريكا، القلب النابض في هذا النظام، من الوقوف عن الخفقان...!‏
وإذا ما كان في تاريخ الإنسانية نظام يستحق أن يعم العالم أجمع لما يغدق على شعوبه من الخير والعدالة والإنسانية والأمان؛ فمما لا شك فيه، إنه النظام السماوي الذي طرحه الإسلام. لقد ضمن فعلاً، في عصوره الزاهرة تحويل شعوب الإمبراطورية الإسلامية التي امتدت في القسم الأكبر من الكرة الأرضية، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، إلى طبقة واحدة؛ ولكنها واحدة بسعادتها ورفاهيتها، ونبوغها، وإنسانيتها وتكافلها مع بعضها، لا إلى طبقة واحدة بشقائها، وفقرها، وتشردها وخوفها على حاضرها ومستقبلها ومستقبل أجيالها، كالنظام الرأسمالي العالمي الجديد... الذي هيمن على العالم وحده في الوقت الحاضر.‏
والتحديد للحرية في المجتمع الإسلامي لم يكن فقط لصالح المجتمع على حساب الفرد، ولا لصالح الفرد على حساب المجتمع، ولم يكن زجرياً بأكثريته بل كان يتكون في ظل التربية الخالصة التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع، ويصوغ شخصيته ضمنها. إن لتلك الإطارات قوتها المعنوية الهائلة التي توجه الأفراد توجيهاً صالحاً دون أن يشعروا بسلب شيء من حريتهم. ولذا، فإن هذا التحديد الذاتي لم يكن -في الحقيقة- تحديداً للحرية، وإنما هو عملية إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحر، إنشاءً صالحاً بحيث تؤدي الحرية في ظله رسالتها الصحيحة.‏
فبينما يقول القرن الثامن عشر: "لا يجهلن سوى الأبله، إن الطبقات الدنيا يجب أن تظل فقيرة، وإلا فإنها لن تكون مجتهدة" (آرثر يونج)؛‏
ويقول القرن التاسع عشر: "ليس للذي يولد في عالم تم امتلاكه حق في الغذاء إذا تعثر عليه الظفر بوسائل عيشه عن طريق عمله أو أهله، فهو طفيلي على المجتمع، ولا لزوم لوجوده، فليس له على خوان الطبيعة مكان، والطبيعة تأمره بالذهاب"(مالتوك)‏
يقول الإسلام قبل هؤلاء بألف سنة: "إن الفقر والحرمان ليسا نابعين من الطبيعة نفسها، وإنما نتيجة لسوء التوزيع والإنحراف عن العلاقات الصالحة التي يجب أن تربط الأغنياء بالفقراء"؛ ويقول علي كرم الله وجهه:‏
" ما جاع فقير إلا بما متع به غني"‏
إن هذا الوعي لقضايا العدالة الاجتماعية في التوزيع، لا يمكن أن يكون وليد المحراث والصناعة البدائية اليدوية، رداً على مفهوم المادية التاريخية، ولا وليد الحرية المطلقة في استغلال الإنسان لأخيه الإنسان المشروطة في النظام الرأسمالي، إنه يكمن في الإنسان ذاته، الإنسان الذي رباه الإسلام فأحسن تربيته، والذي تعتبره كافة الأديان السماوية خليفة لله في الأرض...!‏
فما هو الإسلام؟‏
وما هي حقوق الإنسان في الإسلام؟.‏
* فإلى متى سيعيش هذا النظام؟! مما لا شك فيه، أن المبالغة في التطرف التي وصل إليها، سوف تقضي على النظام ذاته بذاته. فبذور إنحلاله تترعرع فيه. وها هي الأنظمة المتفرعة عنه تتداعى تباعاً؛ من النمور الآسيوية والأعجوبة اليابانية، إلى الدول الاشتراكية منذ أن بزغ فيها أول شعاع من الحرية، فدول أمريكا اللاتينية، وملوك الذهب الأسود والأصفر.. والبقية تأتي.. دون أن تستثني كلاً من أوروبا وأمريكا اللتين بدأت بوادر الانهيار فيهما بالظهور خلال عام 1999. والخسارة الباهظة في أسواق سندات"الاقتصاد التكنولوجي الجديد" (ناسداك)عام 2000‏
* وإن كان المنتجون الحقيقيون الأصليون في ظل النظام الاشتراكي قد انقرضوا عن طريق التأميم والطرد والثورات الدامية، فإن الكارتلات الإنتاجية الضخمة قد ابتلعتهم سلمياً، في النظام الرأسمالي، وحولت قسماً منهم إلى أجراء، وقذفت بالقسم الباقي إلى الطرقات.‏
* في الواقع، إن هذا النمط نفسه، كان متبعاً في الاتحاد السوفياتي وكافة الدول السائرة في ركابه. فالصناعات التي كانت قائمة في هذه البلدان كانت تعتمد اعتماداً كلياً على استيراد التكنولوجيا الغربية، وكذلك بالنسبة لإبادة الأراضي الزراعية وحرمان الفلاحين من زراعتها. وهذا ما جعلها ترزح تحت وطأة الديون المتراكمة، والحرمان من المواد الغذائية بكافة أصنافها، وجعلها تحت رحمة النظام الرأسمالي في تغذية شعوبها، ذلك النظام الذي أولى الزراعة في بلاده المكان الأول، واستلم مقاليد الأمن الغذائي في العالم أجمع بيده من ورائها.‏
ومما يجعلنا نشك في نوايا المسؤولين عن السلطة والتوجيه الاقتصادي في النظام الاشتراكي، واحتمال تعاونهم الضمني مع نظرائهم الغربيين في هذا المجال، أن الاتحاد السوفياتي كان أول من احتل الفضاء في العالم..وأن بلداً يملك أعلى درجات التكنولوجيا هذه، كيف يعجز عن صناعة ما يلزمة لتكنولوجيا الإنتاج الصناعي والزراعي، وتأمين استقلاله عن الغرب. وخاصة الغذائي، الذي هو أمنع أنواع الاستقلال؟! فكثيراً ما لجأت فرنسا حين وقوع خلافات سياسية بينها وبين الاتحاد السوفياتي، إلى شن حرب اقتصادية عليه، بحرمانه من تكنولوجيتها العالية (مثال احتلال السوفييت لأفغانستان)، كما كانت، وما زالت أمريكا تمنع عنها الحبوب في حالة عدم إنصياعها لخططها، كما تحارب لهذا الغرض كلاً من ليبيا، والعراق وإيران...!‏
__________________

عندما يعلن بعض العلمانيين انكارهم لوجود الله أصلا, فلم يعد هناك مجال للكره, بل أتبرى منها و ألعنها. عندما يعلن بعضهم أن الله موجود و لكن اختصاصاته لا علاقة لها بحياة الانسان, هنا أيضا أنا أتبرى و ألعن ..عندما تصبح الفلسفة النفعية البراغماتية ركيزة للعلمانية, و مبادئ الميكافيلية روحا لها, هنا أغلق الباب في وجها..عندما تدعو الى فصل الدين عن الدولة و السياسة, و تقيم العالم على أساس مادي قبيح, هنا أحس بمدى خبث سريرتها